الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا أَخْذُهُمْ الزَّكَاةَ، فَإِنْ صَرَفُوهَا فِي مَصَارِفِهَا أَجْزَأَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ صَرَفُوهَا فِي غَيْرِ مَصَارِفِهَا لَمْ يَبْرَأْ الْأَغْنِيَاءُ مِنْهَا عَلَى الْمُخْتَارِ لِمَا فِي إجْزَائِهَا مِنْ تَضَرُّرِ الْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا، فَإِنَّهَا إنَّمَا نُفِّذَتْ لِتَمَحُّصِهَا. وَأَمَّا هَهُنَا فَالْقَوْلُ بِإِجْزَاءِ أَخْذِهَا نَافِعٌ لِلْأَغْنِيَاءِ مُضِرٌّ لِلْفُقَرَاءِ، وَدَفْعُ الْمَفْسَدَةِ عَنْ الْفُقَرَاءِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ عَنْ الْأَغْنِيَاءِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْت لِأَنَّ مَصَالِحَ الْفُقَرَاءِ أَوْلَى مِنْ مَصَالِحِ الْأَغْنِيَاءِ، لِأَنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ بِعَدَمِ نَصِيبِهِمْ مِنْ الزَّكَاةِ مَا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْأَغْنِيَاءُ مِنْ تَثْنِيَةِ الزَّكَاةِ، وَلِمِثْلِ هَذَا يَتَخَيَّرُ السَّاعِي فِي الْأَحَظِّ لِلْفُقَرَاءِ؛ إذَا كَانَ فِي الْمَالِ أَرْبَعُ حِقَاقٍ وَخَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَلَا تُخَيَّرُ الْوُلَاةُ فِيمَا يَصْنَعُونَ إلَّا نَادِرًا وَهُوَ إذَا تَسَاوَى تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَتَيْنِ، أَوْ دَفْعُ الْمَفْسَدَتَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي التَّعْزِيرِ وَجَبَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعَفْوِ وَالْإِغْضَاءِ وَجَبَ.
[فَصْلٌ فِي تَقَيُّدِ الْعَزْلِ بِالْأَصْلَحِ لِلْمُسْلِمِينَ فَالْأَصْلَحِ]
إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ عَزْلَ الْحَاكِمِ فَإِنْ أَرَابَهُ مِنْهُ شَيْءٌ عَزَلَهُ لِمَا فِي إبْقَاءِ الْمُرِيبِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ إذْ لَا يَصْلُحُ فِي تَقْرِيرِ الْمُرِيبِ عَلَى وِلَايَةٍ عَامَّةٍ وَلَا خَاصَّةٍ، لِمَا يُخْشَى مِنْ خِيَانَتِهِ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِيبَةً فَلَهُ أَحْوَالٌ.
إحْدَاهُمَا: أَنْ يَعْزِلَهُ بِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَلَا يَجُوزُ عَزْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْمُسْلِمِينَ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ جِهَةِ فَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ تَفْوِيتُ الْمَصَالِحِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ.
الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْزِلَهُ بِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فَيُنَفَّذُ عَزْلُهُ تَقْدِيمًا لِلْأَصْلَحِ عَلَى الصَّالِحِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ.
الْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْزِلَهُ بِمَنْ يُسَاوِيهِ؛ فَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّخَيُّرِ عِنْدَ تَسَاوِي الْمَصَالِحِ، وَكَمَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا فِي ابْتِدَاءِ الْوِلَايَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ الْعَزْلِ وَعَارِهِ بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْوِلَايَةِ.
فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لِلْمُوَلَّى؟ قُلْنَا حِفْظُ الْمَوْجُودِ أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ الْمَفْقُودِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِالْعَادَةِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يُجْهَدْ لَهُمْ وَيَنْصَحْ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ مَعَهُمْ» . وَلَمَّا اُتُّهِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِأَنَّهُ قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ لِيَتَزَوَّجَ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى قَالَ الشَّاعِرُ:
وَجَرَّتْ مَنَايَا مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ
…
عَقِيلَتَهُ الْحَسْنَاءَ أَيَّامَ خَالِدِ
حَرَّضَ عُمَرُ عَلَى أَنْ يَعْزِلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَنَزَى عَلَى امْرَأَتِهِ، فَامْتَنَعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَزْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ أَصْلَحَ فِي الْقِيَامِ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَصْوَبُ مِمَّا رَآهُ عُمَرُ لِأَنَّ تِلْكَ الرِّيبَةَ لَمْ تَكُنْ قَادِحَةً فِي كَوْنِهِ أَقْوَمَ بِالْحَرْبِ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَمَّا تَوَلَّى عُمَرُ عَزَلَهُ عَنْ حَرْبِ الشَّامِ، وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، فَوَصَلَ كِتَابُ الْعَزْلِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ لِلْقِتَالِ، فَلَمْ يُخْبِرْ خَالِدًا حَتَّى انْقَشَعَتْ الْحَرْبُ لِعِلْمِهِ بِتَقَدُّمِهِ فِي مَكَانِ الْحَرْبِ، وَتَرْتِيبِ الْقِتَالِ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ لَتَشَوَّشَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُخْبِرْهُ لِأَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْكِتَابِ.