المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أمي" لأمين مشرق: - في الميزان الجديد

[محمد مندور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الأدب المصري المعاصر:

- ‌النقد ووظائفه:

- ‌بجاليون والأساطير في الأدب

- ‌سوء تفاهم وفن الأسلوب:

- ‌أرواح وأشباح الشعر والأساطير:

- ‌نداء المجهول والأدب الواقعي:

- ‌زهرة العمر وحياتنا الثقافية:

- ‌الأدب المهموس

- ‌الشعر المهموس "‌‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌يا نفس" لنسيب عريضة:

- ‌ النثر المهموس:

- ‌أمي" لأمين مشرق:

- ‌حول ترنيمة السرير:

- ‌الشعر الخطابي:

- ‌إيضاح أخير:

- ‌ الهمس في الأناشيد:

- ‌مناهج النقد - تطبيقها على أبي العلاء

- ‌الأدب ومناهج النقد

- ‌النقد الذاتي والنقد الموضوعي

- ‌مشكلة المعنى:

- ‌أبو العلاء والنقد:

- ‌أبو العلاء ورسالة الغفران:

- ‌رسالة الغفران:

- ‌مساجلات جورجياس المصري:

- ‌المعرفةوالنقد - المهج الفقهي

- ‌الشعراء النقاد

- ‌المعرفة والنقد:

- ‌نظرية عبد القاهر الجرجاني:

- ‌النظم عند الجرجاني:

- ‌الذوق عند الجرجاني:

- ‌خلط بين القيم:

- ‌مناقشات لغوية:

- ‌اللغة والتعريب:

- ‌عثرت به وعثرت عليه

- ‌حول أصول النشر:

- ‌كتاب قوانين الدواوين "1

- ‌كتاب قوانين الدواوين "2

- ‌أوزان الشعر

- ‌الشعر الأوروبي

- ‌ الشعر العربي:

- ‌فهرست الموضوعات:

الفصل: ‌أمي" لأمين مشرق:

2-

‌ النثر المهموس:

"‌

‌أمي" لأمين مشرق:

بلغني أن أمين مشرق قد قتلته سيارة بأمريكا فحزنت، وراجعت نفسي في سر ذلك الحزن، وهذا رجل ما رأيته قط، ولا حدثني عنه أحد؛ وإنما هي مصادفات الحياة ساقتني وأنا أطالب إلى كتاب به مختارات لشعراء المهجر، فتحت لنغماتهم نفسي، واصطحبت الكتاب إلى أوربا سنوات، وعدت بكتابي القديم كما ذهبت به، وإن تكن جلدته قد ضاعت وأوراقه الأولى قد تآكلت، وأصبحت لا أعرف له عنوانا ولكنني أفزع إليه كلما ضاق الصدر أو عض ألم، فأجد بين صفحاته من عبير الروح ما يحيي الإيمان.

أمين مشرق بين من يضمهم كتابي، له فيه صفحات من الشعر والنثر، كما آنست من وحشتي ورفعت من قلبي، أنه صديق قديم.

لقد سبق أن تحدثت عن "الشعر المهموس" فتساءل نفر عن موضع الهمس من الأدب، ولكنني عندما أستمع لهؤلاء الشعراء لا أفكر في الأدب، أنهم يضعوننا أمام الحياة، ويسرون في همس صادق عميق، وهذا "نسيب عريضة" صاحب "يا نفس" التي خالفني في جمالها البعض، أعود أنصت إليه يهدهد طفله في "ترنيمة سرير" حزينة بموسيقاها المطردة:

ظلام الويل قد جنا

وبوق الهم قد رنا

فنم يا طفل لا يهنا

غنى بات شعبانا

قتام اليأس غطانا

فنم لا عين ترعانا

إذا ما صبحنا حانا

حسبنا الصبح أكفانا

ألا يا هم يكفينا

لقد جفت مآقينا

لو أن الدمع يغذونا

أكلنا بعض بلوانا

أنصت، فتجيش النفس كهذا البحر الذي تتلاطم أمواجه خلف أذني "في الإسكندرية"، ومن عجب أن تثيرنا تلك الموسيقى المطردة الهادئة1 التي لم يدرك

1 الوزن من الهزج "مفاعيلن مفاعيلن" وسر الهدوء والاطراد في هذه الموسيقى إنما أتى من غلبة المقاطع الطويلة، ففي كل تفعيلة مقطع واحد قصير ثم ثلاثة مقاطع طويلة هكذا "مع الرمز للمقطع القصير بالعلامة ب واللطويل بالعلامة -": ظ لا مل وي ل قد جن نا 7---7---.

ص: 69

الطفل سواها، وقد رنحته "الترنيمة" فنام، ولكنها قدرة الشاعر كقدرة الطبيعة، أولا ترى إلى البحر كيف يزيدنا صخبه إحساسا بالصمت ما أنصتنا إليه؟ موسيقى هادئة تحرك القلب، وصخب بحر يشيع به الصمت. إنني أخشى أن يكون التناقض كامنا في الحياة والوجود، ثم أي قوة في نفس الشاعر؟ نعم، "لا يهمنا غني بات شبعانا" عندما يبيت طفلي جائعا، دعاء بالنقمة، ولكن كم فيه من إنسانية، دعاء قوي لا يدفع أو يرد السيل إلى منابعه، وتتهافت النفس فإذا بالرجل يئن من قتام اليأس، وكأنه استوحش فود لو ترعاه عين، وهكذا يجتمع الضعف إلى الثورة، ولكنها نفوس صادقة، خيوط من الضياء والظلمة، ومن يدرينا لعلها عين الله، حيث يسوق ضعفنا البشري فنتعلق بشعاع، وإذا برحمته تمدنا بقوة ما لها أن تنفد، وإذا لاح الصبح "حسبنا الصبح أكفانا" هنا يصل الحزن من النفس إلا الأعماق، انظر كيف اجتمعت لذلك الحزن آياته:"ظلام الويل" و"قتام اليأس" ليست إلا مراحل تقود إلى "أكفان الصباح" قد تقول: ما لي وهذا الغم كله؟ ولكن الشاعر لم يكتب لك ولا لغيرك من ضيقي الخيال، لقد كتب لنفسه أولا، ثم لمن يستطيعون الإحساس معه.

لو آن الدمع يغذونا

أكلنا بعض بلوانا

لست أدري بأي صفة أخص شاعرا يقول بيتا كهذا. لكن تأمل قليلا في فرضة: لو أن الدمع يغذونا أكلنا بعض بلوانا أنا وطفلي الجائع فما نملك غير البكاء. ولكنه لم يقل: لو أن الدمع يغذونا لأكلناه، ولو أنه فعل لظل رغم قوته دون تلك القدرة الخارقة. أي محنة أقسى من أن يعز على الرجل حتى التغذي ببلواه؟!

جددت ذكر الشعر المهموس؛ لأنني رأيت أن خصائصه ليست وقفا على الشعر. هناك أيضا نثر صادق كالأسرار يتهامس بها الناس، تسمعه فيخيل إليك أنه آت من أعماق الحياة، مثله كمثل نواقيس تلك المدينة التي جرت إحدى أساطير بريتانيا الفرنسية -فيما يحدث رينان- أن المياه قد ابتلعتها، ولكنها لم تسكت أجراس كنائسها التي تدق من حين إلى حين، وبخاصة عندما يستجم البحر فيسقط أهل الشاطئ نغماته المقدسة.

من هذا النثر مناجاة "مشرق" لأمه، وقد قست به الغربة:

"يا علة كياني ورفيقة أحزاني، يا رجائي في شدتي وعزائي في شقوتي، يا لذتي في حياتي وراحتي في مماتي، يا حافظة عهدي ومطية سهدي وهادية رشدي، يا ضاحكة فوق لحدي. أمي، وما أحلاك يا أمي!.

إذا تركني أهلي فأنت لا تتركيني، وإن ابتعد عني أحبابي فأنت لا تبتعدين،

ص: 70

وإن نقمت على الحياة جميعها فأنت تصفحين وترحمين، أنت يا مسكنة وجعي وألمي، ومبيدة بؤسي وهمي، أنت وما أصفاك يا أمي!

قد غبت عنك يا أمي، فغاب عن عيني وجهك الباسم بملامحه الرقيقة الرزينة، ومعانيه الدقيقة الحنونة، وتراكمت على رأسي هموم الحياة بضجيجها الهائل، فضعضعت فكري، وزلزلت قلبي، وتقاذفتني أمواج المتاعب والشقاء، فغرت في لجج طامية وظلمات داجية، وبعينين غشي عليهما الرعب نظرت من أعماق قنوطي فرأيت وجهك اللطيف الثابت يبتسم إلى من الأقاصي البعيدة، فبكيت وبكيت وصرخت: يا أمي!

آه! ما أقسى الغربة وما أمر الوحشة! قد كرهت البقاء يا أمي، واشتاقت نفسي إلى ماضيها الأمين، قد كرهت التمشي بين القصور الفخمة وروائح العطور الفائحة من التماثيل المتخطرة في "برودواي" واشتاقت حواسي إلى رائحة الأمومة المتنشرة من "فسطانك" العتيق، فقد كرهت "نيويورك" وكرهت "أمريكا" وكرهت العالم، ولم يبقَ في الحياة إلاك، إلاك يا أمي.

في المساء عندما أنطرح على فراشي الخشن القاسي، أذكر يديك اللطيفتين الناعمتين، وفي الليل لما تمتزج أفكاري بأبخرة الأحلام أشعر بقديمك الصغيرتين، تنقران الأرض حول سريري، وفي الصباح أفتح عيني لأراك، فلا أرى غير جدران غرفتي السوداء، ولأسمعك، فلا أسمع غير أصوات الغرباء، وفي النهار أمشي بين النساء مفتشا متسائلا: أيتها النساء هل رأيتن أمي؟

جراء الكلاب تجلس في أحضان أمهاتها، وفراخ الدجاج تحتمي تحت أجنحة أمهاتها، وغصون الأشجار تبقى معانقة أمهاتها، وأنا -أنا وحدي- بعيد عنك، مشوق إليك يا أمي.

إذا مت! يا أمي، إذا قتلني وجدي ودفنت آمالي في هذه الأرض القاسية الغريبة، فاجلسي عند الغروب قرب غابة السنديان واصغي! هناك روحي امتزجت بنسمات الغابة وأشجارها يرتلن بهدوء متمايلات مرددات: يا أمي! يا أمي! يا أمي! ".

هذه أنفاس "أمين مشرق" أعيد قراءتها، ثم أستشعر ما فيها من حرارة ونبل. أوما تحس بروح جميلة يحزنك أن مات صاحبها، مات بعيدا عن "غابة السنديان"! وأي قرار أجمل من "أمي يتردد من حين إلى حين، فكأنك تلقى واحات بصحراء محرقة، واحات ناعمات الظلال: ما أحلاك يا أمي! ما أصفاك يا أمي!

ص: 71

وصرخت يا أمي، هل رأيتن أمي؟ إني مشوق إليك يا أمي.. كم تسكن النفس إلى هذا القرار! وماذا يذكر عن أمه؟ يذكر فتات الحياة التي عرف كبار الشعراء كيف يلتقطونها بأنامل ورعة. يذكر يديها اللطيفتين الناعمتين، ووقع قدميها الصغيرتين حول سريره. يذكر "فسطانها" العتيق وبيتهم الصغير المنفرد، ومن قبل ما حز في نفس "كوبر" أن كانت أمه إلى مهده في ظلام الليل تغطيه خوفا من أن يصيبه برد. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تحركنا؛ لأنها نسيج الحياة، نسيجها الحقيقي. وبهذه التوافه عبر المرهوبون من الأدباء عن أكبر المشاعر. وموضع الإعجاز هو أن نقول الأشياء الكبيرة بألفاظ صغيرة. ولا تحسبن أن هذا أمر هين، فليس أشق من أن نلاحظ ما نراه كل يوم.

وبعد، فهناك شعر صادق جميل، وهناك نثر صادق جميل، سميتهما مهموسين لأعبر عما يثيره التعبير الفرنسي a mi voix الذي نستطيع ترجمته حرفيا بـ" نصف الملفوظ" والمعنى في نفسي ليس واضحا تمام الوضوح؛ لأنه في الحق إحساس أكثر منه معنى، وإنما أستطيع أن أوحي للقارئ بشيء منه إن قلت: إنني أقصد إلى ذلك الأدب الذي سلم من الروح الخطابية التي غلبت على شعرنا التقليدي منذ المتنبي، وتلك روح إن لم تواتها القوة التي امتلكها كبار أصحاب تلك النزعة كالمتنبي وهيجو، ثم تلك الموسيقى الرنانة التي تنزل بالنفس الدوار، فيأخذنا ما يشبه الثمل، فنطرب دون أن نتمهل في إدراك معنى أو تحقيق صورة، أقول: إن تلك النزعة إذا خلت من هاتين الخاصيتين: قوة النفس وموسيقى اللفظ أفسدت الشعر. هذا من الناحية السلبية، الشعر المهموس لا خطابة فيه، وأما من الناحية الإيجابية فهو أدب يصاغ من الحياة وكأنه قطع منها، فيه ما في الحياة من تفاهة ونبل، فيه ما فيها من عظمة وحقارة، فيه ما فيها من ضوء وظلام، أدب حياة، والحياة شيء أليف، شيء قريب مني ومنكم، تلقاها فتتعرف إليها للحظتك، وتستمع إلى سرها فتصدقه؛ لأن قلبك قد أحس في غموض بذلك السر، وجاء الشاعر يهمس إلى فيبصرك بمكانه، لهذا تهتز مشاعرك.

لست أدري أأفصحت أم لا، ولكني في الحق أعتمد على نفاذ روح القارئ؛ لأني يائس من أن أحمل إليه ما في نفسي حملا تاما؛ ولهذا أترك له دائما مشاطرتي التفكير والإحساس. عليه أن يصل ما أقطع، وأن يفصل ما أجمل، وأن يضفي على الإشارة ما خلفها، عليه أن يجهد كما أجهد، وإلا أصبح عبثا ما نكتب، إنه عندئذ

ص: 72

لن يعمق نفسا، لن يشق خيالا، لن يشحذ ذهنا، لكل أن يرجع إلى نفسه، فهي منبع المعرفة منبعها الوحيد، وما أنا وغيري إلا سبل تسوق كلا إلى نفسه.

أدباء المهجر يردونني إلى تلك النفس التي نعتز بها، ولهذا أحبهم، وأنا بعد لا أبرئ نفسي من التأثر بالأدب الغربي الذي تأثر به هؤلاء الأدباء، ولكني أرجو مخلصا أن يأخذ المثقفون منا ثقافة شرقية غالبة أنفسهم بالإمعان في ذلك الأدب، فإنهم سيجدون فيه عناصر إنسانية تمسنا جميعا، شرقيين وغربيين، بل إن فيه خير ما في الشرق، فيه تلك اللهفة الروحية التي وجهت أجدادنا منذ آلاف السنين إلى رحمة الله، فيه مزيج عجيب من القوة والضعف، ذلك المزيج الذي عنه تصدر عظمة مزاجنا الشرقي. وأما خروجه على بعض موضوعاتنا الشعرية، وأما تأبيه على لغة الشعر التقليدية، وأما ركونه إلى التعبير المباشر القوي فتلك حسنات، أو أقل إنها الطريق الوحيد الذي لم يكن بد للأدب العربي الحديث من ابتهاجه؛ لكي يفلت من الصنعة إلى الصدق؛ لكي يرتد إلى الحياة.

يجب أن نطرب للجمال، يجب أن نؤمن بالصدق، وشعراء المهجر يعرفون الصدق والجمال.

ص: 73