الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَعْصِيَتَيْنِ قَبِيحَتَيْنِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ آثِمٌ إثْمَ التَّسْمِيعِ وَحْدَهُ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«الْمُتَسَمِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطِ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» .
وَكَذَلِكَ لَوْ رَاءَى بِعِبَادَاتٍ ثُمَّ سَمَّعَ مُوهِمًا لِإِخْلَاصِهَا فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِالتَّسْمِيعِ وَالرِّيَاءِ جَمِيعًا. وَإِثْمُ هَذَا أَشَدُّ إثْمًا مِنْ الْكَاذِبِ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ مَا سَمَّعَ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا أَثِمَ بِرِيَائِهِ وَتَسْمِيعِهِ وَكَذِبِهِ ثَلَاثَةَ آثَامٍ. وَمَنْ أَمِنَ الرِّيَاءَ لِقُوَّةٍ فِي دِينِهِ فَأَخْبَرَ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ لِيَقْتَدِيَ النَّاسُ بِهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُ طَاعَتِهِ الَّتِي سَمَّعَ بِهَا وَأَجْرُ تَسَبُّبِهِ إلَى الِاقْتِدَاءِ فِي تِلْكَ الطَّاعَاتِ الَّتِي سَمَّعَ بِهَا عَلَى اخْتِلَافِ رُتَبِهَا
[فَائِدَةٌ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ وَطَاعَتُهَا مَصُونَةٌ مِنْ الرِّيَاءِ]
(فَائِدَةٌ) أَعْمَالُ الْقُلُوبِ وَطَاعَتُهَا مَصُونَةٌ مِنْ الرِّيَاءِ، إذْ لَا رِيَاءَ إلَّا بِأَفْعَالٍ ظَاهِرَةٍ تُرَى أَوْ تُسْمَعْ. وَالتَّسْمِيعُ عَامٌّ لِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ.
وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ لَا يَظْهَرُ غَالِبًا بِالرِّيَاءِ وَالتَّسْمِيعِ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَوِزْرُهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ شَرَفِ الْمُرَائِي بِهِ فَأَشْرَفُ مَا يُرَائِي بِهِ أَشَدُّ وِزْرًا مِمَّا دُونَهُ، فَإِنَّ الرِّيَاءَ مَفْسَدَةٌ وَإِفْسَادُ الْأَشْرَفِ أَقْبَحُ مِنْ إفْسَادِ الشَّرِيفِ. وَلَيْسَ حُبُّ الرِّيَاءِ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي مَعْصِيَةً، فَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الرِّيَاءِ كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا مِنْ تَسْمِيَةِ السَّبَبِ بِاسْمِ الْمُسَبِّبِ، وَكُلُّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَأْثَمُ مُشْتَهَيْهِ بِشَهْوَتِهِ، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ بِعَزْمِهِ عَلَيْهِ وَإِرَادَتِهِ، ثُمَّ بِمُلَابَسَتِهِ. وَكُلُّ مَا تَكْرَهُهُ الطِّبَاعُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ وَالْأَسْمَاعُ، مِنْ الْخُيُورِ وَالشُّرُورِ فَلَا إثْمَ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ وَلَا النُّفُورِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى فِعْلِهِ إنْ كَانَ قَبِيحًا أَوْ تَرْكِهِ إنْ كَانَ حَسَنًا. فَشَهْوَةُ الرِّيَاءِ وَالشُّكْرِ، وَقَهْرِ الْأَقْرَانِ وَإِضْرَارِ الْأَعْدَاءِ لَا إثْمَ فِيهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ، وَلِتَعَذُّرِ الِانْفِكَاكِ مِنْهَا وَالِانْفِصَالِ عَنْهَا، وَمَنْ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ الْمَحْبُوبَاتِ فِي غَيْرِ بَابِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَزَلَّ. وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُجَاهِدَ طَبْعَهُ وَيُخَالِفَ فِيمَا يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ
وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَالْمُوَفَّقُ مَنْ أُعِينَ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ أَسْعَدَهُ اللَّهُ حَبَّبَ إلَيْهِ الطَّاعَةَ وَالْإِيمَانَ، وَكَرَّهَ إلَيْهِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا أَدَبَ كَأَدَبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا خُلُقَ كَأَخْلَاقِهِ فَمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ أَعَانَهُ عَلَى أَخْلَاقِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ لِيَتَخَلَّقَ مِنْهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَصِلُ إلَيْهِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ هَمَّ وَلَمَّ فَيَا سَعَادَةَ مَنْ اقْتَدَى بِهِ، وَاسْتَسَنَّ بِسِيرَتِهِ وَأَخَذَ بِطَرِيقَتِهِ، وَامْتَلَأَ قَلْبُهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ، فِي دِقِّ ذَلِكَ كُلِّهِ وَجُلِّهِ وَكُثْرِهِ وَقُلِّهِ:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ قَالَ، تَعَالَى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] . وَكَانَ خُلُقُهُ الْمَمْدُوحُ بِالْعَظَمَةِ وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ، الْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَاءَ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خَالَفَ كَثِيرٌ مِمَّنْ اشْتَهَرَ بِالْوِلَايَةِ بَعْضَ أَدَبِ الشَّرْعِ فَهَلْ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي وِلَايَتِهِ؟ قُلْنَا: أَمَّا مَا تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
وَأَمَّا مَا تَرَكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا لَمْ يَقْدَحْ فِي وِلَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْوِلَايَةِ فِي حَالِ مُلَابَسَتِهِ دُونَ مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَقَدْ غَلَّظَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي هَذَا الذَّنْبِ الصَّغِيرِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يُسْقِطُ الْوِلَايَةَ بِصَغِيرَةٍ يَرْتَكِبُهَا الْوَلِيُّ، وَهَؤُلَاءِ جَهَلَةٌ لِأَنَّ اجْتِنَابَ الصَّغِيرَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ الْأَوْلِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا عَرَفَ صَغِيرَةَ الْوَلِيِّ أَخْرَجَهُ عَنْ الْوِلَايَةِ وَطَعَنَ فِيهِ، وَرُبَّمَا هَجَرَهُ وَرَفَضَهُ وَقَلَاهُ وَأَبْغَضَهُ وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ حُسْنُ ظَنِّهِ فِي الْوَلِيِّ عَلَى أَنْ يَعْتَقِدَ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْوَلِيِّ بِإِبَاحَةِ تِلْكَ الصَّغِيرَةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَيَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَهُ مَا لَمْ يُحِلَّهُ لِغَيْرِهِ وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدًا مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ وَالْإِيجَابِ، إلَّا لِعُذْرٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ، وَهَذَا أَشَرُّ الْأَقْسَامِ. وَأَشَرُّ مِنْهُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ الذَّنْبَ قُرْبَةٌ لِصُدُورِهِ
عَنْ ذَلِكَ الْوَلِيِّ، وَأَسْعَدُهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ وِلَايَتَهُ مَعَ ارْتِكَابِهِ لِذَلِكَ الذَّنْبِ الصَّغِيرِ، وَمُخَالَفَتِهِ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، فَقَدْ عَصَى آدَم وَدَاوُد وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَخْرُجْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَتِهِ عَنْ حُدُودِ وِلَايَتِهِ، وَلَوْ رُفِعَتْ صَغَائِرُ الْأَوْلِيَاءِ إلَى الْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ. لَمْ يَجُزْ تَعْزِيرُهُمْ عَلَيْهَا، بَلْ يَقْبَلُ عَثْرَتَهُمْ وَيَسْتُرُ زَلَّتَهُمْ، فَهُمْ أَوْلَى مَنْ أُقِيلَتْ عَثْرَتُهُ، وَسُتِرَتْ زَلَّتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ غِيبَةُ الْأَنْبِيَاءِ بِنِسْبَتِهِمْ إلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ الذُّنُوبِ؟ قُلْنَا: إنْ ذُكِرَ ذَلِكَ تَعْبِيرًا لَهُمْ وَإِزْرَاءً عَلَيْهِمْ حُرِّمَ وَكَانَ كُفْرًا، فَإِنَّ اللَّهَ مَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَعْبِيرًا وَإِزْرَاءً عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى سِعَةِ رَحْمَتِهِ وَسُبُوغِ نِعْمَتِهِ، وَإِطْمَاعًا فِي التَّوْبَةِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، فَإِنَّ مُسَامَحَةَ الْأَكَابِرِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُسَامَحَةَ الْأَصَاغِرِ أَوْلَى، لِأَنَّ الذَّنْبَ الصَّغِيرَ مِنْ الْأَمَاثِلِ كَبِيرَةٌ. وَلِهَذَا قَوْله تَعَالَى:{مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] ، وَإِنْ ذُكِرَ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ لِأَجْلِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، بَلْ رُبَّمَا يُنْدَبُ إلَيْهِ وَيُحَثُّ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُذْنِبِينَ الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ وَلِيًّا فِي شَطْرِ عُمْرِهِ ثُمَّ صَارَ فَاسِقًا فِي الشَّطْرِ الْآخَرِ فَمَا حُكْمُ وِلَايَتِهِ مَعَ فُسُوقِهِ؟ قُلْت: إنْ زَادَتْ مَفَاسِدُ فُسُوقِهِ عَلَى مَصَالِحِ وِلَايَتِهِ وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ، وَأُخِذَ بِمَا فَضَلَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ، وَإِنْ زَادَتْ مَصَالِحُهُ عَلَى مَفَاسِدِ فُسُوقِهِ وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ، وَأُجِرَ بِمَا فَضَلَ مِنْ حَسَنَاتِهِ.