المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نظرية عبد القاهر الجرجاني: - في الميزان الجديد

[محمد مندور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الأدب المصري المعاصر:

- ‌النقد ووظائفه:

- ‌بجاليون والأساطير في الأدب

- ‌سوء تفاهم وفن الأسلوب:

- ‌أرواح وأشباح الشعر والأساطير:

- ‌نداء المجهول والأدب الواقعي:

- ‌زهرة العمر وحياتنا الثقافية:

- ‌الأدب المهموس

- ‌الشعر المهموس "‌‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌يا نفس" لنسيب عريضة:

- ‌ النثر المهموس:

- ‌أمي" لأمين مشرق:

- ‌حول ترنيمة السرير:

- ‌الشعر الخطابي:

- ‌إيضاح أخير:

- ‌ الهمس في الأناشيد:

- ‌مناهج النقد - تطبيقها على أبي العلاء

- ‌الأدب ومناهج النقد

- ‌النقد الذاتي والنقد الموضوعي

- ‌مشكلة المعنى:

- ‌أبو العلاء والنقد:

- ‌أبو العلاء ورسالة الغفران:

- ‌رسالة الغفران:

- ‌مساجلات جورجياس المصري:

- ‌المعرفةوالنقد - المهج الفقهي

- ‌الشعراء النقاد

- ‌المعرفة والنقد:

- ‌نظرية عبد القاهر الجرجاني:

- ‌النظم عند الجرجاني:

- ‌الذوق عند الجرجاني:

- ‌خلط بين القيم:

- ‌مناقشات لغوية:

- ‌اللغة والتعريب:

- ‌عثرت به وعثرت عليه

- ‌حول أصول النشر:

- ‌كتاب قوانين الدواوين "1

- ‌كتاب قوانين الدواوين "2

- ‌أوزان الشعر

- ‌الشعر الأوروبي

- ‌ الشعر العربي:

- ‌فهرست الموضوعات:

الفصل: ‌نظرية عبد القاهر الجرجاني:

‌نظرية عبد القاهر الجرجاني:

يخيل إليَّ أنه لا سبيل إلى الوقوف عند الكليات في مناقشة منهج الدراسة في الأدب، فها هو صديقنا الأستاذ خلف الله يرى أن ما أدعو إليه جاهدا لا يختلف إلا قليلا عما يقول، وأنا لا ريب يسرني أن أكون على وفاق تام مع الصديق، بل ومع كافة البشر؛ ولكنني أخشى أن يكون الخلاف أعمق مما يظن، وإن كان ثمة ما يخفف عن نفسي، فهو أننا نقتتل لغاية شريفة.

والذي أدعو إليه هو استقلال الأدب عن غيره من مظاهر نشاطنا الروحي، استقلاله بموضوعه ومناهجه، ولي في استقلال الفلسفة التي كانت تشمل قديما كل أنواع المعرفة أسوة حسنة. وأما ما يدعو إليه الصديق فذلك ما لا علم به؛ لأنه هو نفسه لم يستقر به على تحديده، وكم أود لو واجهنا الصديق برأي متميز يناهض به رأيي، إذن لاهتزت جوانحي فرحا، ولقلت ها نحن قد نضجت ملكاتنا فأصبحت لنا اتجاهات نؤيدها ويؤيدها معنا من يرى الأشياء كما نراها، وبهذا تكون لنا مدارس أدبية كما كانت لغيرنا من الشعوب.

يريد الأستاذ خلف الله أن يأخذ الأديب من كل شيء بطرف: علم النفس وجمال واجتماع، وأنا أعوذ بالله أن أكون عدوا للمعرفة، ولو أن أديبا أخبرني أنه يدرس الفك لشجعته على المضي في دراسته؛ لأن المعرفة -أي معرفة- إن لم تنفع كما يقولون فلن تضر ما حجزناها عن الأدب، وموضوع الخطر هو أن نقحم على دراستنا معارف أقل ما فيها من إضلال هو صرفنا عن أن نركز نظرنا في الأدب كفن لغوي، واهمين أننا نجدده إذ نتناوله بمبادئ علوم أخرى. وأما النظريات اللغوية، وأما علوم اللغة ومناهج اللغة، فذلك موضع دراستنا الذي نعتز به ونرى فيمن يستطيعه على نحو ما استطاعه عبد الظاهر كنزا ثمينا، المنهج الذي أدعو إليه هو المنهج الفقهي -منهج فقه اللغة- وسوف نرى ذلك المنهج يبتدئ بالنظر اللغوي لينتهي إلى الذوق الأدبي الذي هو لا شك متحكم في كل ما يمت إلى الأدب بصلة، وسواء في ذلك أردنا أو لم نرد.

ولنتخذ في إيضاح ما نريد سبيل البواقي، فندل بضرب المثل على ما ليس من

ص: 145

منهجنا، ولتكن أمثلتنا من بين المسائل النفسية التي عالجها صديقنا وغيره من النقاد المصريين، ولنكتف بمثلين: دراسة شخصية الحجاج التي نشرها الأستاذ خلف الله "بالثقافة" ومسألة التصغير عند المتنبي كما نشرها الأستاذ العقاد في "المطالعات".

درس الأستاذ خلف الله خطب الحجاج فوجده رجلا ورعا قوي الإيمان من جهة، قاسيا صلبا من الجهة الأخرى، وذكر أن بعلم الأمراض النفسية شيئا اسمه "ازدواج الشخصية" بل وفطن إلى أن هذه الحقيقة العلمية قد استخدمت في الأدب نفسه، فكتب أحد الروائيين الإنجليز قصة بعنوان "دكتور جيكل آند مستر هيد"1، وفيها يصور المؤلف رجلا يعمل بالنهار كطبيب شريف رقيق، وفي الليل ينقلب شريرا مجرما. وما دام الحجاج قد جمع إلى التقوى الصرامة فهو إذن مزدوج الشخصية، وهو -في رأي الأستاذ- مثل قديم "لدكتور جيكل آند مستر هيد". وهذا مثل لتطبيق مبادئ علم النفس على الأدب، مثل ذلك نرى فيه إغراء المذهب وإفساد الفكرة لحقائق النفوس، وهو بعد لا يقل إسرافا وخطرا وخطأ عن محاولة برونتير تطبيق مبادئ التطور على الأدب كما رأينا في المقال السابق. الحجاج أقوى شخصية من الازدواج. الحجاج نفس مؤمنة تتعصب لما تؤمن به، والتعصب قسوة، نفس قوية بوحدتها.

نظر الأستاذ فوجد الحجاج يقول: "إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها

وإني

وإني

"، وذكر أن في علم نفس الأطفال مرحلة تسمى التركيز الآني "ego- centrisme" وهي تلك التي يرد فيها الأطفال كل شيء إلى أنفسهم، كأن العالم الخارجي امتداد لذواتهم، وكأنهم جزء لا ينفصل عن ذلك العالم حتى يتم لهم إدراك انفصال أجسامهم عن غيرهم وتمييزها عما سواها، وها هو الحجاج يكثر من استعمال ضمير المتكلم، وإذن فلا بد أنه ولوع بذاته، مركز للعالم في آنيته، وهذا مثل ثانٍ لطغيان علم النفس على الأدب. وأنا بعد لا أرى في هذا ذاتية ما، وإنما هي حماسة قلب تلتمس من طرق الأداء وما يشفيها، ذلك ما يحدثني به المنهج الفقهي -المنهج الطبيعي المستقيم.

وكذلك يفعل الأستاذ العقاد، فهو بلا ريب يعلم ونعلم معه أن المتنبي كان

1 "دكتور جيكل آند مستر هيد" هكذا كتب الأستاذ خلف الله في الثقافة، وأنا بعد لا أدري لماذا لم يترجم حرف العطف "آند And" بالواو فيقول "دكتور جيكل ومستر هيد" وأنا قد أفهم على مضض إصراره على استخدام لفظة "سيكولوجية". وأما "آند" بدلا من واو العطف فذلك ما لا أقبل به.

ص: 146

رجلا معتزا بنفسه، وهو قد لاحظ أن المتنبي يكثر من استعمال التصغير، فما عليه إلا أن يقيم علاقة نفسية بن الظاهرتين فيعلل تصغير المتنبي بتكبره، وهذا أيضا من طغيان النفسيات على الأدب، والنفسيات في ذاتها ليست شرا، وإنما الشر يأتي من طريقة استخدامها وبخاصة في عصرنا الحالي، حيث يريد أصحابها أن يعطوها صفة العلم بما يستتبع ذلك من تعميم قوانين لا يمكن أن تنطبق على الأدب، الذي هو -كما قلت وسأقول دائما- مفارقات دقيقة تحتاج في إدراكها إلى ما يسميه بسكال "Pascal" لطافة الحس "esprit de finbesse" أكثر من احتياجها إلى التفكير الهندسي "esprit de geometrie".

ولننظر عن قرب في رأي الأستاذ العقاد؛ وذلك لأنه يبدو لأول وهلة ظاهرة الوجاهة، والمتنبي لا نزاع في أنه متكبر، كما لا نزاع في أنه قد هجا "الشويعر" و"كويفير" و"الخويدم" و"الأحيمق" بل "وأهيل عصره". والتصغير في رأي النحاة كثيرا ما يكون للتحقير، وإذن فالمتنبي يريد بالتصغير أن يحقر خصومه، وهو يحقرهم لأنه متكبر؛ وهنا يتسلل الخطأ إلى التفكير النفساني؛ وذلك لأني لا أظن أن التصغير في شعر المتنبي كان لتكبره، وإنما هو أداة من أدوات الهجاء يعرفها كافة شعراء هذا الفن في الأدب العربي وفي غيره من الآداب. أداة لصيقة بفن أدبي بذاته لا وليدة لطبيعة نفسية عند من يستخدمها، وليست هناك رابطة تلازم بين التكبر والتصغير، حتى ولا في شعر المتنبي نفسه، وهو قد استخدمه للتعظيم، قال:

أحاد أم سداس في أحاد

لييلتنا المنوطة بالتنادي

ومعنى الشطر الأول أن الليلة كانت طويلة حتى خيل للشاعر أنها لم تكن ليلة واحدة بل سبعا، وإذا كان هذا طولها فكيف يصغرها فيقول:"لييلتنا"؟ ولقد سئل المتنبي نفسه في ذلك "الوساطة - طبعة صبيح ص339": هذا تصغير التعظيم، والعرب تفعله كثيرا، قال لبيد:

وكل أناس سوف تدخل بينهم

ودويهية تصفر منها الأنامل

أراد لطف مدخلها فصغرها، وقال الأنصاري: أنا عذيقها المرجب وجذيلها المحكك، فصغر وهو يريد التعظيم، وقال آخر:

يا سلم أسقاك البريق الوامض

والديم الغادية الفضفاض

وإذن فالمتنبي قد استخدم التصغير في غير التحقير، بل استخدمه في ضده. ومن هذا نرى أن العلاقة بين التكبر والتصغير غير مطردة حتى يستقيم التفسير

ص: 147

بفرض إمكان ذلك. وفي الحق أن التصغير لا يفيد التحقير والتعظيم والتلميح وما إليها فحسب، بل يفيد ألوانا لا حصر لها من العواطف، وأنه لمن الخطأ أن نأتي بتفكيرنا الهندسي فنعمم على غير احتياط. ونحن لسوء الحظ لم نعد نحس اللغة العربية الفصحى، وهذا يقودنا إلى أخطاء كثيرة لا يمكن أن يعصمنا منها نحو ولا بلاغة، ولنفكر جميعا في الإحساسات المختلفة التي يثيرها في أنفسنا تصغيرنا العامي في قولنا مثلا:"حتة ولد" و"حتة نتفة ولد"، ولنتصور الملابسات العديدة التي يقول فيها شعبنا أمثال تلك الجمل، لندرك المفارقات الدقيقة التي أشرت إليها، هناك وسائل كثيرة تحتال بها اللغات على تلوين أفكارنا ذلك التلوين الذي لا تحمله ولا يمكن أن تحمله مفردات اللغة، وإنما نلحقه بها بفضل التنغيم في الكلام، وبحيل بلاغية في الكتابة، والتصغير إحدى تلك الحيل، ذلك ما يحدثني به المنهج الفقهي، وأما منهج العلم النفسي فيرى أن تصغير المتنبي كان لتكبره!

هذه الأمثلة أسوقها للتدليل على النتائج البعيدة التي تترتب على استخدام مناهج العلوم الأخرى، أو مبادئها في دراسة الأدب. الأدب فن لغوي كما قلت، فمنهجهه هو المنهج الفقهي الفني كما فهمه عبد القاهر الجرجاني وطبقه في "دلائل الإعجاز". والآن ما هو ذلك المنهج؟

منهج عبد القاهر يستند إلى نظرية في اللغة، أرى فيها -ويرى معي كل من يمعن النظر- أنها تماشي ما وصل إليه علم اللسان الحديث من آراء، ونقطة البدء نجدها في آخر "دلائل الإعجاز"؛ حيث يقرر المؤلف ما يقرره علماء اليوم من أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ بل مجموعة من العلاقات "Systeme des reapports".

على هذا الأساس العام بنَى عبد القاهر كل تفكيره اللغوي الفني، قال: "إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينهما فوائد، وهذا علم شريف وأصل عظيم، والديل على ذلك أن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها؛ لأدي ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لنعرفها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنا نجهل معانيها، فلا نعقل نفيا ولا نهيا ولا استفهاما ولا استثناء، وكيف والمواضعة لا تكون ولا تتصور إلا على معلوم، فحمال أن يوضع اسم لغير معلوم، ولأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك إذا قلت: خذ ذاك، لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار

ص: 148

إليه في نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها؛ كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له. ومن هذا الذي يشك أنا لم نعرف الرجل والفرس والضرب والقتل إلا من أساميها؟ لو كان ذلك مساغا في العقل لكان ينبغي إذا قيل زيد أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذكر لك بصفة

وإذ قد عرفت هذه الجملة فاعلم أن معاني الكلام كلها معانٍ لا تتصور إلا فيما بين شيئين، والأصل والأول هو الخبر، وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع، ومن الثابت في العقول والقائم في النفوس، أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه، ومن ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء. وكنت إذ قلت: اضرب، لم تستطع أن تريد منه معنى في نفسك من غير أن تريد الخبر به عن شيء مظهر أو مقدر، وكان لفظك به إذا أنت لم ترد ذلك وصوت تصوته سواء.

1-

أن الألفاظ لم توضع كما أنها لا تستعمل لتعين الأشياء المتعينة بذواتها، وهذه هي نظرية الرمزية في اللغة التي أوضح المفكر الألماني فنت Wundt1 حدودها؛ وذلك لأنه لدينا عن طريق تجاربنا المباشرة أو تجارب الغير صورة ذهنية لكل شيء ولكل حدث، وإنما نضع ألفاظ اللغة ونستعملها لنحرك هذه الصورة الذهنية الكامنة، فعندما نقول:"رجل" لا يمكن أن يثير هذا اللفظ في نفوسنا شيئا، ما لم يكن في ذهننا صورة الرجل، اللفظ رمز لها ومحرك.

2-

ونحن لا نستخدم ذلك اللفظ لنحرك الصورة الذهنية تحريكا نريده لذاته، وإلا كنا مجانين، وإنما نفعل ذلك لأننا نعتزم أن نخبر عن "الرجل" بشيء ما، وهنا يلحق الجرجاني بأكبر مدرسة حديثة في تحليل اللغة، أعني مدرسة العالم السويسري الثبت رأس علم اللسان الحديث فردينانمد دي سوسير F. de Saussure2 ثم اللغوي الفرنسي الذائع الصيت أنتوان مييه "A. Meillet" ولقد كتب هذا العالم الأخير فصلا3 هاما عن منهج الدراسة

1 بنوع خاص في كتاب ضخم "10 أجزاء" عن "نقسية الشعوب".

2 راجع دروسه التي نشرها تلاميذه بعد موته بعنوان: "دروس في علم اللسان العام". ولعل هذا الكتاب أعمق ما كتب في ذلك العلم وأغناه وأوضحه.

Cours de linguistique generale 3 eme edition Paris -Payot 1931.

3 هو أحد فصول مجموعة من المقالات الطويلة كتبها علماء مختلفون كل في مادته، ونشرت في مجلدين عند ألكان Alcain بعنوان "مناهج العلوم" De la methode dans les sciences وقد ترجمنا الفصلين الخاصين بـ"اللغة" و"الأدب" ونشرتهما دار العلم للملايين ببيروت في كتاب بعنوان "منهج البحث في الأدب واللغة".

ص: 149

في علم اللسان، وفيه يرد اللغة إلى عنصرين:"أ" مفردات" "ب" عوامل الصيغة Morphemes. والمفردات معروفة وهي كلفظة "رجل"، وأما عوامل الصيغة فيقصد بها إما ترتيب الكلمة في الجملة، وإما مقطع صوتي كالتنوين في "رجل"، وإما علامة الإعراب، وإما أداة نحوية كالألف واللام في "الرجل". فهذه العوامل هي التي تعطي اللفظة دلالتها التي نقصد إليها عند تفوهنا بالكملة؛ وذلك لأننا -كما يقول الجرجاني- لا ننطق بلفظة ما إلا لكي نخبر بها أو عنها بشيء، ومن ثم فحن ننطق بها مضافا إليها حتما عوامل الصيغة من ترتيب أو مقاطع صوتية خاصة. فالرفع لإفادة الإسناد، والألف واللام للتعريف، والابتداء لكذا وكذا، ونحن بعد لا نكتفي بلفظ واحد إلا أن يكون جوابا لسؤال أو اعتمادا في كلام سابق أو ملابسة راهنة، وإنما نقول "رجل" ثم نخبر عنه فنضيف "جاء" مثلا، ومن ثم تكون مفردات اللغة لا قيمة لها في ذاتها؛ لأنها لا تكتسب دلالتها المقصودة إلا بفضل عوامل الصيغة.

وإذن فمفردات اللغة ليست إلى رموزا لصور ذهنية محصلة من قبل، وهي لا تستخدم لذاتها بل لتقيم بفضل عوامل الصيغة التي تضيفها إليها طائفة من العلاقات بين الأشياء أو بين الأشياء والأحداث، وهنا ننتهي إلى ما أجملناه في قولنا: اللغة مجموعة من العلاقات لا مجموعة من الألفاظ.

عن هذا "العلم الشريف والأصل العظيم" فرَّع الجرجاني كل آرائه، وجمعها مسألتان؛ الأولى: إنكاره لما رآه الجاحظ من أهمية فصاحة الألفاظ باعتبار تلك الفصاحة صفة في اللفظ ذاته؛ ثم ثورته على مذهب العسكري الذي يرد جودة الكلام إلى محسنات لفظية تقف عند الشكل. الثانية: تعليقه جودة الكلام بخصائص في النظم: "واعلم أنه ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت

هذا هو السبيل، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا، وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع له، فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية أو فضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه.

ص: 150

فأما مخالفته للحاجظ فباستطاعتنا أن نقره عليها، وإذا ذكرنا أن الجاحظ وغير الجاحظ من أدباء العرب ونقادهم لم يصفوا فصاحة اللفظ ولا عنوا فيها إلا بالصفات السلبية كالخلو من التعقيد والتنافر وما إلى ذلك، والبحث الحديث قد أصبح اليوم يرى للألفاظ قيمة ذاتية إيجابية من حيث ما يوحي به جرس حروفها من إحساس يعزز المعنى المعبر عنه، ومن غريب الأمر أن النحاة وعلماء اللغة قد فطنوا إلى أن بعضا من ألفاظ اللغة كانت أسماء أو أفعال أصوات، كما منهم من اهتدى بالاستقراء حقائق لغوية تلوح صحيحة، وأضرب لذلك مثلا ما ذكره الزمخشري في الكشاف عندما قرر أن كل أفعال اللغة العربية التي تبتدئ بنون وفاء تفيد المضي والنفاذ، كقولنا نفد ونفذ ونفر ونفق ونفض

إلخ، ومع ذلك فإنهم لم يستخدموا تلك الحقائق في نقد الأدب ليوضحوا على أساس لغوي - ما يهتدي إليه الشعراء والكتاب بغرائزهم الصادقة، عندما يؤثرون لفظا على لفظ، وفقا للمعنى الذي يريدون العبارة عنه. لقد كتب الأوربيون كتبا في إيضاح أسرار الشعراء والكتاب اللغوية فتراهم1 يحصون أنواع الأحرف الصائتة Voyelles والأحرف الصامتة Consonnes في البيت الجيد من الشعر، ويقيمون بينها نسبا يستخرجون بفضلها ما يسمونه "بالانسجام الصوتي" harmonoie vocaliques الذي ينتج عن توزيع الأحرف الصامتة، ثم "انسجام المحاكاة" harmonie imitaitve الذي ندركه من مطابقة الإحساس الذي يخلفه في النفس وقع الأحرف الصامتة المختلفة للإحساس الذي لدينا عن الشيء الذي نتحدث عنه، على نحو ما توحي السينات المتتابعة مثلا بصفير الريح، ولكن هذه كلها أبحاث حديثة ليس لنا أن نتطلب مثلها من نقادنا القدماء.

والجرجاني أشد إصابة في نقده لآراء العسكري السقيمة، فهو يرى "أن في كلام المتأخرين كلاما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليبين، ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على

1 راجع كتاب موريس جرامون M. Grammont عن الشعر الفرنسي، طرق أدائه وانسجامه.

:Le vers francais: ses moyens، d'expression son harmonie ، paris 1917.

وهو من خير ما كتب النقاد العماء العصر الحديث.

ص: 151

المعنى وأفسده، كمن يثقل العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها. "أسرار البلاغة ص6" وهو يلاحظ "أنك لا تجد تجنيسا مقبولا، ولا سجعا حسنا حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق نحوه، وحتى تجده لا تبتغي به بديلا ولا تجد عنه حولا، ومن هنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه، وأحقه بالحسن وأولاه، ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه، وتأهب لطلبه، أو ما هو لحسن ملاءمته، وإن كان مطلوبا بهذه الصورة".

وأما نظرية النظم عن الجرجاني فنظرية كبيرة هامة. وعنده أن دراسة النظم لا تقف عند أمر الصحة بل تعدوه إلى تعليل الجودة. وبعبارة أخرى: يمزج الجرجاني "النحو" بما سماه البلاغيون فيما بعد "علم المعاني" وله في ذلك حكمة بالغة تقتضينا أن نفصل القول في ذلك.

ص: 152