الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حول ترنيمة السرير:
أرسل الأستاذ عزمي يوسف كلمة إلى "الثقافة" عن نسبة "ترنيمة السرير" إلى "نسب عريضة"، وهو يذكر أنها لإلياس فرحات، ولكنني راجعت كتابي القديم "ص214" فوجدتها لنسيب عريضة، كما ذكرتها في مقالي، وقد ظهر لي أن كتابي هو أيضا "بلاغة العرب في القرن العشرين"، وهو نفس المرجع الذي رجع إليه الأستاذ عزمي يوسف، ولعل تفسير ذلك التناقض في اختلاف الطبعات، ولقد اتفق أن لاقيت الأستاذ محيي الدين رضا المحرر بجريدة المقطم وناشر "بلاغة العرب في القرن العشرين" وسألته في نسبة "الترنيمة" فأخبرني أنها لنسيب عريضة، ووعدني بأن يخبرنا عن المجلة التي أخذ منها "الترنيمة" وهي إحدى المجلات التي تصدرها الجالية العربية بأمريكا.
وأنا شاكر للأستاذ عزمي يوسف إحساسه الرقيق.
والترنيمة طويلة لم أذكر منها إلا الأبيات الستة الأولى، ولقد راعني ما أثاره مقالي عن الهمس في الأدب من جدل، ولكنني ما زلت عندما أومن به، وأنا بعد لا أدعي أنني قلب صلد لا يستشعر الحنان، وأنا فقير كغيري إلى الكثير من الرحمة -على الأقل رحمة الله- ومع ذلك أرفض القول بأن أدب المهجر ضعيف منهوك، أين إذن نجد قوة النفس؟ أين نجد القدرة على الانفعال؟ أين نجد توثب ووميض العقول؟ أين نجد نبض الحياة؟! ليست القوت مكابرة باطلة، ليست القوة حياء كاذبا، القوة ليست نفاقا اجتماعيا.
قالوا: إن الصدق في الأدب هو مقياسه الوحيد، وهذا قول بدائي. الأدب أعمق من الصدق، الأدب ليس تصويرا للواقع ولا تسقطا لأصداء الحياة، الأدب خلق للصدق.
ظلام الليل قد أطفا
…
نجوما تجذب الطرفا
فما للطفل لا يغفى
…
أيبغي اليوم ألحانا
وللنظر فيما يحمل البيت الأول من صدق نراه عاريا عنه؛ وذلك لما هو واضح من أن ظلام الليل لا يطفئ النجوم بل يزيدها تلألؤا، ومع ذلك أي صدق نفسي في
ذلك البيت الرائع! وهذا رجل نشر الحزن بنفسه ظلاما لم يلبث أن غشي بصره، فللنجوم أن تتلألأ دون أن يرى لها بريقا:
من الألحان لا أدري
…
سوى أنشودة الصبر
أغنيها من القهر
…
لطفل بات جوعانا
هؤلاء قوم ليسوا ضعافا، إنهم يسمون الأشياء بأسمائها، قوم لا ترهبهم الألفاظ، يتغنى الشاعر "من القهر" لجوع طفله، ولكن مَنْ منا لا يحس أن هذا القهر ليس يأسا وإنما هو استجمام للتوثب؟ من منا لا يحس بنفس الشاعر العاتية متحفزة خلف هذا القهر الإنساني؟! ليس الأدب ألفاظا، الأدب روح لا تدري من أين تطالعك، روح لا تدركها إلا الأرواح!
ملاك الرب في الحلم
…
يناجي الطفل كالأم
يناديه من النجم
…
ألا نم! وقتنا حانا
قلت فيما سبق: إن شعراء المهجر يصدرون عن قلب فيه لهفة إلى الله، ولو أنني قلت: إنهم متصوفون لما عدوت الحق، فالتصوف ليس إلا وقدة في الإحساس، كل شعور قوي تصوف مهما كان موضوع ذلك الشعور؛ ولهذا نرى الناس يقتتلون في غير مقتل حول تصوف شاعر كالخيام: أمادي هو أم روحي؟ وهل خمره خمر الدنان أم خمر الروح؟ والأمر بعد سواء، الخيام روح حارة، وكذلك الأمر عند شعراء المهجر. أين منهم فتور أغلب شعرائنا؟ أين منهم فقرنا الروحي؟ أين منهم ضعف نفوسنا؟ أين منهم نفاقنا الخلقي؟! أنظر إلى شاعرنا كيف يجمع بين القيم الإنسانية في ملاك الرب الذي يناجي الطفل كالأم، أليس حنان الأم نفسا من روح الله؟ أوما تراه يشبه الهمس؟! الفن اختيار، وهؤلاء الشعراء يعرفون كيف يختارون التفاصيل الدالة الغنية بفيضها الإنساني.
يناجيه بأيام
…
سيأتي خيرها طام
سيروي ماؤها الظامي
…
ويشفي النور عميانا
وفي شفاء النور للعميان ما يعزز فهمنا لإطفاء ظلمة الليل لنجوم السماء، ثم ما القول في هذا الأمل الباسم؟ عيجب أمر هؤلاء الشعراء! يبتسمون للأمل، ومع ذلك تهزنا ابتسامتهم! وكأني بها تبعث الحزن في النفس، وهي بعد ابتسامة تشرق وسط الظلام، ابتسامة يحوطها الحزن، أولا ترى معي شاعرنا وهو يشد على نفسه فيعزيها بأيام سعيدة؟ إنني أحس بالجهد في تلك الابتسامة الرائعة، وبعد ذلك يقول قائل: إن أدبهم ضعيف، وإننا في حاجة إلى أدب طروب قوي. ومن يستطيع أن
يدلني على قوة تصدر عن الطرب؟ الطرب شيء مبتذل لم نره قط مادة لأدب قوي، وهو بعد لا يحرك النفوس. الأدب عزاء عن الحياة، والعزاء قوة، الشعر في العالم كله ضيق بالحياة وعلاج لها، ولكنه ليس يأسا، فاليأس صمت، وموضع الإعجاز هو أن يدفعك ذلك الضيق إلى متسع الوجود، هو أن تشفي الشكوى من الألم.
وبعد ذلك بأبيات:
أصوتي ذاك قد غنى
…
أقلبي ذاك قد أنا؟
كفى ندبا1 كفى حزنا
…
فقلب الطفل ما لانا
هزيز الريح ما يسمع
…
وندب الروح ما أسمع
كلانا منصت يخشع
…
إلى الأصوات حيرانا
ظلام الليل قد أطبق
…
فنم يا طفل لا تقلق
يعود النور والرونق
…
إذا ما الله أبقانا
هذا هو الهمس الذي لا أدري كيف يتهم بالضعف؟! وأنا بعد أحس فيه قوة لا أجدها في نفوس معظم شعرائها، والأمر ليس من الشاق تفسيره، فنحن قوم لصيقون بالأرض، قوم يؤثرون الاستكانة على المغامرة. لقد طوفت في الكثير من بقاع الأرض فلم أرَ مصريا يجالد غريبا على الحياة، وعدت إلى مصر ودرت ببصري فلم أرَ إلا مظلوما خاضعا لظالمه، أو متألما يخشى أن يشكو ألمه، رأيت ضعف النفاق، في كل مكان أرى رجالا قليلي الشبه بالرجال، فمن أين تأتينا القوة؟ نحن قوم لا يجسر أحدنا أن يرفع بصره إلى من يظنه أقوى منه، فكيف بنا نحدق في الحياة التي تصعق من يناهضها؟!
نحن قوم متزمتون يظنون النفاق الاجتماعي فضيلة، قوم حسيون، إذا تغزلنا جاء غزلنا إما إسفافا في الخضوع وإما "طرطشة" في العاطفة، قوم تعوزهم القوة المتماسكة، نحن قوم كثيرو الادعاء عن جهل، نكابر الغربيين، وندعي الدعاوى العريضة الباطلة، ونزج بالقومية وما إليها لتغطي جهلنا المريع، مَنْ مِنْ أدبائنا أو شعرائنا يعرف أن من واجب الأديب أن يكون مثقفا ثقافة منظمة عميقة مهضومة؟ من منهم يدرك أن الأدب ليس خلقا من العدم؟
هذه بعض الأمراض النفسية التي تفسد أدبنا، ولهذا أوثر شعر المهجر، ولقد عللت إيثاري بما في ذلك الشعر من همس، وحاولت أما استطعت أن أوضح
1 كنت أوثر ألا يستخدم الشاعر هذا اللفظ لما يثيره من تداع في الخواطر، ولكن لفظا لا يغير من روح القصيدة العامة.
معنى ذلك الهمس، فقال البعض: إنني أتعصب لنوع من الأدب يستجيب له مزاجي الخاص. ولكن الأمر ليس أمر تعصب، كما أنه ليس ضيقا في النفس يمنعها عن الإصغاء لغيره من الأدب، وإنما هو إيمان بروح إنسانية قوية أحسها في ذلك الأدب، روح نافذة موحية. ومن عجب أن نقول: إن الشعر الخطابي إذا خلا من موسيقى اللفظ وقوة النفس اللذين نجدهما عند المتنبي في الشرق وهيجو في الغرب مثلا -أفسدت الخطابة الشعر، ثم يأتي من يقول: إننا لا نطرب لشعر المتنبي.
الشاعر العظيم هو من ينجح في أن يهزك، وهو قد يستطيع ذلك بضخامة موسيقاه كما قد يستطيعه برقتها، وأما أولئك الذين تقرأ لهم فلا ينبض منك حس، ولا يهتز قلب، فلست أدري من أين يأتيهم الشعر، ولقد تصفحت مثلا "أعاصير مغرب" فعجبت لمن يجرءون على تسميتها شعرا، وهي نثرية في مادتها، نثرية في أسلوبها، نثيرية في روحها، ونثريتها بعد مبتذلة سميكة، حتى الإحساس فيها شيء لا يطمئن إليه النفس.
الأدب الجيد لا بد أن يلونه الإحساس، وصاحب "أعاصير مغرب" من الكُتَّاب الذين قد تبهرك مهارتهم العقلية في التخريج، ولكنني لا أذكر -إلا في النادر الذي لا يذكر- أنه قدا ستطاع يوما أن يحرك في نفسي إحساسا، فكيف له يقول الشعر؟ وكيف يجوز لنا أن نقارن شعرا "كالأعاصير" ونحوها بشعر المهجر الحي؟
أنا لا أريد أن أملي ذوقي على أحد، ولكنني أحاول أن أبصر بالقيم الإنسانية التي يجب أن يتجه إليها أدبنا إذا أردنا أن نلحق بغيرنا، بدلا من الجمود على الباطل الذي نحن فيه.