الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أرواح وأشباح الشعر والأساطير:
جميل جدا أن نتخذ من الأساطير مادة للشعر، وقد سبقنا إلى ذلك شعراء كبار، ولكن على شرط أن ننجح كما نجحوا، وما يجوز أن نمل تكرار ما قلناه من وجوب تملك موضوعنا، كما تملكوه؛ إذ إننا لن نستطيع أن نخلق من أسطورة معروفة قِيَما فنية جديدة ما لم نتمثلها حتى تصبح جزءا من أصالتنا، ولا أدل على صحة ما نقول من النظر فيما فعل شعراء ثلاثة مختلفون بمناحيهم النفسية اختلاف شنييه وشيلي وكيتس.
شنييه شاعر فرنسي ولد لأم إغريقية غذته بالروح اليونانية الخالصة، فإذا به في سذاجة القدماء ورقتهم ولطف حسهم. تناول هذا الشاعر أساطير اليونان يقصها في يسر لا يبغي منها غير التأثير العاطفي الذي تحركه وقائع بسيطة يرويها بأسلوب سهل ونغمات سيالة؛ فهيلاس فتى جميل يذهب إلى النهر يستقي الماء في إناء، وتلمحه عرائس اليم فيقع في قلبهن، وما يزلن به إغراء وسحرا حتى يجتذبنه إلى المياه التي تطويه أمواجها، ويختفي الفتى وصوت صديق له يناديه. وفتاة تارنت جميلة حملتها القلاع إلى زوجها القصي، وفيما هي فرحة تبتسم للمستقبل، وقد نهضت بمقدم السفين، ترسل بصرها المشرف في آفاق السماء؛ إذ هبت عاصفة حملتها إلى اليم، وعصافير السماء تغرد فيزيدنا تغريدها شجوا، وهذا كل ما نجده عند شنييه: موسيقي وإحساس.
أما شيلي فعقل يفكر؛ ولذا لم يعنه من الأساطير غير معانيها الرمزية، وهو إلى جانب ذلك شاعر؛ ولذا نراه يعالج الفكر بأسلوب الشعر، وصور الشعر، وموسيقى الشعر، وهذا واضح في روايته عن "بروميثيوس" حيث يتخذ من هذه الشخصية الخرافية رمزا للبشرية التي تثور ضد ظلم الآلهة، وقد أصبحت الإنسانية عنده خيرا صراحا، وأصبحت الآلهة شرا عنيدا. ومن البين أنه لولا عبقرية شيلي الشعرية، لجاءت روايته باردة ميتة ككل شعر يصدر عن الفكر المجرد. وإذن فباستطاعة الشاعر الموهوب أن يجازف بقيثارته في عالم الرموز -على مشقته
وخطره- على أن يلون الإحساس الفكرة، وأن ترفع الصور الشعرية من استوائها البارد.
وكيتس يمثل اتجاها ثالثا، فهو شاعر الصيغ والأوضاع المجسمة، يرى بعض الأواني التي كانت توضع على قبور الموتى من الإغريق القدماء، ويتأمل فيما يحلي جوانبها من صور جميلة فيتبع ببصره خطوطها، وكأن بصره الريشة التي خلقتها، ويصف ما يرى فينفث فيه الحياة، إذا به يثير فينا ضروبا من الانفعال الفني فنشاركه إحساسه، بل نشارك الصور حياتها، وهو يسائل تلك الصور فنيطقها بأسرارها.
وهنا أنا اليوم في "أرواح وأشباح" للشاعر علي محمود طه، فأرى صورا مغرية وحيلا في الطباعة تهش لها العيون، ثم أفتح الكتاب وآخذ في القراءة فتنطوي النفس وينفر الإحساس.
وفيمَ الإغراب وأجمل الشعر أشده سذاجة؟! وفيمَ الزج بسافو وبليتيس وتاييس وتلك أسماء تاريخية أو خرافية، لها دلالتها في كل العقول؟ ومن عجب أن تبحث عن شيء من تلك الدلالة في أقوال كل منهن فلا نجد شيئا، وتلاحقك الصور التاريخية التي تعرف عنهن وأنت تقرأ فتتلف عليك إحساسك وتثير بك الغيظ! ولكم من مرة تتساءل: لِمَ هذه الأسماء الحبيسة في حقائقها التقليدية؟ وبودك لو أخذت قلمك ومحوتها من كل النسخ لتحل محلها أسماء أخرى، بل أرقاما إن عزَّت الأسماء الشعرية، ويبلغ بك الحنق أقصاه عندما تنظر في مقدمة القصيدة، فترى الشاعر قد قدم إليك هذه الشخصيات نثرا كما يعرفها الناس، وتنظر في الشعر علك ترى فيه إيضاحا لهن وتمشيا مع ما عرضه المؤلف عنهن في المقدمة فتحار ويذهب لبك. "فسافو" لم تعد الشاعرة الحسية التي نعرفها، وهي في أقوالها أقرب إلى الهدوء والنظر الفلسفي الذي يلتمس الأعذار ويحاول فهم النفوس، منها إلى الشاعرة الإغريقية المسرفة العنيفة "التي كانت تحس برغبات الحياة، تسيل تحت إهابها رعشة كلما رأت من تحب" وبليتيس عنده لا تمت إلى شاعره بيير لويس بسبب قريب أو بعيد، فأين التي تقبل على الرجال بحواسها الملتهبة من بليتيس شاعرنا التي كثيرا ما تثور فيها كبرياء النساء؟ وأخيرا أين تاييس التي ترقص وتذهب بألباب الرجال؟
وهرميس -أي خاصية من خواصه- نلمحها فيما عرض الشاعر، اللهم إلا أن تكون قيادته للأرواح؟ ونحن بعد لا ندري لم جعل منه المؤلف في مقدمته
"المكلف بقيادة الأرواح الأثيمة إلى الجحيم". والذي يعرفه كافة المثقفين عنه -ومعرفتهم هي الصحيحة- أنه "قائد الأرواح إلى العالم الآخر" وهو البسيكوبومبوس Psychopompos وهذه اللفظة اليونانية تترجمها القواميس الفرنسية عادة بقولها Conducteur des ames aux enfers ومعنى هذه الجملة هو ما ذكرت، فمصدر خطأ الأستاذ محمود طه ترجمته عن الفرنسية فيما أظن ترجمة غير صحيحة؛ إذ إن لفظة enfers في الجمع ليس معناها الجحيم، بل العالم الآخر إطلاقا، وإنما المفرد هو الذي يفيد هذا المعنى، وحيث فهم الأستاذ من كلمة enfers معنى الجحيم كان من السهل أن يضيف كلمة "الآثمة" للأرواح ليستقيم الكلام، ونحن لا نقف عند هذه الغلطة، فهي مهما تكن تافهة، ونحن الآن نتحدث عن محمود طه الشاعر لا محمود طه العالم بالفرنسية، أو الباحث في الأساطير، ومن العدل ألا نحاسبه إلا عن شعره فهو عبقريته وهو ميدانه.
ومع ذلك فثمة مسألة أخطر، فشاعرنا يريد أن يتخذ من أساطير اليونان مادة لشعره كما يتخذ لشخصياته أسماء إغريقية، وإذن فمن حقنا أن نناقش طريقة فهمه لليونانيات؛ وذلك لأنه إذا جاز أن نتساهل في شيء فإنه لا يمكن أن يكون هذا التساهل في فهمنا للمادة التي نصدر عنها؛ وفي جملة الشاعر الخاطئة ما يدل على أنه لم يأخذ نفسه بعناء دراسة أساطير اليونان ومعتقداتهم الدينية كما يجب؛ وذلك لأن فكرة الإثم والجحيم بل فكرة المصير بعد الحياة لم تعرفها الديانة الأولمبية، ولم تظهر في بلاد اليونان إلا بتأثر المعتقدات الأجنبية التي أتتها من مصر وسوريا وبلاد الشرق الأخرى، وهي لم تتسلل إلى ديانة زيس التي ينتمي إليها هرميس، وإنما ظهرت في شعائر أنصار أورفيوس وفيثاغورس ثم في أسرار إلزيس Eleusis وهذا تيار ظل بعيدا عن أساطير اليونان وديانتهم التقليدية، وفيه فقط نجد فكرة الإثم، وفكرة الثواب والعقاب ومصير الأرواح، وأما هرميس فكان يقود كل الأرواح إلى العالم الآخر المظلم، الذي نرى الجميع يرهبونه.
وهذه الملاحظة تقودنا إلى منهج الشاعر عامة وطرق علاجه لموضوعه، ففي كتابه ما يدل على العجلة وعدم الروية، سواء في وحدته أو في تفصيله، بل في صياغته الشعرية ذاتها، وهذا اتجاه يجب أن نقاومه لما يجره من جنوح إلى الإغراب والغموض والتفكك وما يسببه من إفساد للنغمات وهلهلة في الاطراد وضعف في السبك.
وفي الحق ما هي "أرواح وأشباح" وعلامَ يدل هذا العنوان الجميل؟ أهي حقا
أرواح وأشباح؟ وإذا كانت فكيف نظمها خالقها؟ أهي ملحمة؟ أهي قصيدة فلسفية؟ أهي قصة؟ أهي ديوان؟ ونحن بعد لا نحرص على أية لفظة مما ذكرت، فللشاعر أو الكاتب أن يقدم لنا ما يريد، وعلينا أن ننظر فيه كما هو، وما يجوز أن يدفعنا كسلنا العقلي إلى التماس "خانة" نضع الكتاب فيها لنستريح، ولكني أظن أنه من حقنا أن نناقش وَحْدَة الكتاب.
وأنا أنظر في أوله فأراه أفلاطوني النزعة، وهذه بلا ريب أنبل النزعات، ولقد أوحت إلى أفلاطون بنثر، فيه من الشعر ما لم يتوافر للكثير من القصائد، فالشاعر يحدثنا عن صعود النفس إلى مستقرها الأول، حيث عالم الخير والحق والجمال، وينبئنا بأنها ستعود إلى الأرض فيما يشبه البعث، وهنا ستحدثنا عن:
مشاهد شتى وعتها العقول
…
وغابت صواها1 عن الناظر
وجود حوى الروح قبل الوجود
…
وماض تمثل في حاضر2
وهذا موضوع رائع يبشر بملحمة فلسفية كتلك التي كتبها لوكريس الشاعر اللاتيني مثلا عن "طبائع الأشياء" ومع ذلك من منا لا يحس بالتنافر الواضح بين الوزن والموضوع؟ ومتى كان "المتقارب" من الغنى والجلال والضخامة بل طول النفس بحيث يتسع فكرة أفلاطونية؟ وهلا يذكر الأستاذ محمود طه كما نذكر جميعا كيف أن شعراء خالدين قد فشلوا في شعر الملاحم، وكان فساد إحساسهم بالموسيقى من أكبر أسباب هذا الفشل، وهلا يذكر بنوع خاص "فرنسياد" الشاعر الفرنسي المبدع "رونسار" وكيف هوت؟ وقد أجمع النقاد على أن استعمال الشاعر للبحر المكون من عشرة مقاطع بدلا من البحر الإسكندري "12 مقطعا" الذي يلائم الملاحم كان من أسباب هذا الفشل! بل ألم يفطن ابن العميد إلى وجوب اختيار الوزن والقافية اللذين يلائمان موضوع الشعر؟ "المتقارب" أهزل وأنحف وأخف من أن يحتوي فكرة فلسفية، إن فيه ما يترك في النفس فراغا ويشعرها بأن الموضوع قد ضمر وضاع جلاله.
ولقد رأيت لتلك الظاهرة شبيها عند العقاد في قصيدته "ترجمة شيطان":
صاغة الرحمن ذو الفضل العميم
…
غسق الظلماء في قاع صفر
وهي قصيدة طويلة يقص فيها الشاعر حكاية ضافية عن الشيطان وسقوطه فيما يشبه "الملحمة"، وأنا لا أدري كيف اختار "الرمل" لموضوع كهذا؟!
1 الصوى: أحجار توضع كعلامات في الطريق.
2 أنا أذكر دائما خير الأبيات في نظري.
ولكني أسارع فأقرر أن محمود طه شاعر رغم كل شيء، وما عليك إلا أن تنظر في أسلوبه فترى أن الصيغ النثرية في شعره كقوله:"وتنطق بالمثل الثائر"، "سيسلكه الفن فيمن سلك"، "يبقى صداها إذا ما هلك"، "فلا كان بعثا ولا قدرا" و"آخرة العاشق المنتحر". "وأضحيت شيئا ككل الرجال وأضحيت شيئا ككل النساء"، وأمثال ذلك قليل بالنسبة لأسلوب العقاد الذي لا أرى فيه إلا القليل من الشعر.
ومن غريب الأمر أن يقع محمود طه، في نفس السخف الذي وقع فيه العقاد! فالعقاد يدعونا في أول قصيدته إلى أن نخف مهرولين "لنسمع أعاجيب العبر"، وكذلك يفعل محمود طه، فيختم مقدمته بقوله:
هو البعث فلاستمعوا واقرءوا
…
حديث السماء عن الشاعر
فيا للعجب! متى اهتم الشعراء إلى هذه الدرجة بأن يستمع إليهم أحد أو لا يستمع؟ أليس في ذلك ما يضحك؟ وفي الحق إنها لظاهرة عجيبة! فالذي عرفناه ورأيناه عند الشعراء القدماء، لا المحدثين، هو أن يتجه الشاعر أو الروائي إلى القراء، بل على الأصح إلى المشاهدين في المسرح؛ ليكسب انتباههم وعطفهم عليه، وهذا عندما كانت تقام مسابقات بين الشعراء. وأضيف إلى ذلك أن هذه العادة لم تكن معروفة إلا في الكوميديا، فأنت تجد بلوتس Plautus اللاتيني مثلا يتجه في البرولوج إلى الحاضرين يخاطبهم ويدعوهم إلى الحكم له، كما يمهد لسماع مسرحيته التي يلخص لهم وقائعها. وكذلك كان يفعل شعراء الإغريق القدماء، فتجد أرستوقانيس يخاطب الجمهور في الجزء من الكوميديا المسمى "البراباز" Parabasis وفي حديثه عادة ما يضحك ويؤدي إلى الأغراض التي ذكرتها.
والآن ماذا يقصد العقاد ومحمود طه بهذين البيتين؟ إن كانا قد قصدا إلى الإضحاك فقد نجحا، وذلك عن نفسي، فقد خيل إلي أني في سامر أو عند "حاوى".
وهذا يؤدي بنا إلى مسألة خطيرة، هي ما يجب أن نعلمه جميعا من حاجاتنا إلى التواضع الاختفاء قليلا، فالقارئ لا يعنيه -فيما أظن- أن يعرف الكثير عن عبقريتنا وتمدحنا بها، وإعلائنا لشأنها، وتقديرنا لما يصدر عنها من شعر، ويا ويل عبقرية لا تعرف إلا مدح نفسها.
وبعد، فنحن في حاجة ماسة إلى أن نحارب عدة عادات سخيفة عندنا، منها أن ينفق الشاعر نصف قصيدته اعتذارا عن تأبي الشعر عليه، ألا فليسكت إن لم يكن لديه ما يقول، أو شكواه من ضيق الألفاظ عن إحساسه، أو الإشادة بملكته وتخليده للناس ولنفسه. وكذلك يفعل الكثير من خطبائنا، وهذه أخطاء في الذوق أضخم من أن نحتاج إلى الوقوف عندها.
ولكن ثمة ما هو أخبث من ذلك؛ لأنه أرق وأرهف، فلقد رأينا الأستاذ الحكيم يعالج في "بجماليون" مشكلة حياة الفنان، وهنا نحن اليوم نرى محمود طه يتحدث أيضا عن الفنان وعلاقته بالمرأة؛ إذ إن هذا هو جماع "ملحمته". وتلك ظاهرة مخيفة، فهي تدل على أن أدباءنا أكثر وعيا بفنهم مما ينبغي، مع أن مشكلة الفن ليست مشكلة إنسانية عامة.
ثم إني وإن كانت لا أنكر على الأستاذ محمود طه أن يجمع في نظرته إلى الفن والحياة، بين النظرة الرومانتيكية التي تجعل من الفنان "صدى عابرا وروحا مجنحة الخاطر" وبين النظرة الحسية التي ترى في فمي الحبيبين "شقين من قبس مستعر" وتجعل الشاعر يشم في أنفاس فتاته "رغبة يهتف بها جفنها المنكسر"، "وتضح به الشهوة الجائعة""فيشم رائحة الجسد المحترق" على نحو ما كان يفعل بودلير الذي تتلمذ له محمود طه على ما يظهر في هذا الاتجاه. أقول برغم أنني لا أنكر عليه شيئا من هذا فإنني كنت أرجو أن ينجو بنا من الابتذال، فمعظم معانيه مطروقة، والجمل الجميلة التي ذكرتها هي كل ما استطعت التقاطه من أقواله الكثيرة في هذه الأغراض.
ونحن بعد نستطيع أن نغتفر لمحمود طه ولغيره من الشعراء ابتذال معانيهم، فالمعاني أشياء تافهة في الشعر، ولكن على شرط أن تخلق الصياغة من هذه التوافه قيما فنية، على نحو ما فعل أبو تمام مثلا من المعنى القريب "معنى نيل الصحراء من جسم البعير" قوة شعرية دافقة رائعة بقوله:
رعته الفيافي بعدما كان حقبة
…
رعاها وماء الروض ينهل ساكبه
وأمثال ذلك مما يحتاج إلى صبر على الصياغة وقدرة عليها لم يتوافرا دائما لشاعرنا.
انظر إلى قوله مثلا عن حدق إحدى الحوريات: "تؤجان بالنظرة الرائعة"، ثم تساءل: أين تقع "الروعة" من "الأجيج"؟ وهل لهذا التنافر من سر غير العجلة، أو قوله عن الشاعر "ألم يبعد الحسن في زهرها؟ " وما في ورد الحبيبة من ابتذال ذهب بجمال صدر البيت؟ "ألم ينسم الخلد من عطرها؟ " ما هذا الحشو الذي يحرص على ذكر الزهر بعد العطر؟
ولقد نحس من حين إلى حين أن الشاعر يصدر عن مذهب أدبي بعينه، وهذا جميل ولكن على أن يصدقنا الذوق؛ فبودلير مثلا يكثر من الجمع بين المتناقضات كقوله:"النور القاتم"، وما شاكل ذلك، ويأتي شاعرنا فيقول:
وأحفر بعد الردى قبره
…
هناك على قمة الهاوية
وأغرس في قبله زهرة
…
من الشر رواية نامية
ونحن نترك "زهرة من الشر" فقد قالها بودلير، بل هي عنوان ديوانه، ولكن ما "قمة الهاوية"؟ وهل لها صورة واضحة في خيال الشاعر أم هي صنعة المذهب؟
ولقد يحدثنا فرلين حديثا سهلا ساذجا مؤثرا صادقا عن بؤسه، وقد أخذت تتقاذفه بقاع الأرض "كورقة ميتة"، ولقد يخبرنا "بانتحاب قيثارة الخريف" في أذيته فيأتي شاعرنا يقول:
إذا ما هوت ورقات الخريف
…
أحس لها وخزات السنان
وقيثارة الريح ما لحنها
…
سوى الريح في جفوة أو حنان
يالله! ولِمَ هذا التهويل والجري وراء المعاني المقتسرة البعيدة الخالية من كل صدى إنساني؟ إن في ورقة فرلين الميتة ما يجز في نفسي حزا لا يستطيعه سنان محمود طه، وفي انتحاب قيثارة الخريف من الأسى ما يعز على جفوة رياح محمود طه وحنانها.
وبعد، فنحن في حاجة إلى أن نهمس، نحن في حاجة إلى التواضع، التواضع الإنساني الأليف القريب إلى النفوس، نحن في حاجة إلى أدب إنساني صادق مخلص؛ لأن نفوسنا في ظمأ إليه. ألا فلنعد إلى قلوبنا ولنحملها على أن تقول في بساطة ما تجد وسوف نرى جمال حديثها. ولنتخذ الأساطير مادة لإحساسنا وهياكل لصورنا الفنية، ولكن في أمانة وفهم ونزول على معانيها، وأما الطنطنة، وأما إقحام أنفسنا وعرضها في كل حين على القارئ حتى يمل وينفر، وأما الحديث عما لا نجيده فلا.
وبعد فعند محمود طه أشياء جميلة حقا ولكنها قليلة، وأنا على تمام الثقة من أنه شاعر موهوب، وأنه يستطيع خيرا من هذا، ولكن على شرط أن يتخلى عن الإغراب وأن ينسى نفسه قليلا، ثم لا بد له من القسوة على نفسه وعدم التساهل في الصياغة؛ فثمة حشو في بعض الأبيات وثمة هلهلة، وثمة محاولات لتضخيم العبارة عن أشياء تافهة، والذي لا شك فيه أن شاعرا يقول:
وهامت على ظمأ روحها
…
وكم ملئوا الكأس من خمرها
قادر على الشعر الجيد، فهل تراه فاعلا؟ ذلك ما نرجوه ليكون شعره حجرا في أدب مصري يستطيع حقا أن يثبت للأدب الأوربي الذي لا بد لنا من مثله.