المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الأدب المصري المعاصر: ‌ ‌النقد ووظائفه: الآن وقد نهض جيلنا يحق لنا -بل - في الميزان الجديد

[محمد مندور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الأدب المصري المعاصر:

- ‌النقد ووظائفه:

- ‌بجاليون والأساطير في الأدب

- ‌سوء تفاهم وفن الأسلوب:

- ‌أرواح وأشباح الشعر والأساطير:

- ‌نداء المجهول والأدب الواقعي:

- ‌زهرة العمر وحياتنا الثقافية:

- ‌الأدب المهموس

- ‌الشعر المهموس "‌‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌يا نفس" لنسيب عريضة:

- ‌ النثر المهموس:

- ‌أمي" لأمين مشرق:

- ‌حول ترنيمة السرير:

- ‌الشعر الخطابي:

- ‌إيضاح أخير:

- ‌ الهمس في الأناشيد:

- ‌مناهج النقد - تطبيقها على أبي العلاء

- ‌الأدب ومناهج النقد

- ‌النقد الذاتي والنقد الموضوعي

- ‌مشكلة المعنى:

- ‌أبو العلاء والنقد:

- ‌أبو العلاء ورسالة الغفران:

- ‌رسالة الغفران:

- ‌مساجلات جورجياس المصري:

- ‌المعرفةوالنقد - المهج الفقهي

- ‌الشعراء النقاد

- ‌المعرفة والنقد:

- ‌نظرية عبد القاهر الجرجاني:

- ‌النظم عند الجرجاني:

- ‌الذوق عند الجرجاني:

- ‌خلط بين القيم:

- ‌مناقشات لغوية:

- ‌اللغة والتعريب:

- ‌عثرت به وعثرت عليه

- ‌حول أصول النشر:

- ‌كتاب قوانين الدواوين "1

- ‌كتاب قوانين الدواوين "2

- ‌أوزان الشعر

- ‌الشعر الأوروبي

- ‌ الشعر العربي:

- ‌فهرست الموضوعات:

الفصل: ‌ ‌الأدب المصري المعاصر: ‌ ‌النقد ووظائفه: الآن وقد نهض جيلنا يحق لنا -بل

‌الأدب المصري المعاصر:

‌النقد ووظائفه:

الآن وقد نهض جيلنا يحق لنا -بل يجب علينا- أن نحصي التراث لنرى ماذا عمل من يكبرنا سنا، وماذا بقي علينا أن نعمل؛ لنسير على بينة كما ساروا، واثقين من أن مراجعة القيم ورسم النهج وتخطيط الأفق هو دائما من عمل الشباب عند نضجه؛ إذ سرعان ما تسلمنا الحياة بطول معاشرتنا لها إلى المحافظة، اللهم إلا أن نستثني العبقريات الفذة التي تظل شابة أبد السنين. ومن البين أنه لا بد في كل نزعة ثائرة محددة من شيء من السذاجة أو ما يسميه الناس سذاجة، نستطيع معها أن نستخف بالصعوبات، وأن نعمى ولو مؤقتا عما نستهدف له من أخطار، عندما نجاهد في سبيل الحق من بأيديهم القوة والبطش.

والناظر في أدبنا الحديث يلحظ أن الجيل السابق قد نجح في شيء وأخفق في أشياء.

وأكبر ظواهر الإخفاق فيما يبدو هو خضوع ذلك الجيل لضغط الهيئة الاجتماعية، نعم إنني لا أجهل أن امتداد الزمن بالحياة كثيرا ما ينتهي بنا إلى الصلح معها، فالشيوخ عادة أكثر رضا وتفاؤلا من الشبان الساخطين المتشائمين، كما أعلم أن طول التجارب كثيرا ما يبصرنا بحدود للممكنات لم نكن نفطن لضيقها أيام حداثتنا، بل إن كل تجربة عبء يثقل خطانا. وأضيف إلى ذلك أنه قد يكون من الخير لحياتنا الاجتماعية أن ترتد هجماتنا عن بعض المقومات التي في نهوضها ضرورة لاستقامة الأمور واطرادها على نحو يشفع فيه الثبات لما عداه، وبالنفس من اليقظة ما يبصرنا بأن للحياة المادية قسوة كثيرا ما تلين أصلب العزم، وثمة الطموح وإغراء الشهرة وسحر الجاه وشهوة السلطة الزمنية وما إلى ذلك من نزعات، ولكني رغم كل هذا أتساءل: ما بال معظم كتابنا قد انتهوا بالكتابة عن "محمد"؟ أهو إيمان من يشعر باقترابه من اليوم الآخر؟ ذلك ما نرجوه. ولكن ثمة أمر لا شك فيه، هو أننا قد وصلنا إلى درجة التزمت. ولكن هالني يوما أن أرى أحد كتابنا المعروفين باتساع الأفق يدعوني إلى أن أسقط من حديث لي بالراديو كلمة "حوريات" ترجمة لعرائس الغابات المعروفة في الأساطير

ص: 8

اليونانية، خوفا من أن يتهمني أحد بالمروق عن الدين لاستعمال لفظة وردت في القرآن، وأنا بصدد الحديث عن خرافات الوثنية اليونانية!!

إذن بقي لنا أن نعود إلى التقاط الأسلحة التي ألقاها سابقونا، وأنا نناضل دون حرية الرأي وكرامة الفكر البشري وتقديس حقوقه غير باغين ولا معتدين.

وكان نجاحهم أوضح ما يكون في المجال الفني؛ إذ استطاعوا أن ينتقلوا بالنثر العربي الحديث -بل بالشعر- في السنوات العشر الأخيرة من اللفظ العقيم إلى التعبير المباشر ومن الصنعة إلى الحياة: "من حديث عيسى بن هشام" إلى "دعاء الكروان". وكان "للديوان" وأمثاله من كتب سابقينا في هذا التطور فضل كبير، ولقد استطاعوا أن ينقلوا معنى الأدب وفن الكتابة، كما يفهمه الأوربيون إلى المتخلفين منا؛ بحيث لم يعد اليوم لأنصار المذهب اللفظي السقيم في بلادنا نفوذ يذكر.

وسار الزمن سيرته فلم نعد نرى "موازين" حتى أصبح النقد، إما سبابا أو إعلانا، فهذا يريد أن يحطم "الأصنام"، والجمهرة العظمى لا هَمَّ لها إلا أن تُرضي هذا أو ذاك بالإعلان عن كتبه إعلانا متنكرا في صيغة النقد الأدبي، وأكبر ظني أن معظم هؤلاء النقاد المحترفين لا يقرءون ما يكتبون عنه فيما عدا العنوان وبعض صفحات.

وليس هذا بالنقد الذي يستطيع الجمهور أن يثق به فيعمد إلى قراءة ما يستحق أن يقرأ أو رؤية ما يجب أن يرى من مسرحيات وأفلام، على نحو ما نرى في المجلات الأوربية التي تحرص -في الباب العام الذي تخصصه للنقد- على الأمانة في هداية الجمهور أمانة مستنيرة صادقة الذوق.

وليس هذا بالنقد الذي يدرس عن قريب ما يريد أن ينقد، فيولد ما فيه من معانٍ يضعها تحت بصر القارئ الذي لا يملك عادة من الوقت ولا من الخبرة ما يستطيع معه أن يستخرج من النص كل ما فيه، بل إن الناقد الحقيقي ليضيف إلى النص الشيء الكثير، يخلقه خلقا بفضل ما في الكتب الجيدة من قدرة على الإيحاء، وهذا من حقه بل من واجبه ما دام لا يتعسف فيخرج المعاني غير مخرجها أو يحملها ما لا تطيق. وفي الحق أن النقد الجيد خلق جديد؛ إذ سيان أن نحس ونفكر ونعبر بمناسبة كتاب أو بمناسبة حادثة أو مشهد إنساني، وكل تفكير لا بد له من مثير.

وليس هذا بالنقد الذي يستطيع أن يساهم في توجيه الأدب وجهة الأمانة العقلية والصدق في العبارة، وما أحوجنا إلى الأمانة والصدق في كل مظاهر نشاطنا المادية والروحية، وهما في مجال الروح ألزم. والأدب فيما أرى أقوى عامل في مراجعة القيم وتفنيد باطلها من صحيحها، والأدب أسلم مناهج حياتنا، وإنه لمن الإجرام أن ننزله منزلة السلع فنجامل هذا الكاتب أو ذاك بأن

ص: 9

نتحدث عن كتابه، كما نعلن عن "صابون النمر" أو "اسبرو الروماتيزم"، وذلك في غير نفع لأحد، فالكاتب نفسه لا يخدعه هذا النفاق، وإلا كان من الغفلة بحيث لا يستحق أن يسمى كاتبا، والجمهور قد طالت خديعته حتى استيقظ ففقد الثقة في الكثير مما يقرأ عن الكتب والكتاب.

وأنا أعلم ما في هذه الصفحات من جهد، ولكني أقدمت لغرضين: أولهما أن أكون هاديا لجمهور القراء، أسبقهم إلى قراءة ما يقع تحت يدي من الكتب. فإن وجدت فيها خيرا أظهرت ذلك الخير، ودعوت غيري إلى مشاطرتي إياه، إن لم أجد حدثت القراء عن تجربتي لعلها تنفع، ولو في تلك الحدود الضيقة التي يفيد الناس من تجارب غيرهم، وثانيهما أن أكون عونا للكاتب الجيد على أن يؤدي رسالته لدى الجمهور، سواء أكان هذا الكاتب ناشئا ينبعث عنه الأمل أم منتهيا قد وفق إلى أن يخلف على رمال الزمن وقع أقدامه.

وإنه ليسرني أن أقود الجمهور خلال ما يكتب أدباؤنا الذين انتهوا إلى أوج المجد، ولكن على شرط ألا يقع هؤلاء الكتاب فريسة لنجاحهم نفسه، فتعقم نفوسهم بالزهو وتفسد أمانة عقولهم، فلا يأخذون أقلامهم بالجهد معتمدين على ما اكتسبوا من مجد أو شهوة، وكم لدينا من كتاب قد أصبحنا نحس أنهم لا يشقون في العناية بما يكتبون، ولا في التفكير فيه؛ لوثوقهم -فيما يظنون- من إقبال الجمهور عليهم، ولو كانت كتابتهم هذرًا وسخافة. وأصحاب المطابع والمجلات يقبلون بلهفة ما يقدمون إليهم؛ إذ يضمنون من ورائه الرواج المادي بفضل حمق الجمهور في تعلقه بالأسماء، أكثر من تعلقه بقيمة ما يقرأ. وفي هذا استخفاف بعقلية القراء اليقظين ذوي النظر السليم، كما أن فيه قضاء مبرما على الكُتَّاب أنفسهم، وخسارة كبيرة تنزل بتراثنا الروحي وثقافتنا الراهنة التي نريد أن نبنيها بناء أصيلا، والتي ما زلنا عند الحجارة الأولى من أساسها. وكتابنا الأفاضل يعلمون حق العلم أن أول واجباتهم إن كانوا حريصين على المجد الحقيقي، المجد الذي يفلت من طوفان الزمن، المجد الباقي لا تهريج الجماهير -هو أن يأخذوا أنفسهم بالجهد المتصل والمراقبة المستمرة والقسوة اليقظة في المقال وفي الكتاب؛ بل في الحديث إلى الناس مجرد حديث يتبدد أنفاسا، فالتفكير أمر شاق والعبارة عنه أشق.

فليحذورا إذن أنفسهم وليحذورا النجاح.

وثمة مشكلة السينما والراديو والمجلات والجرائد، والذي لا شك فيه أن هذه

ص: 10

الوسائل قد احتلت في حياتنا -بل حياة كل الشعوب- مكانا لا يدانيه مكان الكتاب. والأمر في بلادنا أوضح؛ إذ نرى الإقبال على المشاهدة والاستماع أكبر من الإقبال على القراءة، وذلك بحكم قانون أقل الجهود الذي يسيطر على حياة الكسالى من أمثالنا أشد سيطرة. والقراءة على قلتها لا تكاد تمتد إلى الكتب القوية، بل تقتصر على الجرائد والمجلات التافهة، وهذه حالة محزنة يجب التماس علاج لها، وأنا لا أشك في أن للمسألة الاقتصادية وفقر الناس دخلًا في هذه الظاهرة، ولكني أعتقد أن هناك ما يمكن عمله من الناحية الثقافية أيضا، وذلك بكسب النقد لثقة الجمهور ثم دعوته إلى القراءة، ففيها ما يرفع القلوب ويهذب الإحساسات وينير العقول ويربي الخلق، بل فيها ما يجدد الحياة ويذهب بمللها.

وأمر السينما والمسرح والراديو والكثير من المجلات متروك بين أيد أخشى ألا تستطيع أداء رسالتها، بل إنها قد لا تعرف أن لها رسالة، وهذا إجرام في حق الشعب وحق الوطن؛ ولهذا يجب أن يُعْنَى بها النقاد، فهي وإن تكن أشياء فانية عابرة محدودة الأثر في تثقيف الشعوب ثقافة حقيقية، إلا أنها واسعة الانتشار شديدة الضرر، وليس من شك في أنه من الواجب أن نساهم في تجميل حياة مواطنينا وحمايتها والدفاع عنها إلى جانب ما نستطيع أن نكتب لأنفسنا أو للخواص من الناس.

وبعد فقد حقق الجيل السابق ما استطاع تحقيقه، وها نحن بدورنا نسعى إلى أن نخطو الخطوة الأخيرة ليدخل الأدب المصري المعاصر والتفكير المصري المعاصر في التيار الإنساني العام.

وسبيل ذلك هو بلا ريب الإخلاص لأنفسنا، فلكل نفس فيما أعتقد أصالتها، ولعل في النقد ما يساعد تلك النفوس على إدراك ما تمتاز به من عناصر تنميها فتُؤتي ثمارها.

وأكبر نقص في أدبنا -على ما أعتقد- وهو بعده عن الألفة Intimacy فهو قلما يهمس. وهل لذلك من سبب غير ضعف الإخلاص فيه وغلبة المهارة عليه، سواء في الصياغة أم في التفكير.

كثير من كتابنا في حاجة إلى التواضع بل إلى السذاجة؛ ليأتي أدبهم مهموسا على نحو ما أتت معظم الآداب الخالدة.

هذا، وكثير من كتابنا على الدولة أن تنجو بهم من ضرورات الحياة؛ لكي يحسوا لأنفسهم ويفكروا لأنفسهم في هدوء واستجمام، وعندئذ سنجد أنفسنا فيما يكتبون.

ص: 11