المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بجاليون والأساطير في الأدب - في الميزان الجديد

[محمد مندور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الأدب المصري المعاصر:

- ‌النقد ووظائفه:

- ‌بجاليون والأساطير في الأدب

- ‌سوء تفاهم وفن الأسلوب:

- ‌أرواح وأشباح الشعر والأساطير:

- ‌نداء المجهول والأدب الواقعي:

- ‌زهرة العمر وحياتنا الثقافية:

- ‌الأدب المهموس

- ‌الشعر المهموس "‌‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌يا نفس" لنسيب عريضة:

- ‌ النثر المهموس:

- ‌أمي" لأمين مشرق:

- ‌حول ترنيمة السرير:

- ‌الشعر الخطابي:

- ‌إيضاح أخير:

- ‌ الهمس في الأناشيد:

- ‌مناهج النقد - تطبيقها على أبي العلاء

- ‌الأدب ومناهج النقد

- ‌النقد الذاتي والنقد الموضوعي

- ‌مشكلة المعنى:

- ‌أبو العلاء والنقد:

- ‌أبو العلاء ورسالة الغفران:

- ‌رسالة الغفران:

- ‌مساجلات جورجياس المصري:

- ‌المعرفةوالنقد - المهج الفقهي

- ‌الشعراء النقاد

- ‌المعرفة والنقد:

- ‌نظرية عبد القاهر الجرجاني:

- ‌النظم عند الجرجاني:

- ‌الذوق عند الجرجاني:

- ‌خلط بين القيم:

- ‌مناقشات لغوية:

- ‌اللغة والتعريب:

- ‌عثرت به وعثرت عليه

- ‌حول أصول النشر:

- ‌كتاب قوانين الدواوين "1

- ‌كتاب قوانين الدواوين "2

- ‌أوزان الشعر

- ‌الشعر الأوروبي

- ‌ الشعر العربي:

- ‌فهرست الموضوعات:

الفصل: ‌بجاليون والأساطير في الأدب

‌بجاليون والأساطير في الأدب

بجماليون والأساطير في الأدب:

وأخيرًا أخذت الأساطير تشق سبيلها إلينا حتى رأينا كاتبا كالدكتور طه حسين يكتب في روايته "أديب": "لقد ماتت قناتنا أيها الصديق! مات ودفن فيها أو صرف عنها ذلك الإله الشاب من آلهة الأساطير الذي كان ينطلق فيها فرحا هادئا وادعا مستبشرا، يرسل البشر من حوله، جميلا ينثر الجمال عن جانبيه، مات هذا الإله الشاب فدفن في مجراه، أو طرد هذا الإله ورد عن مجراه، وفني في الإبراهيمية فأصبح ماء من الماء، وجرى لا يتميز عن غيره، لا يعرفه أحد ولا يعرف هو أحد، لا يثير في نفوس الناس حزنا ولا فرحا، ولا تجري ألسنتهم بالحديث عنه، نسيه الناس ونسي هو الناس، بل نسي نفسه أيضا، إنك لتعرف أن آلهة الأساطير لا حياة لهم إلا إذا أقيمت لهم المعابد وأقاموا هم المعابد، فإذا هدمت معابدهم فقد ماتوا أو طردوا من الأرض طردا. فقد هدم معبد هذا الإله الشاب وماتت القناة، فمات هو أو نفي من الأرض وأصبح حديثا كغيره من الآلهة الذين أصبحوا أحاديث".

ولو أنك بحثت عما خلف هذه الفقرة الطويلة من معنى لم تجد غير خبر يلقي به مواطن إلى مواطنه، فالأديب الذي نشأ في نفس القرية التي نشأ فيها طه حسين قد عاد إلى بلدته فوجد أن ترعتهم قد ردمت بعد أن كانت تنساب من الإبراهيمية إلى القرية، وحزن الأديب لزوالها أو قل حزن طه حسين الذي دل في موضع مما كتب على إلفه للأمكنة وإحساسه بها إحساسا مرهفا، واحتال الكاتب على شفاء نفسه مما تجد، فلجأ إلى الأساطير اليونانية التي خلعت على الأشياء صفات الإنسان أو صفات الآلهة. والأمر بعد سيان؛ إذ إن آلهة اليونان قد خلقهم هذا الشعب على شاكلة البشر. وعلى نحو ما جعل هوميروس من نهر الاسكامندر في الإلياذة إلها يصارع البطل "أخيل"، ترى طه حسين يجعل من قناة بلدتهم إلها شابا سرعان ما ينسى وينسينا أنه أسطورة أو إله خرافة، وإذا بالإله شاب إنسي يموت ويدفن في القناة أو على الأصح يفنى بفنائها، وإذا بالكاتب يمزج بين حياة هذا الشاب وحياة من حوله، وينفث فيه فيضا من العاطفة قد بلغ من

ص: 12

التأثير في نفس القارئ مبلغا، ما كانت الألفاظ -مهما رقت- بمستطيعة أن تصل إليه بغير هذا التشخيص.

وها نحن نرى اليوم الأستاذ توفيق الحكيم يتناول أسطورة "بجماليون" اليونانية الأصل ليتخذ منها وسيلة لعلاج مشكلة نحس أنها تعني الكاتب، مشكلة الحياة التي لا يجد الفنان سبيلا إلى الصدوف عنها، مهما أصاب من نجاح، هي أبدا تلاحقه وتقتضيه حقوقها؛ وإلى هذا فطن اليونان فجرت أحدى أساطيرهم بأنه قد كان في جزيرة كريت فنان بارع عقد عزمه على ألا يتزوج ليوفر حياته على الفن، أو لأنه قد نفر من مظاهر استهتار النساء، كما رآهن بأعياد فينوس إله الحب، تلك الأعياد الصاخبة التي كانت تقام بمدينة "أماتونتوس" على الساحل الجنوبي للجزيرة؛ حيث كان معبد تلك الآلهة. وغضبت فينوس من كبريائه فألقت بقلبه حب تمثال عاجي من صنعه، اسمه "جالاتيه" واشتعلت بحواس الفنان المسكين رغبات الحياة، فضرع إلى الآلهة أن تنفث الروح بالتمثال. ورق قلب الآلهة لضراعته فاستجابت. وتزوج بجماليون من جالاتيه وكان له منها ولد هو "بافوس" مؤسس مدينة "بافوس" مدينة الحب الشهيرة بجزيرة كريت.

وشاء شيطان "الحكيم" أن يجسم جانبي النزاع في نفسه. فلجأ إلى أسطورة يونانية أخرى هي أسطورة "نرسيس" أي النرجس. وذلك أن خيال اليونان رأى النجرس ينمو دائما على شواطئ الغدران فاخترع له أسطورة. قالوا: إن النرجس كان في الأصل شابا جميلا يعرف أنه جميل، وكان يطيل النظر في مرآة المياه ليتمتع بجماله. فنسخته الآلهة زهرة لا تزال إلى اليوم تنبت على حافة المياه لتطل في صفحتها. وجاء علماء النفس المحدثون فاتخذوا من معنى هذه الأسطورة اسما لمرض نفسي هو غرام الشخص بنفسه على نحو ما يغرم بفتاة. حتى أصبحت تلك "النرجسية" Narcissisme من أبحاث المشتغلين بذلك العلم. ورأي الحكيم أن نرسيس يستطيع أن يرمز إلى تلك النزعة القوية التي تدعوه إلى الحياة وتصرفه عن الفن، فحزم أمره واتخذ من نرسيس حارسا لتمثاله، اتخذ من حياته حارسا لفنه وترك الكاتب لنرسيس الحرية في أن يلهو مع فتاة يونانية عرفت منذ عهد سوفوكليس بالحكمة هي "إيسمين". وكأني بالكاتب لا يخشى على نرسيس منها شيئا، وإنما هي ملهاة، عرضت نفسها على نرسيس فقبلها، وهي لن تؤدي به إلى الطغيان على بجماليون، لن تنصر الحياة على الفن، وفي هذا ما يحزن فلإيسمين في النفس قداسة.

ص: 13

وكم كنت أود لو التمس الحكيم لنرسيسه فتاة أخرى. إيسمن في ذكرياتي هي إيسمين سوفوكليس..إيسمين العزيزة النبيلة. وما أخالها إلا منتقمة لذكراها الخالدة، وقد زجت إلى حيث لا تدرك لوجودها معنى.

ومزج الحكيم بين بجماليون ونرسيس، فالشخصيتان هما الفنان نفسه بجانبيه: جانب الحياة التي يجب أن يأخذ منها بنصيب، كما يأخذ جميع البشر، وجانب الفن الذي يريد الكاتب أن يوفر عليه كل نشاطه، ومن ثم نرى نرسيس يهرب ذات مرة مع جالاتيه نفسها، ولا تجد إيسمين في ذلك غضاضة قوية، ولا يجد بجماليون للغيرة ألما؛ وذلك لأن إيسمين متعة عابرة، ولأن نرسيس هو بجماليون نفسه، فالأمر إذن لا يعدو انتصار الحياة في برهة من أيام الكاتب أو الفنان، وهو بعد انتصار لا يضير الفن، إذا سار الفن مع الحياة سارت جالاتيه مع نرسيس.

وهكذا تعقدت حياة بجماليون بين يدي الحكيم، حتى طال تردده بين الحياة والفن، فآنًا يفرح ويطمئن إلى جالاتيه المرأة، وآنًا يعود فيحن إلى جالاتيه التمثال.

وأما القارئ فيشهد كل ذلك بعقله، وكأن تلك الشخوص أفكار مجردة، هامدة تتحرك لمجرد علاج مشكلة تدور بالعقل.. العقل البارد الذي لا يهز.

وبدأ يتضح اتجاهان في استخدام الأساطير عندنا: فهذا طه حسين يجعل من قناتهم شابا، كان يملأ الدنيا بهجة، ثم يموت الشاب فنحزن لموته؛ وهذا توفيق الحكيم يتخذ من بجماليون ونرسيس وإيسمين رموزا لعلاج إحدى مشاكل حياة الفنان، مشاكله الجسيمة يعالجها على نحو عقلي معقد مبسط.

ولنتمهل قليلا لنرى ماذا فعل كُتَّابنا بالأساطير؟ وماذا فعل كُتاب غيرنا من الشعوب؟ لنرى بوضوح كل ما يمكن كسبه لو أننا استطعنا أن نحسن استخدام ذلك الجانب الإنساني الرائع من خرافات الأولين: يونانيين كانوا أو عربا أو هنودا، ففيها كلها ما يغذي العقل والقلب، ويفتح أمام النشاط ميادين لا حد لغناها. ونحن اليوم على أبواب تطور خطير في حياتنا الروحية والفكرية؛ إذ من كان يظن في أوائل هذا القرن أن كتابنا سيرون في إحدى ترع الصعيد إلها شابا، أو يشقون شاعرا أو كاتبا من شعرائنا أو كتابنا كالأخطل مثلا أو ابن قتبية إلى بجماليون ونرسيس، إلى فن وحياة يرواغان ويتداخلان، وهذا اتجاه يبشر بالخير، خليق بأن يجدد حياتنا، ولكن على شرط أن يكون التجديد إنسانيا عميقا جميلا، وأما

ص: 14

إذا أخذنا بالقشور والهياكل تاركين اللباب والمعاني الدفينة، فسنفقد عندئذ أصالتنا دون أن نستعيض عنها بأصالة أخرى، وإنا لندعو إلى تعميق حياتنا والمد من آفاقها. وإنه لمن قصر النظر أو الجهل أن نظن أن تراثنا العربي يكفي اليوم ليغذي نفوسا تعلم وتحس في قرارة الإنسان وفي آيات الطبيعة أو في الصلة بينهما حقائق جميلة، لم يصل إليها التفكير العربي إلا مجزأة مفككة، أو ضائعة في خلال الألفاظ التي طالما أصبحت في أدبنا عبثا يقصد لذاته، وإنه لمن قصر النظر أو الجهل أن نرى مضاضة في أن نأخذ عن كبار مفكري الإنسانية وأدبائها دورسا، نشد بها من قدرتنا حتى نستطيع النهوض على أقدامنا والسير مع هؤلاء الرجال جنبا إلى جنب.

وأساس الأخذ عن الغير والإثراء به هو الفهم، الفهم العميق، وكل فهم صحيح تملك للمفهوم، ونحن نستطيع أن نتملك كل ما خلف البشر من تراث روحي، أساطير كانت أم حقائق، على ما في تلك الاصطلاحات من تحكم غير صادق في أغلب الأحيان. فكم من أساطير يصح أن تسمى حقائق! وكم من حقائق تكشف عن أساطير! والأمر بعد سيان، فما نريده هو أن نملك كل ما تصل إليه عقولنا، وسنرى عندئذ كيف ننمي هذه الثروة الروحية، بل إنها ستنمو نموا ذاتيا بما فيها من قوى كامنة، كالمال يولد بعضه بعضا ما خلصت لنا ملكيته.

هذا التملك هو سر ما وصل إليه الكُتَّاب الأوربيون من خلق جديد استقوا مادته من التراث القديم، فاليونان اتخذوا من الأساطير الشعبية التي كانت شائعة في القبائل الأندوأوربية الأولى - مادة لأَجَلِّ وأعمق ما خلف البشر من أدب وتفكير. وخلفهم في ذلك اللاتين ثم الفرنسيون في أدبهم الكلاسيكي. والأمر لا يقف عند الأدب بل يمتد إلى كل الفنون. وفي متاحف العالم أجمع لوحات لا عداد لها وتماثيل نحتت في كل الأزمنة وفي مختلف البلاد بوحي من تلك الأساطير.

وموضع العبرة فيما فعل الكتاب الأوربيون هو نفث الحياة في أساطير الأولين وتقريبها من حياتنا وتسخيرها لفهم الإنسان، فها هو برناردشو يكتب "بجماليون"، ويبلغ حرصه على الحياة ألا يتصور تمثالا من العاج أو المرمر، بل فتاة حية من دم ولحم، بائعة زهور لم تكن حياتها شيئا قبل أن يعثر بها بجماليون، كانت بائسة لا تعرف من الحياة إلا القليل، ولم يكن لها غير تلك النبرة المؤثرة، نبرة كوكني لندن، لهجة الشعب المتواضع، لهجة باعة الأسواق المشردين المنبوذين، عثر بجماليون بالفتاة، ولم يزل يلقنها نغمة الطبقة

ص: 15

الممتازة، ويبصرها بطرق حياتهم، حتى أصبحت متعة للأبصار وبهجة للنفوس. وكان بجماليون لا يحب فيها أول الأمر غير كبرياء الخالق، كبرياء الفنان الذي يحب نفسه فيما يخلق، ولكن نجاح الفتاة وإقبال الرجال عليها لم يلبث أن نفذ إلى غرائز بجماليون كرجل، فأخذ يحب الفتاة لنفسها، يحبها على غير وعي منه حتى كان يوم أدرك فيه مدى هذا الحب، أية حياة تملأ المسرحية؟ وأية إنسانية تجري في نواحيها؟ أي تميز للشخصيات؟ وأية حركة متدفقة في المواقف والأوضاع؟ ثم أية وحدة في البناء؟!

أين كل هذا من الأفكار المجردة؟ وأين كل هذا من مشكلة حياة الفنان المبسطة التي لا نكاد نراها إلا في خطوط هندسية ومقابلات بين الحياة والفن، بين المرأة والتمثال، ومن حولها شخصيات أشبه ما تكون بقطع الشطرنج أو بعرائس الخشب التي تحركها على مسارح الأطفال خيوط تجتمع كلها إلى يد واحدة، هي فكرة الفن والحياة وما بينهما من تعارض لا أكاد أفهمه في فن يسعى إلى خلق الحياة؟! وكيف يخلقها وهو يجهلها؟! يقول ديمهاميل لفتاه:"لا تنسَ أن تعيش. عش أولا. عش بكل قواك ثلاثة أشهر لتكتب ثلاثة أيام، واكتب ثلاثة أيام لتملأ ثلاث صفحات".

وإلى هذا النوع من الأدب الذي تشيع فيه الحياة يتجه إيماني بحيث لا أطمئن إلى الأدب المجرد، أدب الفكرة الذي يصدر عنه الأستاذ الحكيم، فهو أدب سهل.

نعم من السهل أن تتخذ من أشخاص الأساطير رموزا نحركها للتدليل على فكرة ما، وما هذا النوع رواية شيللي عن "بروميثيوس الطليق" ورواية أندريه جيد عن "بروميثيوس غير المحكم الوثاق"، ففي كل منهما علاج لأفكار. عند شيللي صراع بين الخير والشر، بين الآلهة والإنسان. وعند جيد بين الضمير والجسد، بين الهيئة الاجتماعية والإنسان. ولكن ثمة أشياء تشفع لشيللي وجيد. فشيللي شاعر، كتب مسرحيته شعرا وفيها من جلال الصور وندرتها وقوتها وجمالها ما يثير الخيال ويلهب النفس. وجيد مفكر عميق نافذ، رمزيته إشارات دالة وإيحاء بعيد، نلهث في متابعته. والذي لا شك فيه أن إيجاد الشخصيات ونفث الحياة فيها وتركيز طبائع البشريين بين حناياها بما تحمل تلك الطبائع من مصائر وآلام -أمر أشق وأروع وأجمل وأضمن للخلود من العبث بالأفكار، وبخاصة إذا كانت أفكارًا مطروقة قريبة المنال.

وإذا كانت الأديب لا ينجح في أن يثيرني ولا في أن يرسم أمام خيالي نماذج لي ولك، أتعرف فيها على ناحية من حياتي أو اتجاهات نفسي أو موضع من

ص: 16

مواضع قوتها أو ضعفها، فماذا إذن يستطيع حين يتناول إحدى تلك الفكر الملقاة كأعراض بمفترق الطرقات؟

ألا ليت للحكيم قدرة على الانفعال والتأثير؟! ألا ليت له قدرة شاعر كشيللي على اقتناص الصور وإيقاع الشعر، أو قدرة "شو" على نفث الحياة والإمعان في الواقع؟! ألا ليت له قلبا وخيالا يعدلان عقله؟!

ولقد كان الحكيم يستطيع -وقد عز الانفعال وعز الخيال- أن يخفف من طغيان التفكير بشيء من "الهيومر" على نحو ما رأينا أحد كتابنا الموهوبين يسمى عصارة قلبه الساخر "حصاد الهشيم" و"قبض الريح". وأما الحرص على الخلود والجهر بالرغبة فيه والتصبب عرقا في الجري وراءه، فأشبه ما يكون "ببراميل الدناييد" التي لا قاع لها. والخلود كالمرأة الجملية، الخلود كالحياة لا بد من التحفظ معه والبعد عنه وعدم التكالب عليه لنظفر به، وبهذا وحده نستطيع أن نسيطر على ما بأيدينا وأن نقوى على مواجهته في غير ما ضعف ولا تهافت. والسيطرة قوام الخلود. السيطرة على المادة التي نصوغها.

وبعد، فقد كنت أخشى أن تظل مرامي الكاتب مختفية في ضباب الأسطورة وخلف رموزها؛ ولذلك حاولت أن أودي ما أراه واجبا على كل ناقد، فاتجه جهدي إلى تقريبها من القراء وربط الشخصيات بعضها ببعض، وإيضاح المعاني التي قد تفلت من القارئ البادئ.

ولقد تفضل الأستاذ الحكيم فأهداني كتابه، فلم أجد ردا للتحية خيرا من أن أقربه لقرائه الكثيرين المعجبين، وأما ما بسطت من رأي يتجه إلى نوع من الأدب يخالف منحى بجماليون فقد كان الإيمان رائده.

ص: 17