الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُؤْمِنِ كَبِيرَةٌ لِأَنَّهُ اقْتَرَنَ بِهِ الْوَعِيدُ وَاللَّعْنُ وَالْحَدُّ، وَالْمُحَارَبَةُ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالْقَذْفُ كَبَائِرُ لِاقْتِرَانِ الْحُدُودِ بِهَا، وَعَلَى هَذَا كُلُّ ذَنْبٍ عُلِمَ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ كَمَفْسَدَةِ مَا قُرِنَ بِهِ الْوَعِيدُ أَوْ اللَّعْنُ أَوْ الْحَدُّ أَوْ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ.
[فَائِدَةٌ مَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا قَذْفًا لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالْحَفَظَةَ]
(فَائِدَةٌ) فَإِنْ قِيلَ الْكَذِبُ فِيمَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ صَغِيرَةٌ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا قَذْفًا لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالْحَفَظَةَ؟ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوَاجِهْ بِهِ الْمَقْذُوفَ وَلَمْ يَغْتَبْهُ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ، هَلْ يَكُونُ قَذْفُهُ كَبِيرَةً مُوجِبَةً لِلْحَدِّ مَعَ خُلُوِّهِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْأَذَى؟ قُلْنَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ لِانْتِفَاءِ الْمَفْسَدَةِ وَلَا يُعَاقَبُ فِي الْآخِرَةِ عِقَابَ الْمُجَاهِرِ فِي وَجْهِ الْمَقْذُوفِ أَوْ فِي مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ، بَلْ عِقَابَ الْكَذَّابِينَ غَيْرِ الْمُصِرِّينَ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّ الَّذِي يُؤْذِيك مِنْهُ سَمَاعُهُ
…
وَإِنَّ الَّذِي قَالُوا وَرَاءَك لَمْ يُقَلْ
شَبَّهَهُ بِاَلَّذِي لَمْ يُقَلْ لِانْتِفَاءِ ضَرَرِهِ وَأَذِيَّتِهِ، فَإِنْ قِيلَ إذَا اغْتَابَهُ بِالْقَذْفِ لَمْ يَتَأَذَّ الْمَقْذُوفُ مَعَ غَيْبَتِهِ، فَلِمَ أَوْجَبْتُمْ الْحَدَّ مَعَ انْتِفَاءِ مَفْسَدَةِ التَّأَذِّي؟ قُلْنَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ بَلَغَهُ لَكَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ الْقَذْفِ فِي الْخَلْوَةِ، وَلِأَنَّهُ إذَا قَذَفَهُ عَلَى مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ احْتَقَرُوهُ بِذَلِكَ وَزَهِدُوا فِي مُعَامَلَتِهِ وَمُوَاصَلَتِهِ، وَرُبَّمَا أَشَاعُوا ذَلِكَ إلَى أَنْ يَبْلُغَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَذْفُهُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالْإِنْسَانُ يَكْرَهُ بِطَبْعِهِ أَنْ يُهْتَكَ عِرْضُهُ فِي غَيْبَتِهِ وَأَمَّا قَذْفُهُ فِي الْخَلْوَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ إجْرَائِهِ عَلَى لِسَانِهِ وَبَيْنَ إجْرَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ.
[فَصْلٌ فِي مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فِي ظَنِّهِ وَلَيْسَتْ فِي الْبَاطِنِ كَبِيرَةً]
فِي مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فِي ظَنِّهِ يَتَصَوَّرُهَا بِتَصَوُّرِ الْكَبَائِرِ وَلَيْسَتْ فِي الْبَاطِنِ كَبِيرَةً
إنْ قِيلَ لَوْ أَنَّ إنْسَانًا قَتَلَ رَجُلًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فَظَهَرَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ دَمَهُ
أَوْ وَطِئَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ وَأَنَّهُ زَانٍ بِهَا فَإِذَا هِيَ زَوْجَتُهُ، أَوْ أَمَتُهُ أَوْ أَكَلَ مَالًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لِيَتِيمٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُهُ، أَوْ شَهِدَ بِالزُّورِ فِي ظَنِّهِ وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ مُوَافِقَةً لِلْبَاطِنِ، أَوْ حَكَمَ بِبَاطِلٍ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ حَقٌّ، فَهَلْ يَكُونُ مُرْتَكِبًا لِكَبِيرَةٍ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمَفْسَدَةُ؟ قُلْنَا أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْفَاسِقِينَ، وَتَسْقُطُ عَدَالَتُهُ لِجُرْأَتِهِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَرِوَايَتُهُ، وَتَبْطُلُ بِذَلِكَ كُلُّ وِلَايَةٍ تُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ إنَّمَا شُرِطَتْ فِي الشَّهَادَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالْوِلَايَاتِ، لِتَحْصُلَ الثِّقَةُ بِصِدْقِهِ فِي أَخْبَارِهِ وَشَهَادَتِهِ وَبِأَدَائِهِ الْأَمَانَةَ فِي وِلَايَتِهِ، وَقَدْ انْخَرَمَتْ الثِّقَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِجَرَاءَتِهِ عَلَى رَبِّهِ بِارْتِكَابِ مَا يَعْتَقِدُهُ كَبِيرَةً، لِأَنَّ الْوَازِعَ عَنْ الْكَذِبِ فِي أَخْبَارِهِ وَشَهَادَتِهِ، وَعَنْ التَّقْصِيرِ فِي وِلَايَتِهِ إنَّمَا هُوَ خَوْفُهُ مِنْ الْجُرْأَةِ عَلَى رَبِّهِ بِارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ، أَوْ بِالْإِصْرَارِ عَلَى صَغِيرَةٍ، فَإِذَا حَصَلَتْ جُرْأَتُهُ عَلَى مَا ذَكَرَتْهُ سَقَطَتْ الثِّقَةُ، بِمَا يَزَعُهُ عَنْ الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ وَشَهَادَتِهِ وَالنُّصْحِ فِي وِلَايَتِهِ.
وَأَمَّا مَفَاسِدُ الْآخِرَةِ وَعَذَابُهَا فَلَا يُعَذَّبُ تَعْذِيبَ زَانٍ وَلَا قَاتِلٍ وَلَا آكِلٍ مَالًا حَرَامًا، لِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ مُرَتَّبٌ عَلَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ فِي الْغَالِبِ كَمَا أَنَّ ثَوَابَهَا مُرَتَّبٌ عَلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ فِي الْغَالِبِ، وَلَا يَتَفَاوَتَانِ بِمُجَرَّدِ الطَّاعَةِ وَلَا بِمُجَرَّدِ الْمَعْصِيَةِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَجْرُ التَّصَدُّقِ بِتَمْرَةٍ كَأَجْرِ التَّصَدُّقِ بِبَدْرَةٍ، وَلَكَانَتْ غِيبَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِنِسْبَتِهِمْ إلَى الْكَبَائِرِ كَغِيبَتِهِمْ بِنِسْبَتِهِمْ إلَى الصَّغَائِرِ، وَلَكَانَ سَبُّ الْأَنْبِيَاءِ كَسَبِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَذَّبُ تَعْذِيبَ مَنْ ارْتَكَبَ صَغِيرَةً لِأَجْلِ جُرْأَتِهِ وَانْتِهَاكِهِ الْحُرْمَةَ بَلْ يُعَذَّبُ عَذَابًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ بِجُرْأَتِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ تُضْبَطَ الْكَبِيرَةُ بِمَا يُشْعِرُ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا فِي دِينِهِ إشْعَارَ أَصْغَرِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ أَقِفْ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى ضَابِطٍ لِذَلِكَ.