المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مشكلة المعنى: وكما يرجع ذوق ابن قتيبة إلى رأي في العلاقة - في الميزان الجديد

[محمد مندور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الأدب المصري المعاصر:

- ‌النقد ووظائفه:

- ‌بجاليون والأساطير في الأدب

- ‌سوء تفاهم وفن الأسلوب:

- ‌أرواح وأشباح الشعر والأساطير:

- ‌نداء المجهول والأدب الواقعي:

- ‌زهرة العمر وحياتنا الثقافية:

- ‌الأدب المهموس

- ‌الشعر المهموس "‌‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌يا نفس" لنسيب عريضة:

- ‌ النثر المهموس:

- ‌أمي" لأمين مشرق:

- ‌حول ترنيمة السرير:

- ‌الشعر الخطابي:

- ‌إيضاح أخير:

- ‌ الهمس في الأناشيد:

- ‌مناهج النقد - تطبيقها على أبي العلاء

- ‌الأدب ومناهج النقد

- ‌النقد الذاتي والنقد الموضوعي

- ‌مشكلة المعنى:

- ‌أبو العلاء والنقد:

- ‌أبو العلاء ورسالة الغفران:

- ‌رسالة الغفران:

- ‌مساجلات جورجياس المصري:

- ‌المعرفةوالنقد - المهج الفقهي

- ‌الشعراء النقاد

- ‌المعرفة والنقد:

- ‌نظرية عبد القاهر الجرجاني:

- ‌النظم عند الجرجاني:

- ‌الذوق عند الجرجاني:

- ‌خلط بين القيم:

- ‌مناقشات لغوية:

- ‌اللغة والتعريب:

- ‌عثرت به وعثرت عليه

- ‌حول أصول النشر:

- ‌كتاب قوانين الدواوين "1

- ‌كتاب قوانين الدواوين "2

- ‌أوزان الشعر

- ‌الشعر الأوروبي

- ‌ الشعر العربي:

- ‌فهرست الموضوعات:

الفصل: ‌ ‌مشكلة المعنى: وكما يرجع ذوق ابن قتيبة إلى رأي في العلاقة

‌مشكلة المعنى:

وكما يرجع ذوق ابن قتيبة إلى رأي في العلاقة بين اللفظ والمعنى، كذلك يستند إلى إحدى المسلمات الأخرى، وهي ضرورة حمل البيت لمعنى من المعاني. وبمراجعة الأمثلة التي أوردها يخيل إليَّ أنه يقصد بالمعنى أحد أمرين:

1-

فكرة.

2-

معنى أخلاقيا.

فأما الفكرة فبدليل أنه ينتقد الأبيات الآتية لخلوها فيما يقول من كل معنى مفيد:

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

وشدت على حدب المطايا رحالنا

ولا ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطي الأباطح

إذ من الواضح أن هذه الأبيات الجميلة التي نثرها ابن قتيبة بقوله: "ولما قطعنا أيام منى واستلمنا الأركان وعالينا إبلنا الانضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث، وسارت المطي في الأباطح" لا تحمل أية فكرة، وإنما هي قصص فني رائع، سبقنا الجرجاني في "دلائل الإعجاز" إلى إظهار ما بها من صور أخاذة، وخصوصا في الشطر الأخير "وسالت بأعناق المطي الأباطح".

ونستطيع أن نضيف إلى ذلك أن الآداب الأوربية الحديثة قد شهدت مذهبا قويا في أواخر القرن التاسع عشر، مذهب أمثال Hreedia هرديا و Goutier جوتييه ممن يقولون بالفن للفن، ويجعلون من أسس مذهبهم نظرتهم إلى اللغة نظرة المثالين إلى مقاطع الرخام، أولئك ينتزعون من اللغة صورا وهؤلاء تماثيل، مع ذلك لم يجرؤ أحد أن يقدح في أدبهم أو يخرجه من فنون الشعر لخلوه من المعاني، وقد رأينا أي دور تلعبه الصور في حياتنا النفسية التي تعذيها كل الفنون، كما رأينا في الأمثلة التي سقناها من الأعشى وغيره تفاهة ما بها من معنى تفاهة لم تنل مما بها من قيم فنية.

وأما تطلبه لمعنى أخلاقي فواضح من إعجابه بأمثال قول القائل:

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع

ص: 103

هذه النظرة -نظرة الفقيه ابن قتيبة- بدورها نظرة ضيقة؛ إذ من الواضح أن مادة الشعر ليست المعاني الأخلاقية، كما أنها ليست الأفكار، وأن من أجوده ما يمكن أن يكون مجرد تصوير فني، كما أن منه ما لا يعدو مجرد الرمز لحالة نفسية رمزا بالغ الأثر قوي الإيحاء؛ لأنه عميق الصدق على شخصيته، ولعلني لا أعرف لذلك مثلا خيرا من قول شاعرنا العربي الدقيق الحس ذي الرمة، وقد حط رحاله بمنزل الحبيبة وتفقدها فلم يجدها:

عشية ما لي حيلة غير أنني

بلقط الحصى والخط في الترب مولع

أخط وأمحو الخط ثم أعيده

بكفي والغربان في الدار وقع

فأي معنى يريد ابن قتيبة من هذه الصور الجميلة الصادقة، صورة شاعر أصابه الحزن بالذهول، فجلس إلى الأرض منهكا يائسا يخط ويمحو الخط بأصابع شرد عنها اللب، فأخذت تعبث بالرمال، وفي الغربان الواقعة بالدار ما يملأ الجو أسى ولوعة. وهل أصدق من هذا وصفا؟ وهل أقوى منه على إيحاء؟ ولعله صدقه في تناهي بساطته.

وهكذا يظهر لنا ما في نظرة ابن قتيبة من ضيق عندما يتطلب معنى في كل بيت من الشعر. كما ظهر لنا فساد رأيه في العلاقة بين اللفظ والمعنى، وفي هذا تفسير لضعف ما يسمونه ذوق هذا الناقد.

والأمر عند ابن قتيبة كالأمر عند غيره ممن نسمي منهجهم بالمنهج الذاتي، فأحكامهم القيمية تستند دائما إلى أحكام واقعية؛ بحيث نستطيع أن نخلص من هذا المقال بالنتيجة التي سبق أن عبرنا بأن الذوق ليس في الحقيقة إلا راسبا من رواسب العقل الخفية، وأن كل نقد ذاتي هو في حقيقته نقد تقريري.

ص: 104