المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خلط بين القيم: - في الميزان الجديد

[محمد مندور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الأدب المصري المعاصر:

- ‌النقد ووظائفه:

- ‌بجاليون والأساطير في الأدب

- ‌سوء تفاهم وفن الأسلوب:

- ‌أرواح وأشباح الشعر والأساطير:

- ‌نداء المجهول والأدب الواقعي:

- ‌زهرة العمر وحياتنا الثقافية:

- ‌الأدب المهموس

- ‌الشعر المهموس "‌‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌يا نفس" لنسيب عريضة:

- ‌ النثر المهموس:

- ‌أمي" لأمين مشرق:

- ‌حول ترنيمة السرير:

- ‌الشعر الخطابي:

- ‌إيضاح أخير:

- ‌ الهمس في الأناشيد:

- ‌مناهج النقد - تطبيقها على أبي العلاء

- ‌الأدب ومناهج النقد

- ‌النقد الذاتي والنقد الموضوعي

- ‌مشكلة المعنى:

- ‌أبو العلاء والنقد:

- ‌أبو العلاء ورسالة الغفران:

- ‌رسالة الغفران:

- ‌مساجلات جورجياس المصري:

- ‌المعرفةوالنقد - المهج الفقهي

- ‌الشعراء النقاد

- ‌المعرفة والنقد:

- ‌نظرية عبد القاهر الجرجاني:

- ‌النظم عند الجرجاني:

- ‌الذوق عند الجرجاني:

- ‌خلط بين القيم:

- ‌مناقشات لغوية:

- ‌اللغة والتعريب:

- ‌عثرت به وعثرت عليه

- ‌حول أصول النشر:

- ‌كتاب قوانين الدواوين "1

- ‌كتاب قوانين الدواوين "2

- ‌أوزان الشعر

- ‌الشعر الأوروبي

- ‌ الشعر العربي:

- ‌فهرست الموضوعات:

الفصل: ‌خلط بين القيم:

‌خلط بين القيم:

يقول ديهامل: "إن دليل الصحة هو أن لا يفكر الفرد في جسمه، فهو يتخد كل يوم بعض الاحتياطات الأولية، وبذا تتم عنايته، فيأكل ويشرب ويغتسل ويغدو إلى أعماله، فهل تراه من ساعة إلى ساعة ومن دقيقة إلى أخرى يتساءل في لهفة عن حركة بنكرياسه أو غدده الكلوية؟ أبدا. بل إن هناك مجالا للأمل في أن يجهل حتى اسمها وحتى موضعها من الجسم، فإذا أحسن بمعدته دل ذلك على أن هذه المعدة ليست في حالة جيدة".

وما يصدق على صحة الجسم يصدق على اتزان الهيئة الاجتماعية وسلامة بنائها، فعندما نسمع أصواتا ترتفع من كل جانب تنادينا بأن نضع الأدب في خدمة الحياة الراهنة ومعالجة مشاكلها، وأن تقف أقلامنا على الحديث عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وعندما نرى كل محاولاتنا في توسيع أفق الفكر أو إرهاف الحس توصف بأنها "هراء مسخته رغبة المهارة وخلبته صفة البراعة وحب الظهور، حتى انحط عن بعض ألعاب التسلية. أو صار وسيلة للكسب ومطية لخدمة الأغراض الخاصة

إلخ"، مما تفضل فجاد به صاحب مقال، "ما بعد المنهج الفقهي" عندما يحدث كل ذلك لا نملك إلا أن نصيح في عزم وقوة بأن الهيئة الاجتماعية التي نعيش بينها مريضة، وأن واجبنا وواجب كل من يستطيع شيئا في هذا السبيل أن يعلم لتشخيص الداء والتماس الدواء.

أما أننا نعيش في هيئة اجتماعية مريضة، فذلك ما لا يقبل الشك، وفي وفرة ما يكتب اليوم عن حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية أكبر دليل على ذلك المرض، وإنه لمن الواجب -كما قلت- أن نلتمس العلاج، والآفة الكبرى التي لا بد من تسليط الضوء عليها هي آفة الخلط بين القيم.

في المقالة التي أناقشها الآن خلط بين أشياء لم تفهم، فالكاتب قد خلط بين الأدب وغيره من مواضيع الكتابة كالسياسة والاجتماع والاقتصاد كما خلط بين الأدب ومنهج دراسة الأدب.

خلط الكتاب بين الأدب وغيره من الأبحاث، ومصدر الخلط في تفكيره إنما أتاه

ص: 163

كما أتى غيره ممن تلقاهم وتسمعهم بكل سبيل، من معرفته معرفة ناقصة مبتسرة ببعض الجمل التي أذاعها المبسطون بأوربا كعبارة أرنولد عن الأدب أنه "نقد للحياة" وعبارة كارل ماركس عن فلسفة التاريخ "بمادية التاريخ" أي تحكم نظم الاقتصاد في تطور التاريخ، ورسم الخطة لذلك التطور، وأما أن يتمهل كاتبنا في فهم ما يعنيه أرنولد "بنقد الحياة". وأما أن يمعن النظر في العوامل الإنسانية غير المادية التي لا تقل أثرا عن النظم الاقتصادية في السيطرة على سيرة التاريخ، فذلك ما لا يريده كاتبنا، ولعله لا يستطيعه.

لقد أصبحت عبارة "نقد الحياة" Criticism of life عند كاتبنا مرادفة "للاهتمام البارز بالحياة وأنباء الحياة"، و"إدراك ما للنظم الاقتصادية من المؤثرات الأولى في حياة الناس والجماعات روحيا ونفسيا ومعنويا"، وبذلك يوفق -فيما يظن- بين نظرية أرنولد في الأدب، ونظرية ماركس في فلسفة التاريخ، ويكون حتما على الأدب أن يكون همه الأول مثلا الحديث عن الصناعة بمصر وما تبشر به نشأتها من نمو الوعي السياسي عند طبقة العمال، وعن توزيع الثورة في مصر وطرق إعادة ذلك التوزيع على أساس جديد، وما شاكل ذلك.

وإما أن يتحدث الأدب عن حياتنا النفسية، وإما أن يمد الأدب من آفاق تفكيرنا، وإما أن يرهف الأدب إحساسنا، وإما أن نحاول بعث ماضينا، أو نشر الثقافة الحرة، فكل هذا هراء وادعاء وحذلقة، ولو صح هذا لوجب أن نوفر جهدنا على الصحف الحزبية اليومية نبشر فيها بهذا المذهب أو ذاك.

والداء بعد أعمق من كل ذلك، فهناك خلط مخيف بين الثقافة الحرة والتفكير العلمي، هناك عدد من الناس يظنون أننا لسنا بحاجة إلى الثقافة الحرة؛ لأن هذه الثقافة لا يحتاجها إلا المرهفون المنعمون الأغنياء، وما نحتاجه نحن إنما هو التفكير العملي أي التفكير السياسي الذي يخفف بالحلول التي يدعو إليها، والتي قد ينجح في تنفيذها؛ من فقر البؤساء والمحرومين والمظلومين، وكاتب هذه السطور ليس بغافل عن البؤس والجهل والمرض، ولا عن فتك الأوبئة بمواطنينا، ولقد سبق له أن تحدث عن ذلك في "الثقافة" بعنوان "بؤسنا المادي" ولكنه يرفض الخلط بين الأشياء، ويرى في هذا الخلط جهلا مخيفا يجب أن يحاربه بكل قوته.

مثل من يزعمون أن الثقافة الحرة ترف لا نفع من ورائه كمثل من يقول للدول المحاربة: إن من واجبك أن تغلقي جامعاتك ومعاملك؛ لأنك لست في حاجة إلى التفكير الخالص. بل في حاجة إلى مصانع للذخيرة والمؤن، وناصح كهذا لا يدل

ص: 164

بنصيحته تلك على فهم عميق، فإن الجامعات والمعامل هي التي تفتح المصانع، واليوم الذي يتوقف فيه التفكير الخالص عن العمل، ستتوقف فيه المصانع؛ لأن هذه إنما تطبق التفكير الخالص الذي يبدو للجهلاء بعيد الصلة بالإنتاج المادي.

وكذلك الأمر في الأدب الخالص، فهو الذي يشحذ إدراك كاتبنا فيستطيع أن يصف التفكير الحر بأنه "هراء" وهو الذي يرهف حسه فيجعله يقدر بؤس غيره، بل هو الذي يحمله على الوعي بما هو فيه من بؤس، هو ونحن والجميع، وعندما يقف الأدب عن تقديس المعاني الخالدة من خير وجمال لن يستمع أحد لصيحات كاتبنا ولو صاغها قوية قوة كتاب "رأس المال".

ثم أي فائدة في أن نعيد ما قلناه وقاله غيرنا مئات المرات. في مصر ظلم اجتماعي في توزيع الثروات، بل في توزيع الحقوق حتى القانوني منها، وهذا ما يعرفه الصغير والكبير، في مصر إلى جانب الظلم الاجتماعي فقر عام، لا سبيل إلى علاجه بغير تعزيز الصناعة في مصر، وجهل لن يبدده إلا علم صحيح. في مصر مرض لن يقضى عليه ما لم تعالج عقلية الأطباء. في مصر أدواء كثيرة نعرفها جميعا ونعرف طرق علاجها، ولكن العلاج لن يجدي إلا إذا أعدنا التربية الخلقية لمن يقومون على ذلك العلاج، وأي نتيجة لكتابتي وكتابة غيري في كل ذلك. الأمر لا يحتاج إلى كتابة وإنما يحتاج إلى عمل، يحتاج إلى تنظيم أحزاب، وهذا ليس من شأني كرجل قد قبل أن يقف نفسه -الآن- على نشر الثقافة في حدود قدرته.

واجبي إذن هو أن أقول لكاتب المقال: إن نقد الحياة ليس معناه ما ذكرت، وإنما معناه "فهم الحياة" أي فهم النفس البشرية، ذلك الفهم الذي يغضبك أن توفر عليه قلمنا، وكل ما تكتب ليس له غاية غير هذا الفهم، سواء أكان عن خوالج نفسية أو طرائق لغوية أو موضوعات نموذجية، أو آلام وآمال خاصة.

ونحن مطمئنون إلى أن جهدنا لن يضيع سدى إذا وصلنا إلى شيء مما نريد.

وأكبر دليل على أن أرنولد لم يقصد من "نقد الحياة" إلى ما ذكرت هو أن الرجل قد أنفق جهدا كبيرا في إقناع معاصريه بضرورة دراسة القدماء وبخاصة الإغريق مما تستطيع أن تتبينه من "مقدمته" لقصائده ومن "مقالاته في النقد"، وهو يفعل ذلك لإيمانه بأن القدماء قد فهموا من النفس البشرية جانبا كبيرا، وأنهم قد صاغوا ما فهموا في جمال لا نعرف أفعل منه في تهذيب النفوس.

وأما عما نراه في تفاهة التوافر على دراسة الجاحظ وقدامة والعسكري

ص: 165

والجرجاني فأمر عجب، إن حاولنا بعث تراثنا القديم قال أمثالك: هذا هراء، وإن حاولنا نقل التراث الغربي قلتم: هؤلاء مترجمون، فماذا تريدوننا أن نفعل؟ أظن أنه الصمت.

هناك شيء يجب أن نقوله: وهو أننا اليوم في مرحلة يجب أن تتوفر فيها كل الجهود على أمرين1 نشر الكتب العربية القديمة ودراستها وبعثها3 نقل التراث الأوربي عن سبيل الترجمة، ومن الواجب أن يفهم الجميع أن النشر والترجمة هما أشرف عمل وأنبل نشاط نستطيع التوفر عليه الآن، بل أقول: إنه من الضروري أن نعرف معنى التواضع والأمانة العقلية وروح العلم الصحيح، وأن نشرب أنفسنا بالوطنية، فنعمل مخلصين لمصلحة بلادنا بنشر تراثنا القديم ونقل التراث الغربي كاملين، فعندئذ يحق لنا أن نفخر بعملنا، وأن نعتز بمجهودنا إذ نكون قد مهدنا لنهضة وطننا نهضة حقيقية لا كتلك التي تخدعك اليوم، وما هي إلا بهرج زائف ونصب عقلي.

أي نفع لبلادنا بل لأنفسنا في أن ندعي أن التأليف ويكون عملنا هو عدم أمانة في الترجمة، نترجم ما يسهل علينا فهمه ونهمل ما يشق، ثم ننثر حول النص الأوربي شيئا من هذياننا الشخصي، وبعد ذلك نعدي أننا قد ألفنا كتبا. ومن يستطيع في هذا البلد أن يدرك أصالتك -إن كانت لك أصالة- وأنت تتكلم عن نصوص ومؤلفين ومؤلفات مجهولة من الجميع.

إن كان صاحب المقال حريصا على موضوع أدبي علمي يكتب فيها فيصيب من ورائه المجد، فأنا أدله على ذلك الموضوع الذي لا يقل أهمية عن المسائل الاقتصادية. وذلك هو أن يحمل الحكومة على إنشاء وزارة للنشر والترجمة، لا تقل ميزانيتها عن ميزانية أكبر وزارة، وأن يكون عملها، نشر الكتب العربية القديمة، وترجمة عيون الأدب والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والكيمياء

إلخ الموجودة الآن بالعالم العربي.

عندئذ سأومن بأن كل مشاكلنا ستحل، وأن أفراد الشعب سيجدون تلك الحلول ويملونها على حاكميهم، فإن لم يستطع كاتبنا أن يقوم بحملة كهذه رجوته أن يتركنا الأستاذ خف الله، وأنا نقتتل رغم صادقتنا الشخصية حول منهج الأدب وحقائق اللغة، فمن يدرينا لعل الهنات وأن تخصب نفسنا أو تشق خيالا أو تهذب ذوقا.

ص: 166