الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعرفة والنقد:
رد الأستاذ خلف الله على مقالي الذي دعوت فيه إلى تنحية العلم عن الأدب ونقده، وذلك تحت عنوان "بعض مناهج الدراسة الأدبية"، واحتاط فلم يذكر اسمي، هذا ما أشكره من أجله، والأستاذ خلف الله رجل لبق، ولقد كان من حقي أن ألزم الصمت، ولكني مع ذلك أعود إلى إيضاح رأيي لا رغبة في محاجة الأستاذ -فذلك أمر ثانوي- ولكن لأن المسألة المثارة لها عندي أهمية بالغة وهي خليقة بأن تجدد حياتنا الروحية ومناهج دراستنا تجديدا تاما، وتسير بنا إلى اللحاق بمن سبقنا من الشعوب.
من السهل أن ندافع عن المعرفة فهي شيء نبيل، نبيل حتى لا يحتاج إلى دفاع، ومن السهل أن نرى في الذوق الأدبي شيئا غامضا أقرب إلى التصوف منه إلى الضوء. وأسهل من كل ذلك أن نستشهد بآراء "آبركرومبي" لندل على وجود ملكة إنتاج وملكة نقد، فهذه كلها أشياء نعرفها وهي ليست موضع المناقشة، والذي أريد أن أتبينه هو: هل هناك مجال لجعل النقد علما؟ وهل ذلك ممكن باستعانتنا بعلوم النفس والجمال والاجتماع؟
النقد -كما قلت ويقول كل النقاد- هو في دراسة النصوص وتمييز الأساليب، وهذا الفن يستعين بضروب من المعارف، ولكنه لا يستخدمها ليحاول أن يضع بفضلها قوانين عامة للأدب، ثم يأتي فيطبق تلك القوانين على النص الذي أمامه، فما تمشي مع تلك القوانين كان جيدا، وما خرج عنها كان رديئا. والعلم -كما نعرف- هو اكتشاف القوانين التي تفسر الظواهر الخاصة بكل جانب من الحياة والوجود، فهل الأدب أحد تلك الجوانب؟
والجواب على هذا السؤال يتطلب أن نميز بين عدة أشياء، فهناك ما سماه مفكرو القرن التاسع عشر "علم الأدب"، وهناك ما سماه بول فاليري في القرن العشرين خلق الأدب، ترجمة للفظة Poetique بمعناها الاشتقاقي، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى لدينا "تاريخ الأدب" و"نقد الأدب".
فأما عن علم الأدب فإجماع الأدباء اليوم أنه قد فشل، وكلنا نعرف نظرية
"تين" في ذلك، فقد أراد ذلك الناقد الفيلسوف أن يضع للأدب قوانين يفسره بها، ورد تلك القوانين إلى الزمان والمكان والبيئة، وطبق قوانينه على الأدب الإنجليزي. وهب جميع ذوي النظر السليم ضد هذا العلم الذي لا يستقيم. وإنك لتقرأ في كتب المدارس بفرنسا ردودا على تلك المحاولة لا تستطيع دفعها. والزمان والمكان والبيئة لا يمكن أن تفسر لنا التفاوت الكبير بين بيير كورني وأخيه توما كورني، وأندريه شينييه وأخيه ماري جوزيه شينييه، فهؤلاء إخوة اتحدوا في الزمان والمكان والبيئة، ثم اختلفوا في كل ما عدا ذلك، ومنهم من طبق مجده الآفاق كبيير كورني، وأندريه شينييه، ومنهم من لا نذكره اليوم إلا للتاريخ كتوما كورني وماري جوزيه شينييه، ثم كيف نعلل في أدبنا تفاوت أبي تمام والبحتري أو الفرزدق وجرير، بل كيف نفسر في الأدب أصالة كل كاتب، مع أن الأصالة بتعريفها ذاته شيء لا يرد إلى غيره وهي مجموعة من الخصائص التي تتميز بها روح عن روح، وأنا على ثقة من أن كل علوم الأرض لن تفسر ذلك الشيء الدفين الذي يميز روحي عن روح غيري، والعبرة بعد ليست باتحاد الزمان والمكان والبيئة، بل بطريق استجابة كل نفس لهذه المؤثرات، وتلك الطرق أصيلة في النفوس الأصلية.
وخلق الأدب أو الإنتاج هو الآخر لا يمكن أن يفسره علم النفس، لا القائم منه على الملاحظة الداخلية، ولا الذي يدرس في المعامل؛ وذلك لأن علم النفس لا يسعى إلا إلى إدراك القوانين النفسية العامة التي قد تفسر حياة الأفراد العاديين إذا صح أن هؤلاء يتشابهون. والذين يخلقون الأدب -كما قلت- نفوس أصيلة لكل نفس منها حقائق، فكيف نريد أن نطبق عليهم قوانين علم النفس العامة التي أشك أكبر الشك في صحتها بالنسببة للعاديين من الناس. نعم إن هناك محاولات قد عملت في علم النفس الفردي، وهذه تتناول بالدرس حياة الأفراد في حدود ما تتميز به تلك الحيوات. ولكن هبنا أقمنا تلك الفروق فأين لنا بنسبها، والوجود كله مجموعة من النسب؟ أليس الأجدى -وتلك حالتنا- أن ندرس طرق إنتاج كل كاتب في نفسه، واقفين عند خصائصه هو مع حرصنا الشديد من كل تعميم مخل؟ وأما عن محاولة فاليري فالذي لاحظه كل من استمع لمحاضراته بالكلوليج دي فرانس هو أن نفسه الخاصة هي التي كانت موضع تحليله وإن ساق الحديث على نحو عام، فهو عندما يتحدث عن خلق الصور واقتناص الفنان لتلك الصور قبل أن تأخذ دلالتها العقلية، يتضح أنه
إنما يفسر أسرار شعره هو، إذن فحتى في هذه المعضلة لا مجال لتعميمات العلم!
بقي تاريخ الأدب والنقد الأدبي.
وفي الحق أن التاريخ الأدبي بالمعنى المعروف اليوم فيه جانب كبير من التجوز الذي تضطرنا إليه ضرورة التعليم، والناظر في طرق تاريخ الآداب المختلفة يجد أنها لا تكاد تعدو ثلاثة أنواع:
1-
تأريخ لفنون الأدب Genres Litteraires أو كما نقول في الأدب العربي مثلا: أغراض الشعر، فتتناول في الأدب الغربي فن الملاحم نؤرخ له أو فن القصة أو الدراما، وفي الشعر العربي نتتبع تاريخ المدح أو الرثاء وهكذا.
2-
تأريخ للتيارات العقلية والأخلاقية Les courants كدراستنا لتيار شعر اللذة الحسية عند أناكريون ورونسار ومن نحا نحوهما، أو الغزل العذري عند بترارك وبابيف، أو عند العرجي وعمر بن أبي ربيعة، وعند جميل وقيس بن ذريح.
3-
تأريخ لعصور الذوق Les epoques du gout فندرس عصر الإنتاج الكلاسيكي في أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد مثلا، أو ندرس عصر الصنعة أيام البطالسة بالإسكندرية، ندرس مذهب التثقيف عند أوس بن حجر وزهير والحطيئة وكعب، أو مذهب البديع عند مسلم وبشار وأبي نواس وأبي تمام.
وكل هذه الأنواع إنما نجعلها وحدات لاضطرارنا إلى الاعتماد على الكليات في إدراك ذلك الفيض الذي يكون تراث البشرية الروحي، ولكنا عندما ندقق النظر نجد مفارقات لا حصر لها في داخل كل نوع، فرثاء أصحاب المراثي الذين أفردهم ناقدنا العليم ابن سلام الجمحي بباب خاص، وجعل متمم بن نويرة على رأسهم، غير رثاء البحتري وأبي تمام مثلا، ذلك لوعة وهذا مدح، وشعر أنا كريون اليوناني غير شعر رونسار الفرنسي، ولو اتفقا في التغني بالذات، ذلك يوناني يحب الحياة حتى ليكاد ينهبها نهبا، وهذا فرنسي من رجال النهضة يقلد القدماء ويود لو أصاب الخلود مثلهم، وأين صفاء البحر الأبيض من ضباب اللوار؟ ثم من يقول بأن إباء جميل وقوة نفسه يشبه رقة ابن ذريح وتولهه؟ وكذلك الأمر في عصور الذوق، فأوس وزهير يغايران الحطيئة في لون النفس.
هذان ذوا أنفة وترفع والحطية هجاء لم يبق حتى على نفسه، ثم هل بي حاجة لأن أقرر أن مسلما غير بشار، وأن بشارا غير أبي نواس، وأن أبا تمام يغاير
الجميع؟ أين استهتار بشار وأبي نواس مثلا من فقر حياة أبي تمام؟ بل أين فن هذين من تقليد شيخ البديعيين الذي لم يعد في كل شعره "الرقص في السلاسل" أعني: التقيد بمعاني القدماء ومحاولة تجديد صياغتها.
إذن فالصواب هو أن هناك رجالا، كما قال مورياس على فراش موته، وكل ما يعدو الرجال إلى التعميم مجازفة لا يشفع لها إلا الضرورات الملازمة لحياتنا العقلية. فإذا صح هذا فأي علم وأي قوانين عامة يريد أن يصل إليها الأستاذ خلف الله؟
لم يبقَ أمام زميلنا باب مفتوح غير النقد الأدبي، وهذا ما نريد أن ننظر الآن في إمكان إخضاعه لقوانين عامة.
والواقع أنه قد قامت محاولات لجعل النقد علما، وكل تلك المحاولات يمكن أن نلخصها في اثنتين:
1-
الأولى تلك التي ابتدأها أرسطو التي ازدهرت في أدب عصر النهضة، وهو الأدب المعروف بالكلاسيكي، وأساس تلك المحاولة هو استقراء ما درج عليه عرف الأدباء في كل فن من فنون الأدب، وجعل ذلك العرف قوانين، ومحاولة إخضاع الإنتاج الأدبي لها، وأسهل مثل لذلك هو الوحدات الثلاث في الدراما. أعني وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الموضوع، ووجوب توفرها في كل دراما. ومن الثابت أنه لم يخضع لتلك القوانين حتى في الأدب الكلاسيكي إلا المقلدون من الأدباء؛ وذلك لأنها عكاز الأعمى، وأما كبارهم فقد مزقت عبقرياتهم كل عرف وكل قانون. تجد الوحدات مثلا أوضح عند برادون منها عند راسين أو كورني، ويا ويل أدب يحده شيء غير الحياة.
2-
والمحاولة الثانية هي التي أحاربها اليوم بكل قواي، وهي في الحق من "مخالفات الماضي، من مخلفات القرن التاسع عشر في أوربا، ومن مخلفات "الأعجمي" قدامة في الأدب العربي. وأعني بها تطبيق القوانين التي اهتدت إليها العلوم الأخرى على الأدب ونقد الأدب، وهنا لا بد لي من تفصيل القول". وأنا أبدأ بما حدث في أوربا لكي انتهى منه في أسطر لأفرغ إلى أدبنا، فهو مادة حياتنا وهو أولى بأن نوفر عليه جهدنا لنوجهه الوجهة الصحيحة المنتجة.
كلنا يعلم قيام مذهب التطور في أواخر القرن التاسع عشر بأوربا بفضل أبحاث لامارك ودارون، وكلنا يذكر أن سبنسر قد نقل قوانين التطور من مجال العضويات إلى مجال الروحيات فطبقه على الأخلاق والاجتماع وعلم النفس وما إليها.
وشاءت الأقدار أن ينفق ناقد فرنسي عظيم هو برونتير حياته في تطبيق ذلك المذهب على الأدب، فكتب سلسلة كتب بعنوان "تطور فنون الأدب" أخذ يحتال فيها لكي يثبت أن الأدب هو الآخر كالكائنات العضوية. فكما تطور القرد فأصبح إنسانا كذلك من الواجب أن يكون الأدب قد تطور فاستحال فنا من فنونه إلى فن آخر، ونظر فوجد الشعراء الرومانتيكيين يتحدثون في شعرهم عن الموت والحياة والبقاء والفناء، وعن الروح والله، وعن عظمة الإنسان وبؤسه في داخل الطبيعة وبالقياس إليها، وتذكر أن رجال الدين كانوا في القرن السابع عشر يتخذون تلك الموضوعات ذاتها مادة لوعظهم في خطبهم الدينية "Sermon" فقال:"إن الوعظ الديني قد تطور فأصبح شعرا غنائيا في القرن التاسع عشر". وهذا القول فيه من الحق ما كان يعرفه كافة المثقفين من تشابه موضوعات الوعظ الديني والشعر الغنائي الرومانتيكي، ولكن روح المذهب "Syteme" ورغبة هذا المفكر الكبير في أن يصوغ تلك الحقائق صياغة تماشي القوانين العضوية، وحرصه على أن يكون التطبيق عاما شاملا أفسد الكثير من أحكامه، وذهب بجانب كبير من قيمة مؤلفاته، التي أصبحنا ننظر إليها اليوم كوثائق تاريخية أكثر منها ككتب في تاريخ الأدب ونقد الأدب، وما لنا نذهب بعيدا وهأنا أجد لفظة "سيكولوجية" ترد في مقال الأستاذ خلف الله عدة مرات، وفي كل مرة لا تعدو أن تعبر عن أشياء معروفة قريبة بلفظة ضخمة تنزل بعقلي الدوار، وأنا لا أعرف ما هي "سيكولوجية الأدب" مثلا، وكأني بتلك اللفظة قد أخفت غموضا في نفس الكاتب، بل تعمية أخشى منها على نفسي وعلى غيري، بل لقد بلغ الأمر أن أصبحت لي أنا نفسي "سيكولوجية" فيها تصوف واندفاع وتأثرية. وكل تلك حقائق قد تكون صححية -وما أبرئ نفسي- ولكن أصحيح أيضا أنني أدخل في نوع محدود من أنواع الأجناس البشرية، وأن لي "خانة" يمكن أن أوضع فيها؟ في الحق أن هذا كله شرف لا أدعيه.
محاولة اقتحام العلم على الأدب إذن قد فشلت، وكان هذا من حسن حظ الأدب الذي هو أدق وأرهف وأعمق وأغنى من أن نخطط له طرقه. الأدب شيء غير دقيق بطبيعته، ومحاولة أخذه بالمعادلات جناية عليه. الأدب مفارقات، ونقد الأدب وضع مستمر للمشاكل الجزئية، فقد يكون جماله في تنكير اسم أو نظم جملة أو كبت إحساس أو خلق صورة أو التأليف بين العناصر الموسيقية في اللغة، ولقد يخلو من كثير من العناصر التي نعدها كالخيال والعاطفة وما إليها، ومع ذلك يروقنا لصياغته أو سذاجته.
والأمر في أدبنا العربي أشد خطورة؛ لأن الأوربيين لم يجمدوا على الخطأ كما جمدنا، والذي لا شك فيه أن مناهج كل علم أو فن تصدر عن طبيعة ذلك العلم أو الفن، فعندما نريد درس الأدب العربي يجب أن نكون من الفطنة بحيث لا نحاول أن نطبق عليه آراء الأوربيين وقد صاغوها لآداب غير أدبنا. فعلم الأدب مثلا كما عرفناه سابقا بأنه محاولة تفسير الظواهر الأدبية ليس له دائما مجال في أدبنا؛ لأنك إذا وجدت علاقة ما بين حياة بعض من شعرائنا مثلا وشعرهم كما هو الحال في أبي نواس، والمتنبي، وأبي العلاء، وكما كانت الحال في الأدب الجاهلي والأدب الأموي، فإنك لن تجد شيئا من ذلك عند الشعراء المقلدين الذين نسميهم بالكلاسيكيين الجدد أمثال البحتري وأبي تمام مثلا. وكذلك نظرية الإنتاج الأدبي قد يكون لها محل عند الشعراء الأوائل الذين اهتدوا بأنفسهم إلى تشبيه الرسم الدارس بالوشم في ظاهر اليد وأمثال ذلك. وأما من تلاهم فلم يعدوا التقليد، ولك عندئذ أن تبحث في انتقال القيم الفنية المعروفة، وما أدخلوا عليها من تغيير، وكذلك الحال عندما نحاول تأريخ الأدب العربي، ففنونه وتياراته وعصوره غير متميزة، وهم أنفسهم لم يفصلوا القول إلا في مذهب واحد هو مذهب البديع، فهذا وحده هو الذي يشبه مدارس الأدب في أوربا. وأما ما دون ذلك فمقارنات أشاروا إليها إشارات عابرة، وحاول بعض نقادنا المحدثين أن يجعلها مدارس كما فعل الدكتور طه حسين في مدرسة زهير والحطيئة، ولكنها بعد محاولة لا أدري مبلغ ما فيها من جمع ومنع.
إذن فالذين يبقى لدينا من دراسة القدماء للأدب العربي هو ما نسميه بالنقد الفني، ونعني به ذلك الذي ينظر في النصوص ويحكم فيها من حيث الجودة الفنية وعدمها، وهذا النقد حظ التفسير فيه، ومن ثم ما يسميه الأستاذ خلف الله بالعلم ضعيف، وهذا أمر طبيعي أملته حقائق الأدب العربي ذاته، وكل محاولة لتجريح هذا الاتجاه واتهامه بأنه غير علمي محاولة ظالمة مخطئة.
المنثور في كتاب الأغاني وغيره كتب نقد منهجي مفصل لا نظن أن الأوربيين قد وضعوا في آدابهم خيرا منها، ومع ملاحظة الفارق بين طبيعة أدبنا وآدابهم، وخير مثل لتلك الكتب هو "الموازنة" و"الوساطة" ففي أولهما يتناول الآمدي البحتري وأبا تمام بالدرس التفصيلي والمقارنة المستقصاة وفق منهج وضحته في كتاب أرجو أن يقرأه الناس قريبا1، وفي ثانيهما فعل عبد العزيز الجرجاني كذلك في دراسته للمتنبي.
1 كتاب النقد المنهجي عند العرب.
ولكن إلى جانب هذا النقد المنهجي الرائع قامت محاولة "قدامة" التي يريد الأستاذ خلف الله أن يجدد محنتها اليوم. وموضع الخطر عند "قدامة" وعند "العسكري" الذي يعتبر استمرارا لمذهب -هو اعتماد نقده على التقاسيم والشكل والتعليم والتحكيم، ومن منا لا يذكر تعريفه للشعر بأنه: الكلام الموزون المقفى الذي يدل على معنى؛ ليخرج غير الكلام الأغراض ومناهجها وتمكن بأن يكون المدح بأشياء ولا يكون غير الموزون وغير المقفى وغير ذي المعنى وما إلى ذلك من حماقات؛ ومن منا لا يذكر رده الرثاء والفخر إلى المدح وحصره لمعاني تلك بأشياء، ثم ماذا فعل في تقسيمه لأوجه البديع غير الخلط حتى في الاصطلاحات، ورفضه أن يسمى المطابق مطابقا كما سماه ابن المعتز وتسميته له بالمتكافئ، ثم تعريفه المعاظلة بأنها فاحش الاستعارة وما إلى ذلك من خلط. ثم هبه قسم الأوجه بل هبه مهد السبيل للعسكري ليصل بها إلى خمسة وثلاثين وجها، فماذا أفدنا من ذلك؟ وماذا يفيد طلبتنا اليوم من لصق بطاقات على طرق الأداء كما يلصق التجار على بضائعهم؟ أهذا نقد؟ أهو بلاغة؟ أهو أدب؟ هذا لا شيء، هذا إضلال للمتأدبين وإفقار للذوق وإماتة للحاسة الفنية في النفوس، لقد قلت وأكرر: إن كتب قدامة وكتاب أبي هلال مستطيرة الشرر، ومن الواجب أن نلفت الأنظار إلى أنه لا يجب أن ينظر إليها المتعلمون إلا كوثائق تاريخية تنير لنا ماضينا، وأما أن نعتبرها كتب نقد فلا، وكفى طغيانها على كتب المتأخرين حتى يومنا، فقد كانت في ذلك محنتنا، ومن واجبنا أن ندافع عن حياتنا التي يغذيها الأدب الصحيح.
أما عبد القاهر الجرجاني فقد قلت للأستاذ خلف الله شفويا: إنني لا أعدل بكتاب "دلائل الإعجاز" كتابا آخر، وأما "أسرار البلاغة" فمرتبته في نظري دون "الدلائل" بكثير. الدلائل تشتمل على نظرية في اللغة وتطبيق تلك النظرية، وأما "أسرار البلاغة" فأقرب إلى الفلسفة النظرية منها إلى النقد الأدبي، وليكن تفصيل ذلك موضوع الحديث الآتي. وكفى أن وصلنا الآن إلى رد اتجاه العلم عن الأدب، وسوف نرى في مذهب عبد القاهر جانبا كبيرا من المعرفة التي يجب أن تتوفر للناقد، وهي بعد ليست معرفة نظرية بل معرفة لغوية وفنية تكتسب بالدربة، وبدراسة علوم اللغة لا بدراسة المنطق والسيكولوجية والجمال وما إليها.