الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نداء المجهول والأدب الواقعي:
لا أريد أن أتعجل القول عن تيارات أدبنا الحديث؛ لأني شديد الحذر من كل تعميم لا يصدر عن استقصاء. وهأنا أقصر القول على كتاب واحد كل مؤلف، ومع ذلك فإنني كلما عاودت النظر في الكتب الأخرى لأدبائنا الذين أتحدث عنهم وجدت أننا لا نبعد كثيرا عن الصواب عندما نحاول استخلاص اتجاه كل منهم من الكتاب الذي ننقده، بل أظن أنه باستطاعتنا أن نرسم منذ اليوم تخطيطا عاما لمذاهب أدبائنا.
وللنظرة الأولى يبدو أن لدينا في القصة الاتجاه التاريخي الذي ابتدأه جرجي زيدان، وجاء فريد أبو حديد فجدد من معناه وحدد من وسائله وأوشك أن يخلقه خلقا جديدا في "الملك الضليل" و"زنوبيا"، وتبعه في ذلك شاب ينبعث عنه الأمل هو على أحمد باكثير كاتب "أخناتون" و"سلامة القس" و"جهاد" التي نالت إحدى جوائز وزارة المعارف، والقصة التحليلية تمثلها "سارة" للعقاد، ثم أدب الفكرة الذي يصدر عنه توفيق الحكيم، ومنحى طه حسين الذي يتميز بموسيقاه وتدفق عواطفه، وأخيرا لدينا الأدب الواقعي الذي برع فيه محمود تيمور.
وهذه بعد اتجاهات عامة لا نزعم أن بينها فواصل قاطعة، فقد يكون في القصة التاريخية تحليل دقيق، وقد يكون في أدب الفكرة شخصيات واقعية، وقد يجتمع النفاذ النفسي إلى انهمار الإحساس، بل قد لا يخلو واقع تيمور من نغمات الشعر، ولكنني رغم ذلك مطمئن إلى التقسيم إن لم يكن بد من التحديد العام. وأنا أرى بعد فيه نفعا؛ إذ قد يساعد الكتاب والقراء على التحمس لهذا المذهب أو ذاك والدفاع عنه والاقتتال في سبيله، مما يجدد أدبنا ويوضح سبله.
وهأنا اليوم أعرض "نداء المجهول" كنموذج دقيق للأدب الواقعي، وأنا أقدر أن القارئ قد يصيح به: رويدك! لقد ضللت الطريق، "فنداء المجهول" لست قصة واقعية، وكتابها وإن يكن قد عُرف بقصص الواقع فقد تجدد فنه وكتب هذه القصة من نوع جديد. هذه قصة أسرار، قصة مغامرات، نداء المجهول، فأين هذا من الواقع؟ ومتى كان المجهول واقعا؟
وأنا أعرف هذا الاعتراض وقد سبق أن قرأت قصص تيمور الأخرى، إن لم يكن كلها فمعظمها، ومع ذلك أصر على أن "نداء المجهول" قصة واقعية، وأن محمود تيمور لم يتغير ولم يتجدد ولا تنكر لماضيه ففنه هو هو، وأسلوب الرجل هو الرجل نفسه، ولننظر في ذلك.
وأول ما يطالعنا من تلك القصة هو أنك لا تستطيع أن تلخصها في جملة، فهي غير "بجماليون" المبنية على فكرة التعارض بين الفن والحياة وتحريك الشخصيات كرموز لعلاج تلك الفكرة، وهي غير "دعاء الكروان" التي تجد فيها كل شيء: الشعر في صوت الطائر، ووصف أخلاق الريف المصري في ليالي العمدة، والدراما في قتل هنادي، والقصص التحليلي فلي غرام آمنة بالمهندس، وأما وحدة القصة فأوضح ما تكون في موسيقى المؤلف وسحر أسلوبه.
"نداء المجهول" بهو شجبت به عدة صور؛ ولكنها صور ليست ساكنة فهي تتحرك ملائمة بين حقائقها النفسية وما سيقت إليه من مغامرات. أتريد أن تعرف تلك الصور، بل أن تعرف أصحابها وتميزهم من بين الناس كافة؟
دعنا من الراوي فهو المؤلف نفسه، وما لنا أن نقسوَ على الكاتب فنطالبه بأن يخرج عن حياته فيرسم لنفسه صورة؛ لأن مصادفات الحياة قد ساقته إلى أن يكون أحد أبطال الرواية، وانظر إلى زملائه: فالشيخ "عاد" صاحب فندق في لبنان قد "تعود أن يظهر أمامنا بملابسه الشرقية البديعة، القفاطين الوطنية ذات الألوان الزاهية والجبب الحريرية الفضفاضة الموشاة بالقصب، دائم الابتسام يروح فيها ويغدو بمشيئته المتزنة الهادئة ووجهه الصبيح المشرق فتخاله سلطانا من سلاطين ألف ليلة
…
".
وأنا أعترف مع القارئ أن لو اتفق لي أن ذهبت إلى لبنان وبحثت عن الشيخ "عاد" بين أصحاب الفنادق ما استطعت أن أميزه في يسر؛ لأن الكثيرين منهم يلبسون القفاطين الوطنية ذات الألوان الزاهية والجبب الحريرية الفضفاضة الموشاة بالقصب، كما يبتسمون بوجوه صبيحة فيشبهون سلاطين ألف ليلة، ومع ذلك فلنغتفر للكاتب إهماله في عدم تدقيق البصر وتمييزه للشيخ "عاد" بشيء يفرق بينه وبين غيره، ولعل للراوي عذره، فهو معجب بالشيخ "عاد"؛ لأن الرجل "حلو الحديث، غاية في السماحة وكرم الضيافة"، وهو بعد قد دل في القصة على شجاعة نادرة وروح كامن للتضحية بل المجازفة النبيلة، وفي هذا ما يدعو الكاتب بلا ريب إلى ألا يرى فيه غير كل جميل، في روحه وفي ملابسه، وألفاظ الجمال عامة لا تحديد فيها وهي ليست من الواقعية في شيء كثير.
ولنترك إذن الشيخ "عاد" فصورته ممحوة المعالم وقسماته الروحية لا تجد لها في نفوسنا مستقرا من اللحم والدم، ولكن للنظر إلى نزلاء الفندق الذين اشتركوا في "الحكاية". فثمة "رجل سوري مترهل الجسم، له رقبة مجعدة ناحلة كرقبة النسر الهرم اسمه "كنعان" يدعي أنه أستاذ للتاريخ في دار الفنون باستانبول.. نراه دائما في الحديقة حيث يفترش العشب الأخضر ويتوسد حزمة من الهشيم ويمضي يدخن النارجيلة في اطمئنان". وهذه الصورة بل لوحة لا يمكن أن يخطئها أحد. وهبنا لاقينا الرجل بحديقة الفندق أتحسب أننا لا نعرفه للحظتنا؟ وهل بعد "رقبته المجعدة الناحلة كرقبة النسر الهرم" من أمارة مميزة؟ هذه قسمة من الواقع. طوبى لمن يقع على مثلها. ما أحدها ملاحظة وما أقواها عبارة! وكنعان "يدعي" أنه أستاذ للتاريخ في دار الفنون بـ"استانبول" ولقد يكون هذا صحيحا؛ لأن الراوي لم يجزم بشيء، ونحن أيضا لا نستطيع أن نجزم بشيء، ولكن كنعان على أي حال أستاذ "فريد""أصيل""متفيقه" شخصية تدعو إلى الابتسام، وقد عالجها المؤلف في عبث Humour نافذ. ألا تراه يقص علينا كيف أن "حبيبا" الخادم لا يجد حرجا في أن يأخذ من الأستاذ كنعان صحفه خلسه، ولم لا و"حبيب" يلاحظ أن تلك الصحف تظل في لفائفها أبد الدهر، وأن الأستاذ عندما يضيق بها ذرعا يرصها تحت السرير لتكون طعمة للفيران..
لا شك في أن "حبيبا" مصيب عندما يرى أنه أولى بها من الفيران. ولقد يتحدث الراوي مع الشيخ عاد و"مس إيفانس" السيدة الإنجليزية -التي سيأتي ذكرها عما قريب- عن قصر حديث منحوت في الجبل، فينحي الأستاذ كنعان فمه عن مبسم النارجيلة ويقول:"كان يجدر بكم أن تسألوني في هذا الأثر العظيم. إنه من بقايا الرومان، وعمارته بيزنطية بحتة، والذي شيده الإمبراطور يونان.." فتبتسم لهذا العلم الغزير الذي يجمع بين الرومان والطراز البيزنطي وإمبراطور يونان! ولا عجب، فالأستاذ كنعان مثال خالد للعالم المتفيقه المغرور الكسول المضحك، الأستاذ كنعان هو ما يسمونه بالفرنسية Cuistre لوصف مثل هذا الأستاذ الجليل. وابتسامنا من الأستاذ كنعان لا يلبث أن ينقلب ضحكا صراحا عندما نراه يحدث الراوي عن تلك المنطقة الجبلية:
"إنك لو سألت حصباء هذا الوادي، واستجوبت صخور ذلك الجبل، لروت لك ما عانيت من مشقة في بحثي واستقصائي، أنت تجهل بلا ريب أني أعد محاضرة في طبقات أرض هذه المنطقة وأطوارها في التاريخ..".
- بحث ممتع بلا ريب!
- ولكنه متعب يا ولدي! أتصدق أني قضيت ليلة أمس لم يغمض لي جفن، وأنا مكب على أوراقي وكتبي والقلم لم يبرح يدي لحظة؟
- كان الله في العون.
- والآن أنا في حاجة إلى التمدد قليلا في الحديقة، أليس لأبداننا علينا حق؟
أية سخرية في هذا الحوار الممتع؟ وأي صدق في تصوير هذا الغرور الملتوي، وذلك التواضع الكاذب؟ هذا حوار كاتب كبير. وتصل مهزلة الأستاذ كنعان الذي يحدثنا الراوي نفسه بأنه عالم كبير إلى غايتها، عندما تتفق الجماعة على السير إلى الجبل لاكتشاف "القصر المسحور" المنحوت في الصخر. ويأتي الصباح والقافلة تنتظر الأستاذ كنعان على باب الفندق، والأستاذ لم يظهر بعد. وقالت "مس إيفانس" نذهب إليه.. "وقصدنا إلى حجرة الأستاذ كنعان، فراعنا صوت غريب يتجاوب في أرجائها، فأنصتنا فإذا به غطيط مزعج يعلو ويهبط في نغمات ساذجة، وفي حشرجة فتقدم "الشيخ عاد" ودق الباب، فلم يجبه إلا الغطيط، وتابع دقه والنائم على حاله يملأ الجو بصوته الكريه وأنفاسه الجافة.
وأخيرًا تقدمت "الراوي" لأعاون الشيخ في دق الباب.. ولكن لا حياة لمن تنادي! وقامت رغبة صادقة في استطلاع سر هذا الغطيط غير الطبيعي، فاستأذنت صديقتي وصديقي وجعلت أنظر من ثقب المفتاح، فإذا بي أرى "الأستاذ كنعان" جالسا على سريره يتميز غيظا وهو منهمك في إرسال غطيطه العجيب، يوهمنا به أنه مستغرق في نوم عميق. فرفعت رأسي وأشرت إلى "مس إيفانس" أن تنظر ففعلت، ثم أشارت هي إلى "الشيخ عاد" أن ينظر ففعل.. وتبادلنا النظرات المصحوبة بالابتسامات، وتركنا المكان نمشي على أطراف الأصابع". ولو أنني رأيتهم في ذلك اليوم لاستغرقت في الضحك، هذه لوحة يجمع الخيال بين عناصرها فتضحك: الأستاذ كنعان الذي يتناوم بل يغط في نومه خوفا من صعود جبل يعرف حصباءه، وهؤلاء الأخوان الذين يرونه من ثقب الباب متربعا على سريره يتميز غيظا وهو منهمك في إرسال غطيطه العجيب! ثم منظرهم وقد تبادلوا النظرات المصحوبة بالابتسامات. ثم يتركون المكان على أطراف الأصابع كي لا يوقظوا الأستاذ! أليست هذه صورًا من واقع الحياة؟ إن شخصية الأستاذ كنعان وكل ما كان لها من أحداث أنموذج بشرى صادق، لو لم يكن في الرواية غيره لكفى لتعتبر من عيون الأدب الواقعي.
فكيف بنا لو نظرنا إلى تلك الشخصية الأخرى العجيبة، شخصية "مجاعص"
دليل الرحلة إلى القصر، نراه لأول مرة في حديقة الفندق، حيث كان يجلس الراوي مع "مس إيفانس"، وإذا "بحبيب" الخادم ينبئ بقدومه، ويسمح له بالمجيء، وغاب "حبيب" هنيهة ثم عاد ومعه رجل منبسط القامة، عريض الجوانب، مكتنز العضلات، له شارب غليظ كأنه مصنوع من الأبنوس، ورقبة كأنها الجذع العتيق.. ينظر إلينا نظرات حادة كأنه يزدرينا! واقترب الرجل من "مس إيفانس" وحياها، فأحسنت لقاءه، ثم التفتت نحوي "نحو الراوي" وقالت وهي تتلطف في بسمتها: أقدم لك دليلي الذي أعتمد عليه في ارتياد هذه المنطقة.. ودنا الرجل مني وصافحني في شيء من التحفظ، وقال بصوت خشن وهو يفتل شاربه، أو بالأحرى يداعبه مزهوا: "محسوبك مجاعص ابن الجبل.. أعرف هذه الجهة ومخابئها وطرقاتها، وكما أعرف أصابع يدي.. يمكنني -صيفا وشتاء- أن أسير في الليل، كما أسير في النهار، لا تعوقني ظلمة ولا رياح ولا لصوص ولا ضوار ولا
…
"، ونحن وإن كنا لن نستطيع أن نميزه عندما نذهب إلى لبنان -إن قدر لنا ذلك- بنفس السهولة التي سنميز بها "الأستاذ كنعان" ذا الرقبة المجعدة الناحلة كرقبة النسر الهرم، إلا أننا فيما أظن سننجح في التعرف إليه خصوصا إذا ذكرنا أخلاقه.
فهذا المسكين رغم مكابرته الساذجة قد انتهى بأن أظهر هلعا واضحا عندما وصلت الجماعة في رحلتها في الجبل إلى مفاوز مخيفة، ولعل له العذر في ذلك؛ فقد تكالبت عليه المحن فانهارت به الصخور مرة وجرح، ولولا شجاعة "الشيخ عاد" الذي تدلى بالحبل لينقذه من الهاوية التي سقط فيها لمات، ومع ذلك فقد انتهى به الأمر إلى الموت في سقطة أخرى في القصر نفسه، وفي ذلك اليوم لم تُجْدِ شجاعة الشيخ عاد شيئا، فإنه عندما نزل بالحبل إلى الهاوية التي سقط فيها مجاعص وجده جثة هادة، مهشم الرأس، فعاد به ودفنوه، وكللت "مس إيفانس" قبره بالورد. وقد حزنا لموته؛ لأن الراوي نفسه قد حزن هو ورفيقاه إذ عثروا وهم عائدون ببغلتين كاللتين كانتا معهم في الذهاب، واللتين اضطروا إلى التخلي عنها لضيق المفاوز، وتأملوا في البغلتين فوجدوهما محجلتين كبغلتيهم، ولكن أنَّى لهم أنَّى يجزموا بشيء، وهل كان يستطيع أن يجزم بشيء كهذا غير المسكين "مجاعص"؟ وقال الراوي:"صحيح هما محجلتان.. ولكن ليس هذا دليلا قاطعا.. لو كان المرحوم "مجاعص" بيننا لأنقذنا من هذه الحيرة بالخبر واليقين".
وبهذه الجملة البسيطة، بهذه الحادثة الصغيرة استطاع الكاتب أن يحيي ذكرى مجاعص في نفوسنا، بل وأن يلونها تلوينا عاطفيا بالغ الرقة، والآن لم يبقَ في "البهو" غير حبيب الخادم و"مس
إيفانس"، وحبيب خادم ككل الخدم، وإن كان مغرما بالقراءة، وهذا نادر حتى بين الأسياد! وأما "مس إيفانس" فبطلة القصة فيما يظهر، وإن كنت عن نفسي لا أعدل "بالأستاذ كنعان" أحدا، لا لأنه أستاذ فحسب، بل لأنه "الأستاذ كنعان" الذي سأراه أمام بصرى، وسأبتسم، بل قد أضحك كلما ذكرته.
"مس إيفانس" سيدة إنجليزية قليلة الكلام محبة للعزلة، أتت إلى لبنان عقب أزمة نفسية، أوحت إليها بفلسفة عارضة في الحياة، زبد نفضه الألم على السطح.
كانت مثلنا تسعى للاستمتاع بتلك الزخارف البراقة حتى تكشف لها المجتمع عن حقيقته، وبان لها زيفه وبهتانه.. وثقت بدنيانا هذه فأودعتها أعز ما تملك.. أودعتها قلبها، ولكنها ردت إليها هذا القلب مطعونا.. فكرهت دنيانا..كرهتها!
حب خاب.. مأساة النساء بل والرجال منذ أن وجد الزمن وإلى أن يفنى الزمن. والنفس إذا حزت فيها الآلام حاولت أن تتمثل بأي شيء بالمغامرة مثلا. وهذا ما كان، "فمس إيفانس" قد سمعت بوجود قصر مسحور في الجبل وقد تسقطت أحاديثه فنزعت إلى السير إليه، وكأن مجهولا يناديها منه نداء لاقى صدى بنفسها التي لم يعد يعمرها شيء، فاتسعت لنداء المجهول، وكونت "مس إيفانس" بمحض المصادفة قافلة صغيرة للبحث عن القصر، أفرادها هم من ذكرت: الشيخ عاد، وراوي القصة، ومجاعص، ثم هي وساروا في رحلة شاقة تجدها في القصة، حتى انتهوا إلى القصر، وهنا قد يقول القارئ: ولكن هذه مغامرة خيالية! أبدا فالقصر حقيقة واقعة بناه الشيخ "بشير الصافي" وكان رجلا عظيم السلطان تؤازره عشائر شتى، وكانت له مع الدولة العثمانية مواقف مشهورة، وكان الولاة يرهبون جانبه ويجاملونه ما استطاعوا، ويضمرون له الشر للإيقاع به عند إمكان الفرصة، ولكن فطنته وسعة حيلته جعلته يخشى أن يتنكر له الدهر، فاختار مكانا في ركن يخفيه الجبل يصعب الاهتداء إليه، وشيد فيه قصرا محصنا يعتصم به هو ومن معه إذا اضطرهم الأمر إلى الاختفاء.. و"كان ذلك منذ زمن العثمانيين وأما الآن فقد آل القصر إلى حفيد الشيخ بشير، إلى يوسف الصافي. ولقد كانت لهذا الأخير قصة مؤثرة؛ إذ إنه أحب فتاة وطلبها إلى أبيها، ولكن الأب رفض وهَمَّ بتزويجها إلى رجل آخر، رغم حب الفتاة ليوسف، واتفق الشاب مع حبيبته على أن يقتلها ويقتل نفسه، وفعلا قتلها في ليلة زفافها، وأما هو فقد ضعفت يده عن قتل نفسه، ولئن شاع بين الناس أنه قد انتحر فإن هذا لم يكن صحيحا؛ إذ هام على وجهه وما زال يتخبط في بقاع الأرض حتى انتهى بالوصول إلى قصر جده.. وهناك أقام، مصدر رعب لكل من يدنو من القصر،
يهيل عليه الصخور أو ينصب له الشرك، حتى شاع وذاع أن القصر مسحور، وكانت بالقصر حدائق دانية الجنان استطاع أن يحيا فيها يوسف ربع قرن بأكمله.
وصلت القافلة إلى القصر بعد أن نجت من حبائل يوسف بحسن توفيق، فقد شاء القضاء ألا يصيب خنجره منهم أحدًا. بينهما استطاع "الراوي" أن يصيبه بطلقة نارية عن غدَّارته، وهنا أخذت "مس إيفانس" تُعنى بأمر يوسف الجريح، ويوسف يهذي فيناديها بـ"صفاء" واهما أنها خطيبته التي كانت تحمل هذا الاسم، وفي ذلك ما يحرك قلب "مس إيفانس" ويرنح خيالها، حتى إذا شفي الرجل وثاب إلى رشده، لم يعد يناديها بهذا الاسم الجميل، وكأنه فطن إلى أنها غير حبيبته التي غادر الأحياء من أجلها. ونحن بعد لا ندري ماذا أحست "مس إيفانس" عندما عرفت تل الحقيقة ورأت يوسف يناديها بـ"مس إيفانس" فهذه أسرار نضيفها إلى غيرها، مما يملأ نفس "مس إيفانس" وإن تكن كلها أسرار واضحة. هل هي إلا فراغ النفس؟ فراغها المؤلم. وأيا ما يكون الأمر فقد ضاقت "مس إيفانس" بالبقاء في هذا المكان الموحش، وأصبحت تقول:"إني أسمى هذه العزلة مرضا اجتماعيا.. لكل امرئ في الحياة رسالة يجب أن يؤديها لبني جنسه. فإذا نكص على عقبيه عد ذلك فرارا من الميدان". وهذا تحول عجيب في فلسفة "مس إيفانس" في الحياة، ولكن ألم أقل لك إن فلسفتها زبد نفضه الألم على السطح؟
وغادرت القافلة المكان عائدة بعد أن فقدت "مجاعص"، ولكن "مس إيفانس" ظلت "تقضي وقتا غير قصير تطيل النظر إلى الجهة التي يقوم فيها قصرنا المسحور.."، وفي اليوم الثالث من الرحلة صحا الراوي من نومه واجتمع بـ"الشيخ عاد" لتناول الفطور، ولكنه لم يجد "مس إيفانس". فسأله الشيخ عاد عنها فلم يجبه.. بل اقتصر على ابتسامة "هادئة مديدة"، فيها معنى الاستسلام والاستخفاف بكل شيء. إلى أين ذهبت؟.. ألم تفهم؟ لقد استجابت لنداء المجهول الذي كانت تبحث عنه. عادت إلى يوسف إن لم يكن بد من الإفصاح. أما ما كان من أمرها بعد العودة إليه، فذلك ما ليس لنا به علم؛ إذا إن الراوي لم يحدثنا عن شيء بعد هذا، ولي ولك أيها القارئ، وسيكون للأجيال المتلاحقة بعدنا أن نفكر في مصير "مس إيفانس" التي ستهز خيالنا لزمن طويل.
ولعل القارئ يعود فيسائلني: هل "مس إيفانس" هذه من الحياة حقا، أم هي خيال شاعر؟ وأنا في الحق لا أكاد أتصور هذه الفتاة العجيبة في وضوح؛ لأن الراوي كان أيضا معجبا بها، بل لقد داعب حبها قلبه فلم يمعن فيها النظر، كما لم يمعنه الشيخ "عاد". وهنا تظهر حقيقة أدبية كبيرة، تفسر لنا كيف أن الأدب الواقعي أمعن في
وصف الشاذ القبيح الدال، منه في وصف الجمال. فصفات الجمال كما قلت ألفاظ عامة كلها من نوع الكلمات المبتذلة التي تلوكها ألسن اليافعين واليافعات "فلان زي القمر" و"فلان زي البدر" وأمثال ذلك. وهكذا يقول الراوي عن "مس إيفانس""وجلست على المقعد متمددة فظهرت معالم جسمها الفاتن وحدقت في السماء بعينيها الصافيتي الزرقة اللتين تكشفان عن عراقة منبت وسلامة قلب، وهذه أوصاف جميلة موحية، أجلها عن الابتذال ولكن هل أفادت تحديدا؟ وهل في لغة الجمال تحديد؟ كم في العالم من "مفاتن جسمية" وكم فيه من "أعين زرق صافية تكشف عن عراقة منبت وسلامة قلب"، ونحن نلتمس للراوي العذر، فهذه مشكلة لا حل لها إلا أن نغير لغة البشر، وهو بعد قد تورط في التعلق "بمس إيفانس" حتى لقد أصابته الغيرة من يوسف. وإلى اليوم ما زلت أفكر في الأثر الذي خلفته بنفسه تلك المغامرة.
نداء المجهول إذن قصة واقعية. واقعية في تفاصيل موضوعها. واقعية في طريقة قصصها واقعية بشخصياتها. ولئن أحاط مس "إيفانس" جو من الشعر فإنه لا يستطيع أن يخفى ما فيها من حقائق نفسية، فهي شخصية نفسية إن لم تكن شخصية من دم ولحم. "نداء المجهول" واقعية بأسلوبها. ولتيمور أسلوب أصيل. أسلوب خطفات دالة موجزة مركزة موحية دقيقة. أتريد أمثلة؟ أذكر أسماء الأعلام وما فيها من بيان، الشيخ عاد والأستاذ كنعان ثم مجاعص، مجاعص بنوع خاص وما فيه من "جعاصة" تدعونا إلى الابتسام المشفق.
وأخيرا صفاء وإن لم نخل من دهشة لاتفاق اسم "الصافي وصفاء" فقد تم في سهولة مسرفة كنت أود لو نجا منها تيمور، ثم أذكر جمله ولوحاته العديدة في القصة: ورأيت الشمس تنحدر الهوينى في الأفق. وقد "أخذ يبتلعها خضم الضباب القاني "وقت الغروب في الجبل" المترامي بأطراف الوديان الزاحف علينا من طلائع الليل". أولست ترى المنظر؟ أولست تحس بزحف الضباب؟! أذكر "الرعاة بوجوههم الطويلة المشدودة البشرة" ثم تصور مجاعص وهو يحاول "إخضاع" لقمة كبيرة حشا بها فمه، وقارن صورته هذه بصورته أثناء الرحلة:"ومر بعد ذلك يومان أيضا وأوشك الزاد أن ينفد على الرغم من تقتيرنا فيما نأكل منه "فيما نأكل منه، حشو هممنا بحذفه" واعترض "مجاعص" وجوم غريب وغشيته كآبة صماء" ولم يعد "يسمعنا مبالغاته المستفيضة في وصف شجاعته والإدلال بخبرته، وتراخى شارباه وانحنت قامته وكان إذا صادفته في الطريق عقبة كئود طمح ببصره إلى السماء وصرخ من أعماق قلبه: الله يخرب القصر ويحرق اللي بناه" ثم هذه اللوحة التي كأنها رسمت بريشة مصور ماهر يعرف كيف يجمع شخصياته ويميز بينهما. لوحة أفراد الرحلة
وهم بمأوى في إحدى الليالي: "ثم رأينا المأوى وقد بدأت تنيره أشعة القمر فتنهدت طويلا وطفت بعيني فألفيت "مس إيفانس" منكمشة بجواري تدور برأسها الدقيق حولها، وعيناها لامتعان كما تلمع الماسة المصقولة والشيخ "عاد ينظر أمامه نظرا تائها مسترسلا في أحلامه. أما مجاعص فقد كوم نفسه وراح في سبات عميق! ".
وأخيرا دعنا من هفوات الكاتب كقوله عن نرجيلة الأستاذ كنعان ليلة كانوا ينصتون إلى المعلومات التي استطاع الشيخ عاد أن يجمعها عن القصر، ولا تستمع إلى دعواه أنه "انبعث بمائها هدير عال، كأنما هي أيضا تطالبه "تطالب الشيخ عاد" أن يروي لنا حكاية هذه الفاجعة، فاجعة يوسف الصافي".. فهذا ليس صحيحا وما سمعنا أن نرجيلة تهدر مطالبة بقص حكاية، هذا ظن تافه لا ندري كيف وقع فيه تيمور الدقيق الحس الصادق الذوق، ودعنا من العبارات المحفوظة التي أمقتها؛ لأنه لم يعد لها لون وقد أكلها التحات حتى أصبحت لا تدل إلا على الكسل العقلي الذي يحجم عن البحث عن العبارة الدقيقة، وذلك أمثال "يقلب له الدهر يوما ظهر المجن""ص48""ولا حياة لمن تنادي" فهي أيضا -على تفاوت في النسب- عبارة بالية، ثم انظر في كل ما بقي، ترَ أسلوبا دقيقا لرجل يعرف أسرار اللغة ويحسن استخدامها. "أصبح عند بعض الناس خرافة ليس لها وجود، وعند بعض آخرين، مكانا تعمره الشياطين"، وتأمل في قوله: بعض الناس.. وبعض آخرين، فهو لم يقل "البعض الآخر" حتى لا يفيد تعميما لا يريده. وأنس لتيمور ابن اللغوي تيمور باشا الجمع "أميال""ص55" بدلا من "ميول" الدارجة الجميلة ثم تأمل في الصمت "الرازح""ص65" و"شحيح البغلتين"و"ما عتمت أن غشيني النعاس""ص8"، "جسمي يشجب دما""ص82" و"خطين من الدموع يتهاديان على خديه" و"كلمة صفاء المنقوشة في الصخر الأملس تتدفق عليها مياه الينبوع فتدعها تختلج حروفها كأن لها قلبا حيا ينبض""ص121" و"نار المدفأة تتلاعب على سقف المأوى في أشكال بشعة، وذلك في ليلة هاجت فيها نفس الراوي وتألمت وسمع فيها عواء حسبه صدى "لصوت نفسه العليلة المضطربة" ثم أطال التحديق "بنظرة الشيخ عاد الثابتة" وقد بلغ من ثباتها أن حملت الراوي على أن يصدع بأمر الشيخ رغم ما في أمره في مجازفة خطرة، ثم الشعلة "التي لاحت بقاع البئر كأنها بصيص ثقاب" "ص136" وأخيرا تصور "اليأس يعشش في نفسي" "ص149". أليست هذه كلها أمارة الدقة عند كاتب يعرف كيف يختار ألفاظه ويرسم صوره، كما يعرف فن القصة وأصولها. محمود تيمور كاتب واقعي، كاتب ممتاز، إنني لا أكتم محبتي لأدب هذا الكاتب.
دعاء الكروان 1 ومشاكلة الواقع:
"دعاء الكروان" قصة يمهد نصفها الأول للنصف الأخير، تبدأ بمأساة وتنتهي بزواج، وبين الحادثتين جرائم ولوحات، منها ما يمت إلى القصة بسبب قوي، ومنها ما يتراخى به ذلك السبب وإن لم يعدم القيمة الذاتية.
رجل معوج الخلق في بيئة بدوية، يقع بالشرك في إحدى مغامراته فيقتله من اعتدى على شرفهم، ويخلف زوجة وبنتين يطردهن أهلهن دفعا للعار، فيذهبن ليعملن خادمات بإحدى مدن الريف الصغيرة: آمنة إحدى البنتين بمنزل المأمور، وهنادي أختها عند مهندس الري، وتسقط هنادي فتسير الأم ببنتيها إلى بلد آخر، حيث ينزلن ضيوفا بدوار العمدة، ومن هنا ترسل الأم إلى أخيها خبرا مع إحدى النساء اللاتي يأتين إلى السوق، فيسرع الأخ بالمجيء، ويعلم الأخ بسقوط الفتاة، فيتركهن ليعد في الطريق حفرة يدفن فيها هنادي التي صمم على قتلها في طريق العودة. وتتم الجريمة، كما دبرها تاركة في خيال آمنة أثرا عنيفا، ينتهي بها إلى الهذيان عند وصولهم، وقد استحالت عليها الحياة حتى لم تجد مفرا من أن تغادر البلدة من جديدة بمجرد أن تماسكت قواها. وينتهي بها المسير إلى بيت الأمور، حيث كانت أول الأمر، وهنالك تعلم أن المهندس قد استبدل بأختها فتاة أخرى، فتثور حفيظتها، وتود لو وجدت سبيلا إلى الانتقام، وكانت للمأمور بنت -خديجة- في سن آمنة، وحدث أن خطبت خديجة للمهندس، وإذا بآمنة تسوقها غرائز غامضة إلى عرقلة هذا الزواج، فتخبر أم الفتاة بما كان بين المهندس وهنادي، وبذلك تصل إلى ما تريد، وبعد عدة مناورات ينتهي الأمر بآمنة إلى العمل ببيت المهندس نفسه، وهنا ينشب صراع قوي دفين بين الخادمة وسيدها، ولا تزال الخادمة تلعب بالسيد، راغبة متمنعة، حتى يقع في حبها، وينتقل المهندس إلى القاهرة، حيث يعقد بينهما الزواج.
وهذا هو هيكل القصة العام. وهو في هذا التلخيص يبدو متسقا موحدا، ولكن الكتاب عند القراءة يشعرنا بوجود وحدات تكاد تكون قائمة بذاتها، ومن بينها ما
1 من المعلوم أن هذه القصة للدكتور طه حسين.
يمكن حذفه دون أن يضطرب السياق، فهناك دعاء الكروان، وهو دعاء شعري جميل، تردده آمنة في المواقف الحاسمة، قد هيأ لها المؤلف حضور هذا الطائر كلما اشتد أمر. وهناك وصف الليالي التي أمضتها الأم وبنتاها عند العمدة، وفي هذا الجزء أشياء يمكن أن تستقيم القصة بدونها، كالحديث عن خضرة ونفيسة، فهما وإن تكونا نموذجين لبعض نساء الريف، إلا أنهما لا تلعبان في حوادث الرواية أي دور، وكذلك الأمر في حادثة قتل شيخ الخفراء التي تحلق بهذا الجزء دون أن نتبين لقصصها وجها واضحا، وهناك منظر القتل الذي نجح المؤلف في تصويره، وحلمنا على الإحساس بفظاعته، ثم تصوير هذيان آمنة، وهذا جزء يضعف تأثيره ما فيه من إسراف. وأخيرا تأتي قصة آمنة مع المهندس. ولعل هذا الجزء هو خير ما في الرواية؛ لما فيه من فهم عميق لحقائق النفوس، وبخاصة نفوس النساء.
وإنه وإن تكن وحدة القصة من الأسس المهمة في كل عمل فني، إلا أننا نستطيع أن ننظر إلى تلك الوحدة نظرة واسعة، فلا نردها إلى وقائع الرواية، واتصال بعضها ببعض فحسب؛ بل نمدها إلى الهدف النهائي الذي يقصد إليه كل كاتب، وهو التصوير والتأثير، فالقصاص بتصويره للبيئة التي يحيا فيها أبطاله يعيننا على فهم نفوسهم، وهو بقصصه لطرف من حوادث العنف التي يأتونها يخلق جوا يمهد لما سيقع في القصة ذاتها، وعلى هذا النحو نستطيع أن نفهم ما ساق إلينا المؤلف من أجزاء لم نتبين رابطاتها المباشرة بالقصة.
ولكننا على العكس من ذلك لا نستطيع التسامح فيما يجب أن يتوفر لكل قصة جديدة من مشاكلة للواقع L'illusion du reel، وتلك المشاكلة لا نراها متوفرة في كل أجزاء القصة التي بين أيدينا، وذلك لسببين كبيرين؛ أولهما: طغيان المؤلف على شخصياته، وثانيهما: تحجر أسلوبه في طابع خاص يعرفه الجميع.
لنأخذ مثلا دعاء الكروان: "لبيك! لبيك أيها الطائر العزيز! ما زلت ساهرة أرقب قدومك وأنتظر نداءك، وما كان ينبغي لي أن أنام حتى أحس قربك وأسمع صوتك وأستجيب لدعائك. ألم أتعود هذا منذ أكثر من عشرين عاما!.. لبيك لبيك! أيها الطائر العزيز! ما أحب صوتك إلى نفسي إذا جثم الليل، وهدأ الكون، ونامت الحياة، وانطلقت الأرواح في هذا السكون المظلم، أمنة لا تخاف، صامتة لا تسمع" هذا لا ريب شعر ساحر ما أظن نغماته تفارق الخيال عما قريب.. ألفاظ مجنحة خفيفة عذبة. ولكم من مرة يعود الطائر فتلقاه آمنة بنفس الحديث. ويستمع القارئ لدعائها فكأنما يأوي إلى واحة ظليلة أو يلقى صديقا قديما.
ولكن دعنا نصم آذاننا قليلا عن سحره لنتساءل عن قائله: أهو حقيقة آمنة، وهي مهما حدثنا الكاتب عن تلقيها العلم مع خديجة عاما بعد عام حتى ألمت باللغة الفرنسية ذاتها، لا نظنها قادرة على أن تدعو الكروان هذا الدعاء الجميل؟
يقول المؤلف الفرنسي المعروف بومارشيه في مقدمة روايته فيجاور: "في إحدى الليالي ونحن بالمسرح قال لي رجل عظيم الذكاء وإن كان يسرف في ادخاره: أرجوك أن تشرح لي لماذا نجد في روايتك كل تلك الجمل المهلهلة التي ليست من أسلوبك؟
- من أسلوبي يا سيدي؟ لو شاء النحس أن يكون لي أسلوب لحاولت أن أنساه عندما أكتب مسرحية، وأنا لا أعرف أتفه طعما من تلك المسرحيات التي نرى فيها كل شيء جميلا ورديا، كل شيء هو المؤلف نفسه كيفما كان، عندما يتملكني موضوعي أستدعي شخصياتي وأضع كلا في مكانه، وأنا لا أعرف ماذا يقولون، وإنما يعنيني ما سيفعلون وعندما يأخذون في الحركة أكتب ما يملونه عليَّ إملاء سريعا، واثقا من أنهم لن يخدعوني. فلنأخذ إذن في فحص أفكارهم لا في البحث عما إذا كان من واجبي أن أعيرهم أسلوبي".
ونحن وإن كنا نقدر ما في أقوال بومارشيه من إسراف أدبي، وندرك أنه ليس من الممكن أن يترك المؤلف أشخاصه يتحدثون كل بلغته وإلا لأسمعوه العجب، ومن بين أبطال القصة التي بين أيدينا مثلا السيد والخادم والقاهري والبدوي والصعيدي والبحراوي، إلا أنه مما لا شك فيه أن في أقوال بومارشيه جانبا كبيرا من الصحة. وأنه لمن واجب القصاص أن يحتال فيوهمنا بأنه قصته واقعية ليكون تأثرنا أتم. ومن وسائل هذا الإيهام -إن لم يكن من أهم وسائله- تنوع الأسلوب وطبيعته وعدم طغيان المؤلف على شخصياته، وفي "ليالي العمدة" أدلة واضحة على صحة ما نقول، فقد وصف الكاتب مثلا موقف آمنة من أختها التي كتمت عنها خبر سقوطها، فأخذت تحتال لتعرف السر دون أن تنجح، وفيما هما في جوف الليل رأت آمنة أختها واقفة حزينة يائسة، فنهضت إلى جوارها "ومست كتفها مسا رفيقا" وهذا حسن، ولكن المؤلف يأبَى إلا أن يضيف تلك الجملة الرصينة المضحكة "لا تراعي" مع أن "لا تخافي" هي الجملة الواجبة.
ولقد نتج عن عدم اكتفاء الكاتب بتدوين ما تملي عليه شخصياته -كما كان يفعل بومارشيه- أن ظهر تنافر واضح في الأسلوب في بعض المواضع، ففي نفس "الليالي" نرى زنوبة "دلالة" البلدة تدعو آمنة إلى أن تقص عليها سبب حزنها، وذلك لما يبدو عليها من أنها "قارحة، ليس في عينها ملحا". ومع ذلك نجد إلى
جانب تلك الجملة الشعبية الدالة جملة أخرى لزنوبة نفسها هي "أرى على وجهك شيئا يشبه القحة". وكيف يمكن أن تعبر زنوبة تعبيرا فيه كل هذا التحفظ البلاغي والتخفيف في الحكم "شيئا يشبه القحة" هذا أسلوب المؤلف، وزنوبة بريئة منه. ولقد كنا نفضل بدلا من هذا التنافر أن يترجم الكاتب إلى اللغة الفصحى ما يريد من تعابير الشعب، ولقد دل على أنه يملك تلك القدرة، فأنطق زنوبة بقولها للأم وبنتيها في معرض التحدي "ما أنتن أولاء بيننا منذ أمس ولا سمعنا لَكُنَّ صوتا ولا عرفنا من أمركن شيئا"، ولا ريب في أن تعبيره "ما أنتن أولاء" إن هو إلا تعريب للاصطلاح العامي الشديد "وانتوا إيه يا ادلعدي".
ولو أن أسلوب الكاتب كان بطبيعته قريبا من لغة الواقع لهان الأمر، ولكنه أسلوب فني مصنوع، له خصائصه الثابتة، ونحن نترك الآن جانبا ما في هذا الأسلوب من جمال لنقف عندما يعيبه كأسلوب قصصي، وأوضح تلك العيوب أمران:
1-
عدم الدقة والتحديد الناتجين إما عن عدم اختيار اللفظ المعبر، وإما عن استعمال أشباه الجمل.
2-
الإسراف الذي نراه أوضح ما يكون في إشباع المعنى أو الإحساس، أو في الصياغة اللفظية التي تلجأ إلى المفاعيل المطلقة على نحو ملحوظ، وفي هذه العيوب ما يبعد به عن مشاكلة الواقع التي رأينا يها مبدأ صارما لا يمكن التسامح فيه.
خذ مثلا حديث الدجالة نفيسة مع آمنة وهي توصيها بأن تذهب إلى قرية قريبة؛ حيث مقام أحد الأولياء، وحيث توجد امرأة لها "قرين" من الجن يستطيع أن يأتي بالأعاجيب، ترى المؤلف الذي يعرف من أسماء الأعلام الشيء الكثير، بل والنادر "كملزمة" اسما للأم، ولا يخصص هذا الولي باسم بل يقول: سيدنا "فلان"، ولا يخصص المرأة بل يقول دار "فلانة"، وفي هذا ما يضعف من الإيهام بالواقع.
ولقد كان يستطيع أن يقول: سيدنا "محمد" ومنزل الشيخة "فاطمة" أو أي اسمين آخرين حتى يوهمنا بأن كل هذا قد حدث فعلا. وكذلك الأمر في استخدامه لأشباه الجمل بدلا من الألفاظ الدقيقة، كتعبيره عن "الشوكة والسكينة" بقوله:"هذه الأدوات التي يعرفها أهل المدن خاصة، بل يعرفها المترفون من أهل المدن خاصة"، وتعبيره عن القطار بـ"هذا الشيء المروع المخيف الغريب، الذي يبعث في الجو شررا ونارا وصوتا ضخما عريضا وصفيرا عاليا نحيفا. والذين يركبونه يستعينون به على أسفارهم، كما يستعين أهل البادية والريف بالإبل حينا وبالحمير حينا آخر وبالأقدام في أكثر الأحيان". هذا مع أن المؤلف يعرف كيف يتصنع السذاجة البالغة
أحيانا، كوصفه لدهشة آمنة عندما سمعت اللغة الفرنسية لأول مرة وتساؤلها كيف يمكن أن تكون هناك لغة غير ما تعرف من لهجة مصر ولهجة الريف ولجهة البدو، حتى لكأنها لم تسمع قط "خرستو" بقال "الناصية" يتكلم اليونانية.
وأما الإسراف فذلك ما يطالعك في أكثر من موقف من مواقف القصة؛ حيث ترى الكاتب يسرف في اللفظ فيذيب الإحساس ويذهب بالتأثير، انظر مثلا إلى هذه المقابلات اللفظية: فصوتها مضطرب "ممزق""يتمزق" له قلبي كلما ذكرته، وانظر إلى المفعولات المطلقة في قوله:"فهزت جسمها هزا، ثم انهمرت دموعها انهمارا، ثم احتبس صوتها فإذا هي تضطرب اضطربا عميقا". ونحن نفهم المفعولات المطلقة التي تصحبها صفات تحدد من الحدث. وأما تلك التي لا يقصد منها إلى غير التأكيد أو المبالغة فأكبر الظن أن ما قد يساوقها من موسيقى لا يكفي لتبريرها.
وإسراف الكاتب لا يقف عند الأسلوب، بل كثيرا ما يمتد إلى الإحساس ذاته يبسطه حتى يشف. تقول آمنة في وصف مواساتها لأختها بدوار العمدة:"وأنا أجثو إلى جانبها وأضمها إليَّ وأقبلها وأحاول أن أرد إليها الهدوء والأمن وسكون النفس ما وسعني ذلك، حتى إذا مضى وقت غير قصير سكن جسمها بعد اضطراب وانطلقت أنفاسها بعد احتباس، ومضت دموعها تنهمر وآوت إلى ذراعي كأنها طفل قد استسلم إلى أمه الرءوم، واطمأن رأسها إلى كتفي، وقضت كذلك لحظة ما نسيت ولن أنسى عذوبتها.." ولكن أية عذوبة لن تنساها آمنة؟! والأختان في موقف يثير الألم المر. والذي نعرفه عند كبار الكتاب هو الإيجاز في المواقف الحرجة. وأنا أذكر لفلوبير أمثلة عديدة لهذه المواقف. منها قوله في "قلب ساذج" عن أم ماتت ابنتها: "وسارت الجنازة وصعدت مدام أوبان إلى العربة وأرخت الستائر السود" تاركا لنا أن نتصور مبلغ الحزن الذي أخفته تلك الستائر، ومنها قوله عن القديس جوليان الذي قتل أمه وأباه خطأ فلبس مسوح الرهبان:"وسارت الجنازة وكنت ترى رجلا في مسوح راهب يتبع الموكب من مسافة بعيدة منكس الرأس".
وكذلك موقف آمنة وأختها، فقد كنا ننتظر من المؤلف أن يتكفي بأن يشعرنا بما أضنى الأخت المنكوبة من إعياء:"فألقت برأسها إلى كتف أختها" ثم يتركنا نتصور الباقي. وباستطاعة القارئ أن يقارن كذلك بين وصف المؤلف لهذيان آمنة ووصف فلوبير أيضا لسان جوليان ويكفيه ليدرك ما ندعو إليه من وجوب الاعتدال والتركيز أن يوازن بين "ينبوع الدماء"، الذي رأته آمنة في هذيانها و"نقط الدم الصغيرة" التي رآها جوليان تقطر من فراش أبويه عند قتله لهما فلازمته أشباحهما أنَّى ذهب.
ومن غريب الأمر أن نرى المؤلف الذي نأخذ عليه هذا الإسراف يعرف كيف يقتصد، فترى الأسلوب الخاطف والحركة الدراماتيكية السريعة، وإذا بك مأخوذ بما تشهد، وقد علقت أنفاسك، على نحو ما تلقى من كبار الكتاب، ولعل وصفه لمقتل هنادي أن يكون من أقوى تلك المواقف وأنجحها.
ولا تقف عدم مشاكلة الواقع عند أسلوب المؤلف أو طغيان شخصيته؛ بل يمتد إلى بعض وقائع القصة وإلى الطريقة الفنية التي اختارها الكاتب لقصته.
ففي الواقع منذ البدء نلاحظ شيئا غير طبيعي، وهو طرد الأم وبنتيهما محوا للعار بعد قتل عائلهن في مغامرة أخلاقية، أي عار؟ ذلك ما لا نعلمه. والعار لا يلحق في هذه البيئات غير النساء، وما نظن بدو الريف يطردون نساءهم، وعرفهم أن يقتلن المذنبات منهن، وهؤلاء لم يرتكبن إثما؛ ولهذا كنا نفضل أن يحمل المؤلف الأم وبنتيها على الهجرة سعيا وراء الرزق أو ضيقا بالحياة، وأما أن يطردهن أهلن "ويخرجوهن إخراجا" فذلك ما لا عهد لنا به.
وأما عن الطريقة الفنية في القصص فقد اختار الكاتب أن يسوق الرواية على لسان آمنة، وهذه طريقة لا غبار عليها ولكن على شرط أن يأتي القصص طبيعيا مسايرا لنفسية من يقص، ولقد سبق أن رأينا كيف أنه من غير المعقول أن يصدر دعاء الكروان عن آمنة، ونضيف إلى ذلك مثلا آخر واضحا لما اضطر إليه الكاتب من الخروج على ما اشترطنا لكي يصل من التحليل النفسي إلى ما يريد. فآمنة هي التي تحلل شعورها نحو المهندس ونتتبع مراحله، وهي من وضوح الرؤية والجرأة على الحق النفسي بحيث لا نظن صدور مثل هذا التحليل عن فتاة في ثقافتها وطبيعتها النفسية، بل لا نظن أن كثيرا من الفلاسفة أنفسهم يستطيعون أن يجابهوا حقائقهم النفسية في هذه الصراحة والقوة؛ ولهذا نظن أنه ربما كان من الأفضل لو غير الكاتب طريقته في هذا الجزء ليسلم من النقد.
ومع ذلك فنحن حريصون على أن نؤيد ما سبق أن قلناه من أن هذا الجزء من الرواية يعد بلا ريب من خير ما كتب كتابنا. وأروع ما فيه ذلك التدريج المحكم في الكشف عن نفسية الفتاة وتطور شعورها تطورا غامضا غير محسوس من رغبة في الانتقام إلى غيرة خفية فحب للاستطلاع ثم اهتمام فاحتيال حتى إذا وصلت إلى ما تريد من معاشرة المهندس أخذت غرائزها تتلون بشتى المواضعات الاجتماعية التي تخفي حقائق النفس. إن في تاريخ هذا الحب الذي يجهل نفسه ولا يزال يراوغ ويداور حتى يتضح لوثيقة إنسانية عظيمة القدر.