الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي اجْتِمَاعِ الْمَصَالِحِ مَعَ الْمَفَاسِدِ]
إذَا اجْتَمَعَتْ مَصَالِحُ وَمَفَاسِدُ فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ فَعَلْنَا ذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمَا لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الدَّرْءُ وَالتَّحْصِيلُ فَإِنْ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ أَعْظَمَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ دَرَأْنَا الْمَفْسَدَةَ وَلَا نُبَالِي بِفَوَاتِ الْمَصْلَحَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] . حَرَّمَهُمَا لِأَنَّ مَفْسَدَتَهُمَا أَكْبَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِمَا.
أَمَّا مَنْفَعَةُ الْخَمْرِ فَبِالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا مَنْفَعَةُ الْمَيْسِرِ فَبِمَا يَأْخُذُهُ الْقَامِرُ مِنْ الْمَقْمُورِ.
وَأَمَّا مَفْسَدَةُ الْخَمْرِ فَبِإِزَالَتِهَا الْعُقُولَ، وَمَا تُحْدِثُهُ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا مَفْسَدَةُ الْقِمَارِ فَبِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَهَذِهِ مَفَاسِدُ عَظِيمَةٌ لَا نِسْبَةَ إلَى الْمَنَافِعِ الْمَذْكُورَةِ إلَيْهَا. وَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ أَعْظَمَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ حَصَّلْنَا الْمَصْلَحَةَ مَعَ الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ، وَإِنْ اسْتَوَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ فَقَدْ يُتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِيهِمَا، وَقَدْ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِي تَفَاوُتِ الْمَفَاسِدِ.
فَنَبْدَأُ بِأَمْثِلَةِ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مِنْ رُجْحَانِ مَصَالِحِهِمَا عَلَى مَفَاسِدِهِمَا وَهَذِهِ الْمَصَالِحُ أَقْسَامٌ: أَحَدُهُمَا مَا يُبَاحُ.
وَالثَّانِي: مَا يَجِبُ لِعَظْمِ مَصْلَحَتِهِ، وَالثَّالِثُ مَا يُسْتَحَبُّ لِزِيَادَةِ مَصْلَحَتِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمُبَاحِ، وَالرَّابِعُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِالْحِكَايَةِ وَالْإِكْرَاهِ، إذَا كَانَ قَلْبُ الْمُكْرَهِ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، لِأَنَّ حِفْظَ الْمُهَجِ
وَالْأَرْوَاحِ أَكْمَلُ مَصْلَحَةً مِنْ مَفْسَدَةِ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةٍ لَا يَعْتَقِدُهَا الْجَنَانُ، وَلَوْ صَبَرَ عَلَيْهَا لَكَانَ أَفْضَلَ لِمَا فِيهِ مِنْ اعْتِزَازِ الدِّينِ وَإِجْلَالِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالتَّغْرِيرُ بِالْأَرْوَاحِ فِي إعْزَازِ الدِّينِ جَائِزٌ، وَأَبْعَدَ مَنْ أَوْجَبَ التَّلَفُّظَ بِهَا.
الْمِثَالُ الثَّانِي: مَا يَكْفُرُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُنَاقِضَةِ لِلتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ إذَا فَعَلَهُ بِالْإِكْرَاهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ بِالْجَنَانِ، وَلَا عَلَى جَحْدِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ؛ إذْ لَا اطِّلَاعَ لِلْمُكْرَهِ عَلَى مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْجَنَانُ مِنْ كُفْرٍ وَإِيمَانٍ وَجَحْدٍ وَعِرْفَانٍ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ مَفْسَدَةٌ مَكْرُوهَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ، أَوْلَى مِنْ دَفْعِ مَفْسَدَةِ الْمَكْرُوهِ، لِأَنَّ تَحَمُّلَ مَشَقَّةِ الْمَكْرُوهِ، أَوْلَى مِنْ تَحَمُّلِ مَفْسَدَةِ تَفْوِيتِ الْوَاجِبِ. فَإِنْ قِيلَ هَلَّا حَرَّمْتُمْ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَضْرَارِ بِإِفْسَادِ الْأَجْسَادِ، وَالرَّبُّ سبحانه وتعالى لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا أَهْلَ الْفَسَادِ؟ قُلْنَا أَسْبَابُ الضَّرَرِ أَقْسَامٌ: - أَحَدُهَا مَا لَا يَخْتَلِفُ مُسَبِّبُهُ عَنْهُ، إلَّا أَنْ يَقَعَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ أَوْ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ؛ كَالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ وَشُرْبِ السُّمُومِ الْمُذَفَّفَةِ، وَالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ فِي حَالِ اخْتِيَارٍ وَلَا فِي حَالِ إكْرَاهٍ؛ إذْ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ قَتْلُ نَفْسِهِ بِالْإِكْرَاهِ، وَلَوْ أَصَابَهُ مَرَضٌ لَا يُطِيقُهُ لِفَرْطِ أَلَمِهِ لَمْ يَجُزْ قَتْلُ نَفْسِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الزِّنَا وَاللِّوَاطِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْإِكْرَاهِ، وَلَوْ وَقَعَ بِرُكْبَانِ السَّفِينَةِ نَارٌ لَا يُرْجَى الْخَلَاصُ مِنْهَا فَعَجَزُوا عَنْ الصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا نَجَاةَ لَهُمْ مِنْ آلَامِهَا إلَّا بِالْإِلْقَاءِ فِي الْمَاءِ الْمُغْرِقِ؛ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ الصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ، إذْ اسْتَوَتْ مُدَّتَا الْحَيَاةِ فِي الْإِحْرَاقِ وَالْإِغْرَاقِ، لِأَنَّ إقَامَتَهُمْ فِي النَّارِ سَبَبٌ مُهْلِكٌ لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ إغْرَاقُ أَنْفُسِهِمْ فِي الْمَاءِ لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الصَّبْرُ عَلَى شِدَّةِ الْآلَامِ إذَا تَضَمَّنَ الصَّبْرُ عَلَى شِدَّتِهَا بَقَاءَ الْحَيَاةِ،
وَهَهُنَا لَا يُفِيدُ الصَّبْرُ عَلَى أَلَمِ النَّارِ شَيْئًا مِنْ الْحَيَاةِ فَتَبْقَى مَفْسَدَةً لَا فَائِدَةَ لَهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَغْلِبُ تَرَتُّبُ مُسَبِّبِهِ عَلَيْهِ وَقَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ نَادِرًا فَهَذَا أَيْضًا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الظَّنَّ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي أَكْبَرِ الْأَحْوَالِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يَتَرَتَّبُ مُسَبِّبُهُ إلَّا نَادِرًا، فَهَذَا لَا يُحَرَّمُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ مِنْ أَذِيَّتِهِ وَهَذَا كَالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ فِي الْأَوَانِي الْمَعْدِنِيَّةِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وِجْدَانِ غَيْرِهِ، خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ نَادِرِ ضَرَرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ تَعَيَّنَ اسْتِعْمَالُهُ لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ مِنْ شَرِّهِ؛ إذْ لَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْمَصَالِحِ الْغَالِبَةِ لِوُقُوعِ الْمَفَاسِدِ النَّادِرَةِ، وَمَنْ وَقَفَ الْكَرَاهَةَ عَلَى اسْتِعْمَالٍ فِيهِ عَلَى قَصْدِ اسْتِعْمَالِهِ فَقَدْ غَلِطَ، لِأَنَّ مَا يُؤَثِّرُ بِطَبْعِهِ الَّذِي جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ لَا يَقِفُ تَأْثِيرُهُ عَلَى قَصْدِ الْقَاصِدِينَ؛ فَإِنَّ الْخُبْزَ يُشْبِعُ، وَالْمَاءَ يَرْوِي، والسقمونيا تُسْهِلُ، وَالسُّمُّ يَقْتُلُ، وَالْفَرْوَةُ تُدْفِئُ، وَلَا يَقِفُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ الْقَاصِدِينَ.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ: مِنْ أَمْثِلَةِ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَعَ رُجْحَانِ مَصَالِحِهَا عَلَى مَفَاسِدِهَا الصَّلَاةُ مَعَ الْأَحْدَاثِ الثَّلَاثَةِ، مَفْسَدَةٌ يَجِبُ اتِّقَاؤُهَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اتِّقَاؤُهَا فَلِلْمُكَلَّفِ حَالَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إبْدَالِهَا بِالتَّيَمُّمِ فَيَجِبُ جَبْرًا لِمَا فَاتَ مِنْ مَصَالِحِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِهَا.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْجَزَ عَنْ بَدَلِهَا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الْحَاصِلَةَ مِنْ مَقَاصِدِ الصَّلَاةِ، أَكْمَلُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ اسْتِصْحَابِ الْأَحْدَاثِ فِي الصَّلَاةِ.
الْمِثَالُ الْخَامِسُ: الصَّلَاةُ مَعَ الْأَنْجَاسِ مَفْسَدَةٌ يَجِبُ اتِّقَاؤُهَا فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ جَلِيسُ الرَّبِّ مُنَاجٍ لَهُ، فَمِنْ إجْلَالِ الرَّبِّ أَلَّا يُنَاجَى إلَّا عَلَى أَشْرَفِ الْأَحْوَالِ، فَإِنْ شَقَّ الِاجْتِنَابُ بِعُذَرٍ غَالِبٍ كَفَضْلَةِ الِاسْتِجْمَارِ وَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَطِينِ الشَّوَارِعِ وَدَمِ الْقُرُوحِ وَالْبَثَرَاتِ جَازَتْ صَلَاتُهُ رِفْقًا بِالْعِبَادِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الِاجْتِنَابُ بِحَيْثُ لَا تُمْكِنُ الطَّهَارَةُ صَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَقَاصِدِ الصَّلَاةِ الْعُظْمَى أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ الطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ بِمَثَابَةِ التَّتِمَّاتِ وَالتَّكْمِلَاتِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي الصَّلَاةِ.
الْمِثَالُ السَّادِسُ: الصَّلَاةُ مَعَ تَجَدُّدِ الْحَدَثِ وَالْخُبْثِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ الطَّهَارَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَشَقَّتْ مِنْ الْآخَرِ كَصَلَاةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَذَرَبُ الْمَعِدَةِ، جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَهَا؛ لِأَنَّ رِعَايَةَ مَقَاصِدِ الصَّلَاةِ أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الطَّهَارَتَيْنِ، أَوْ مِنْ دَفْعِ مَفْسَدَةِ الْحَدَثِ وَالْخُبْثِ.
الْمِثَالُ السَّابِعُ: الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِصَلْبٍ أَوْ عَجْزٍ أَوْ إكْرَاهٍ، وَجَبَ الصَّلَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي حُوِّلَ وَجْهُهُ إلَيْهَا لِئَلَّا تَفُوتَ مَقَاصِدُ الصَّلَاةِ وَسَائِرُ شَرَائِطِهَا بِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِهَا لَا نِسْبَةَ لِمَصْلَحَتِهِ إلَى شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِ مَقَاصِدِهَا، وَإِنْ اشْتَدَّ الْخَوْفُ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ الْغَازِي مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ سَقَطَ اسْتِقْبَالُهَا وَصَارَ اسْتِقْبَالُ جِهَةِ الْمُقَاتِلِ بَدَلًا مِنْ الْقِبْلَةِ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَصْلَحَتَيْ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ.
وَكَذَلِكَ السَّفَرُ الْمُبَاحُ يَصِيرُ صَوْبَهُ بَدَلًا مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي حَقِّ الْمُتَنَفِّلِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَحْصِيلَ مَقَاصِدِ الصَّلَاةِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا، وَلَوْ مَنَعْنَا التَّنَفُّلَ فِي الْأَسْفَارِ لَامْتَنَعَ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ التَّنَفُّلِ فِي السَّفَرِ وَلَامْتَنَعَ الْأَبْرَارُ مِنْ الْأَسْفَارِ حِرْصًا عَلَى إقَامَةِ النَّافِلَةِ.
الْمِثَالُ الثَّامِنُ: صَلَاةُ الْعُرْيَانِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ قُبْحِ الْهَيْئَةِ لَا لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مُسْتَتِرٌ مِنْ رَبِّهِ، فَمِنْ عَدَمِ السُّتْرَةَ صَلَّى عُرْيَانًا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِئَلَّا تَفُوتَ مَقَاصِدُ الصَّلَاةِ حِفْظًا لِلسُّتْرَةِ الَّتِي اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَهِيَ مِنْ التَّوَابِعِ.
الْمِثَالُ التَّاسِعُ: نَبْشُ الْأَمْوَاتِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِمْ، لَكِنَّهُ وَاجِبٌ إذَا دُفِنُوا بِغَيْرِ غُسْلٍ أَوْ وُجِّهُوا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ غُسْلِهِمْ وَتَوْجِيهِهِمْ إلَى الْقِبْلَةِ أَعْظَمُ مِنْ تَوْقِيرِهِمْ بِتَرْكِ نَبْشِهِمْ، فَإِنْ جَيَّفُوا وَسَالَ صَدِيدُهُمْ لَمْ يُنْبَشُوا لِإِفْرَاطِ قُبْحِ نَبْشِهِمْ، وَلَوْ ابْتَلَعُوا جَوَاهِرَ مَغْصُوبَةً شُقَّتْ أَجْوَافُهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ الْجَوَاهِرُ لِمُسْتَقِلٍّ فَالْأَوْلَى أَلَّا يَسْتَخْرِجَهَا إلَى أَنْ تَتَجَرَّدَ عِظَامُهُمْ عَنْ لُحُومِهِمْ حِفْظًا لِحُرْمَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُسْتَقِلٍّ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَأَمْوَالِ الْمَصَالِحِ وَالْأَوْقَافِ الْعَامَّةِ اسْتَخْرَجَهَا حِفْظًا عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَصَرْفًا لَهَا فِي جِهَاتِ اسْتِحْقَاقِهَا، وَإِنْ دُفِنُوا فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ جَازَ نَقْلُهُمْ، لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْحَيِّ آكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، وَالْأَوْلَى بِمَالِكِ الْأَرْضِ أَلَّا يَنْقُلَهُمْ، فَإِنْ أَبَى فَالْأَوْلَى أَنْ يَتْرُكَهُمْ إلَى أَنْ تَتَجَرَّدَ عِظَامُهُمْ عَنْ لُحُومِهِمْ وَتَتَفَرَّقَ أَوْصَالُهُمْ.
وَكَذَلِكَ شَقُّ جَوْفِ الْمَرْأَةِ عَلَى الْجَنِينِ الْمَرْجُوِّ حَيَاتُهُ، لِأَنَّ حِفْظَ حَيَاتِهِ أَعْظَمُ مَصْلَحَةً مِنْ مَفْسَدَةِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ أُمِّهِ، وَإِذَا اخْتَلَطَ قَتْلَى الْكَافِرِينَ بِقَتْلَى الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ تَغْسِيلُ الْجَمِيعِ وَتَكْفِينُهُمْ وَحَمْلُهُمْ، نَظَرًا لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْجَمِيعِ، بَلْ يُنْوَى الصَّلَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً، فَتَجْهِيزُ الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَتَجْهِيزُ الْكَافِرِينَ وَسِيلَةٌ إلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمَقْصُودَةِ لِلْمُسْلِمِينَ.
الْمِثَالُ الْعَاشِرُ: ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِلتَّغَذِّيَةِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّ الْحَيَوَانِ
لَكِنَّهُ جَازَ تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ بَقَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَصْلَحَةِ بَقَاءِ الْحَيَوَانِ.
وَكَذَلِكَ ذَبْحُ مَنْ يُبَاحُ دَمُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَمَنْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالْمُصِرِّ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، جَائِزٌ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، حِفْظًا لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ الْمَعْصُومِ الْوَاجِبَةِ الْحِفْظِ، وَالْإِبْقَاءُ بِإِزَالَةِ حَيَاةٍ وَاجِبَةِ الْإِزَالَةِ وَالْإِفْنَاءِ.
الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ: قَتْلُ الصَّيْدِ الْوَحْشِيِّ الْمَأْكُولِ بِغَيْرِ الذَّبْحِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ، لَكِنَّهُ جَازَ بِالْحَرَجِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الذَّبْحِ لِمَصْلَحَةِ تَغْذِيَةِ الْأَجْسَادِ.
الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ: ذَبْحُ صَيْدِ الْحَرَمِ، أَوْ الصَّيْدُ فِي الْإِحْرَامِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، تَقْدِيمًا لِحُرْمَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى حُرْمَةِ الْحَيَوَانِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ الرَّبِّ.
وَكَذَلِكَ أَكْلُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْهُمْ مَفْسَدَةٌ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ وَمَسِيسِ الْحَاجَاتِ.
وَكَذَلِكَ جَوَازُ أَكْلِ النَّجَاسَاتِ وَالْمَيْتَاتِ مِنْ النَّاسِ وَالْخَنَازِيرِ وَالضِّبَاعِ وَالسِّبَاعِ لِلضَّرُورَةِ، وَهَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ، لِأَنَّ حِفْظَ الْأَرْوَاحِ أَكْمَلُ مَصْلَحَةً مِنْ اجْتِنَابِ النَّجَاسَاتِ، وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ الْمُحْرِمُ صَيْدًا وَمَيْتَةً وَطَعَامَ أَجْنَبِيٍّ، فَهَلْ يَتَخَيَّرُ، أَوْ يَتَعَيَّنُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ أَوْ الصَّيْدِ أَوْ مَالُ الْغَيْرِ، فِيهِ اخْتِلَافٌ، مَأْخَذُهُ أَيُّ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَخَفُّ وَأَيُّهَا أَعْظَمُ.
الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ: تَرْكُ الصَّلَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَتَأْخِيرُ الزَّكَاةِ وَحُقُوقِ النَّاسِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِالْإِكْرَاهِ؛ فَإِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ أَوْلَى مِمَّا يُتْرَكُ بِالْإِكْرَاهِ، مَعَ أَنَّ تَدَارُكَهُ مُمْكِنٌ، فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْحُقُوقِ وَبَيْنَ حِفْظِ الْأَرْوَاحِ.
الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ: الْخَمْرُ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِالْإِكْرَاهِ لِأَنَّ
حِفْظَ النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ أَوْلَى مِنْ حِفْظِ الْعُقُولِ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، وَلِأَنَّ فَوَاتَ النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ دَائِمٌ، وَزَوَالَ الْعُقُولِ يَرْتَفِعُ عَنْ قَرِيبٍ بِالصَّحْوِ.
الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ: شَهَادَةُ الزُّورِ مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَيْهَا بِالْقَتْلِ أَوْ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْقَتْلِ كَقَطْعِ عُضْوٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ يَتَضَمَّنُ قَتْلَ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ أَوْ زِنًا أَوْ لِوَاطًا لَمْ يَجُزْ، لِقُبْحِ الْكَذِبِ وَقُبْحِ التَّسَبُّبِ إلَى الْقَتْلِ وَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بِغَيْرِ ذَلِكَ جَازَتْ لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِ الشَّاهِدِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ مَا أُكْرِهَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِهِ، وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْحُكْمِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ.
الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ: هِجْرَةُ الْمُسْلِمِ مُحَرَّمَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ، لَكِنَّهَا جَازَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ عَنْ الْمُحْرَجِ الْغَضْبَانِ.
الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَرَ: الْحَجْرُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْتَقِلِّ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مَنَافِعِ نَفْسِهِ مَفْسَدَةٌ، لَكِنَّهُ ثَبَتَ عَلَى النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ دَفْعًا لِمَشَقَّةِ مُبَاشَرَتِهِ عَنْهُنَّ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِي وَيَشْتَدُّ خَجَلُهَا مِنْ الْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ غَيْرِهَا وَلَا سِيَّمَا الْمُسْتَحِيَاتُ الْخَضِرَاتِ.
وَكَذَلِكَ إجْبَارُ النِّسَاءِ عَلَى النِّكَاحِ مَفْسَدَةٌ، لِأَنَّهُ أَحَدُ الرِّقَّيْنِ، لَكِنَّهُ جَازَ فِي حَقِّ الْأَبْكَارِ الْأَصَاغِرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى تَحْصِيلِ الْأَكْفَاءِ، إذْ لَا يَتَّفِقُ حُصُولُ الْأَكْفَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ.
الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ: الْحَجْرُ عَلَى الْمَرْضَى فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَفْسَدَةٌ فِي
حَقِّهِمْ، لَكِنَّهُ ثَبَتَ، نَظَرًا لِمَصْلَحَةِ الْوَرَثَةِ فِي سَلَامَةِ الثُّلُثَيْنِ لَهُمْ، كَمَا ثَبَتَ تَقْدِيمُ حَقِّهِ فِي الثُّلُثِ عَلَى حُقُوقِهِمْ.
الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ: الْحَجْرُ عَلَى الْمُفْلِسِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِ لَكِنَّهُ ثَبَتَ تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ الْغُرَمَاءِ عَلَى مَفْسَدَةِ الْحَجْرِ، وَإِنْ شِئْت قُلْت تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ غُرَمَائِهِ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الْإِطْلَاقِ، بِخِلَافِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ إلَى يَوْمِ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُ بِالْكِسْوَةِ وَالْإِنْفَاقِ وَمَصْلَحَةَ مَنْ يَلْزَمُهُ مَصْلَحَتُهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصَالِحِ غُرَمَائِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ الَّذِي هُوَ مُهِمٌّ فِي الشَّرْعِ وَالطَّبْعِ؟ قُلْنَا: الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ تَوْفِيرُ الْحُقُوقِ لِلْغُرَمَاءِ وَبَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ تَبَعًا لِذَلِكَ، وَأَمَّا حَجْرُ التَّبْذِيرِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لِرُجْحَانِ مَصْلَحَةِ الْحَجْرِ عَلَى مَفْسَدَةِ الْإِطْلَاقِ، وَالْحَجْرُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لَا تُعَارِضُهَا مَفْسَدَةٌ، إذْ لَا يَأْتِي مِنْهُمْ التَّصَرُّفُ.
وَفِي الْحَجْرِ عَلَى الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
وَكَذَلِكَ الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ ثَابِتٌ لِمَصْلَحَتِهِ، لِأَنَّ إطْلَاقَهُ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِ، لَكِنَّهُ تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّهَا مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّهِ لَا تُعَارِضُهَا مَفْسَدَةٌ.
وَكَذَلِكَ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ، فَإِنَّهَا مَصْلَحَةٌ لَهُ فِي أُخْرَاهُ لَا تُعَارِضُهَا مَفْسَدَةٌ فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي أُخْرَاهُ.
الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ: الْحَجْرُ عَلَى الْعَبِيدِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِمْ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّ السَّادَةِ، لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ.
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: بَيْعُ الْعَبْدِ فِي جِنَايَتِهِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّ السَّيِّدِ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَقَدْ خَالَفَ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَخِلَافُهُمْ ظَاهِرٌ.
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: وَضْعُ الْيَدِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ مَفْسَدَةٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ، إلَّا فِي حَقِّ الْحُكَّامِ وَنُوَّابِ الْحُكَّامِ، إذَا غَلِطُوا بِذَلِكَ فِي مَعْرِضِ التَّصَرُّفِ بِالْأَحْكَامِ، أَوْ النِّيَابَةِ عَنْ الْحُكَّامِ. لِأَنَّ التَّغْرِيمَ يَكْثُرُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيُزَهِّدُهُمْ فِي وِلَايَةِ الْأَمْوَالِ، وَيَجُوزُ الْتِقَاطُ الْأَمْوَالِ لِمَصَالِحِ أَرْبَابِهَا.
وَكَذَلِكَ أَخْذُ الْحُكَّامِ إيَّاهَا لِحِفْظِهَا، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْحُكَّامِ.
وَكَذَلِكَ الْأَمَانَةُ الشَّرْعِيَّةُ، مِثْلَ مَنْ طَيَّرَتْ إلَيْهِ الرِّيحُ ثَوْبًا. وَالِالْتِقَاطُ مَحْبُوبٌ أَوْ وَاجِبٌ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَالِالْتِقَاطُ لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّمَلُّكِ جَائِزٌ لِمَصْلَحَةِ الْمَالِكِ وَالْمُلْتَقِطِ، وَظَفَرُ الْمُسْتَحَقِّ بِجِنْسِ حَقِّهِ وَبِغَيْرِ جِنْسِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ أَخْذِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ جَائِزٌ، وَهَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُبَاحَةِ إلَّا فِي حَقِّ الْمَجَانِينِ وَالْأَيْتَامِ وَالْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: إتْلَافُ مَالِ الْغَيْرِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِ مَضْمُونٌ بِبَذْلِهِ، إلَّا فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ وَالصِّوَالِ وَالْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ بِالْقِتَالِ
الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ مَعَ الْجَهْلِ بِكَوْنِهِ مُسْتَحَقَّ مَفْسَدَةٍ مُوجِبَةٍ لِلضَّمَانِ عَلَى الْقَاتِلِ أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَلَّادًا، لِمَا فِي تَغْرِيمِهِ مِنْ تَكَرُّرِ الْغُرْمِ الدَّاعِي إلَى تَرْكِ الْقِيَامِ بِمَصْلَحَةِ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: قَتْلُ الْمُسْلِمِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ بِالزِّنَا بِغَيْرِ الْإِحْصَانِ، وَبِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْبَغْيِ وَالصِّيَالِ.
الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: تَقْدِيمُ عَاقِلَةِ الْحَاكِمِ الدِّيَةَ فِيمَا يُخْطِئُ بِهِ الْحَاكِمُ فِي مَعْرِضِ الْأَحْكَامِ، وَمَصَالِحُ الْإِسْلَامِ مَضَرَّةٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَتَجِبُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ دُونَ الْعَاقِلَةِ عَلَى قَوْلٍ، لِمَا فِي تَغْرِيمِ عَاقِلَتِهِ مِنْ تَكْرِيرِ تَحْمِيلِ الْعَقْلِ وَكَذَلِكَ مَا يُفْسِدُهُ الْإِمَامُ وَيُفَوِّتُهُ مِنْ الْأَمْوَالِ بِسَبَبِ تَصَرُّفَاتِهِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، هَلْ يَغْرَمُهُ أَوْ يَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ.
الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: تَصْحِيحُ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ مَفْسَدَةٌ، لِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْخِيَانَةِ فِي الْوِلَايَةِ، لَكِنَّهَا صَحَّحْنَاهَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ الْفَاسِقِ وَالْحَاكِمِ الْفَاسِقِ؛ لِمَا فِي إبْطَالِ وِلَايَتِهِمَا مِنْ تَفْوِيتِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَنَحْنُ لَا نُنَفِّذُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ إلَّا مَا يُنَفَّذُ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَئِمَّةِ الْمُقْسِطِينَ وَالْحُكَّامِ الْعَادِلِينَ، فَلَا نُبْطِلُ تَصَرُّفَهُ فِي الْمَصَالِحِ لِأَجْلِ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَفَاسِدِ، إذْ لَا يُتْرَكُ الْحَقُّ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْبَاطِلِ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ فِي ذَلِكَ أَنَّا نُصَحِّحُ تَصَرُّفَهُمْ الْمُوَافِقَ لِلْحَقِّ مَعَ عَدَمِ وِلَايَتِهِمْ لِضَرُورَةِ الرَّعِيَّةِ، كَمَا نُصَحِّحُ تَصَرُّفَاتِ إمَامِ الْبُغَاةِ مَعَ عَدَمِ أَمَانَتِهِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلضَّرُورَةِ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَالضَّرُورَةُ فِي خُصُوصِ تَصَرُّفَاتِهِ، فَلَا نَحْكُمُ بِصِحَّةِ الْوِلَايَةِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ فَإِنَّ وِلَايَتَهُ قَائِمَةٌ فِي كُلِّ مَا هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى الْأَئِمَّةِ.
الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: تَوَلِّي الْآحَادِ لِمَا يَخْتَصُّ بِالْأَئِمَّةِ مَفْسَدَةٌ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ جَائِرًا يَضَعُ الْحَقَّ فِي غَيْرِ مُسْتَحَقِّهِ، فَيَجُوزُ لِمَنْ ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مُسْتَحَقِّيهِ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْحَقِّ الَّذِي لَوْ دُفِعَ إلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَضَاعَ، وَلَكَانَ دَفْعُهُ إلَيْهِ إعَانَةً عَلَى الْعِصْيَانِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: نِكَاحُ الْأَحْرَارِ الْإِمَاءَ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْأَوْلَادِ لِلْإِرْقَاقِ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ خَوْفِ الْعَنَتِ وَفَقْدِ الطَّوْلِ، دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ وُقُوعِ التَّائِقِ فِي الزِّنَا الْمُوجِبِ فِي الدُّنْيَا لِلْعَارِ وَفِي الْآخِرَةِ لِعَذَابِ النَّارِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُحَرَّمُ تَحْصِيلُ مَصْلَحَةٍ نَاجِزَةٍ مُحَقِّقَةٍ لِتَوَقُّعِ مَفْسَدَةٍ مُمْهَلَةٍ؟ قُلْنَا لَمَّا غَلَبَ وُقُوعُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ جَعَلَ الشَّرْعُ الْمُتَوَقَّعَ كَالْوَاقِعِ، فَإِنَّ الْعُلُوقَ غَالِبُ كَثِيرٍ، وَالشَّرْعُ قَدْ يَحْتَاطُ لِمَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ احْتِيَاطُهُ لِمَا تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ حَصْرُ الْوَرَثَةِ فِيهِ، وَإِنْ أَثْبَتَ نَفْيَ الزَّوْجَاتِ وَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِثْبَاتُ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ مَنْ سِوَى الْأُصُولِ وَالزَّوْجَاتِ، وَذَلِكَ احْتِيَاطٌ لِمَا يُتَوَهَّمُ وُجُودُهُ مِنْ الْوَرَثَةِ. فَإِنْ قِيلَ لَوْ طَلَبَ هَذَا الْأَمِينُ مِنْ التَّرِكَةِ دِرْهَمًا وَاحِدًا وَهِيَ عَشْرَةُ آلَافٍ، فَهَلْ يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ الْحَصْرِ أَمْ لَا؟ قُلْنَا نَعَمْ يُدْفَعُ إلَيْهِ مَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ إذَا كَانَ عَدَدُ الْوَرَثَةِ لَا يَنْتَهِي إلَى مِثْلِ عَدَدِ التَّرِكَةِ فِي الْعَادَةِ، كَمَا يُدْفَعُ إلَى ذَوِي الْفُرُوضِ فُرُوضَهُمْ عَائِلَةً، إذْ مِنْ الْمُحَالِ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَنْتَهِيَ عَدَدُ الْوَرَثَةِ إلَى أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ فَمَا النَّظَرُ بِعَشْرَةِ الْآلَافِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا تَزَوَّجَ الْأَمَةَ حُرٌّ مَجْبُوبُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ فَلْيَجُزْ ذَلِكَ مَعَ أَمْنِ الْعَنَتِ وَوِجْدَانِ الطَّوْلِ إذْ لَا يُتَوَقَّعُ لَهُ وَلَدٌ فَيَرِقُّ؟ قُلْت: إنْ أَلْحَقْنَا بِهِ النَّسَبَ جَازَ كَغَيْرِ الْمَجْبُوبِ وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ النَّسَبُ فَاَلَّذِي أَرَاهُ جَوَازُ ذَلِكَ إذْ لَا مَانِعَ مِنْهُ.
الْمِثَالُ الثَّلَاثُونَ: تَزَوَّجَ الضَّرَّاتِ بِعَقْدٍ أَوْ عُقُودٍ مَفْسَدَةٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجَاتِ، لَكِنَّهُ جَازَ أَنْ تَضُرَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِثَلَاثٍ نَظَرًا لِمَصَالِحِ الرِّجَالِ وَتَحْصِيلًا لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ، فَإِنْ خِيفَ مِنْ الْجَوْرِ عَلَيْهِنَّ اُسْتُحِبَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ أَوْ سُرِّيَّةٍ، دَفْعًا لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ مَفْسَدَةِ الْجَوْرِ، وَحُرِّمَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ نَظَرًا لِلنِّسَاءِ وَدَفْعًا لِمَظَانِّ جَوْرِ الرِّجَالِ عَلَى الْأَزْوَاجِ، كَمَا جَازَ كَسْرُ الْمَرْأَةِ بِثَلَاثِ طَلْقَاتٍ وَلَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا نَظَرًا لِمَصَالِحِ النِّسَاءِ وَزَجْرًا لِلرِّجَالِ عَنْ تَكْثِيرِ مَفْسَدَةِ الطَّلَاقِ.
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: التَّقْرِيرُ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ مَفْسَدَةٌ إلَّا فِي تَقْرِيرِ الْكُفَّارِ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ إذَا أَسْلَمُوا، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ، لِأَنَّا لَوْ أَفْسَدْنَاهَا لَزَهِدَ الْكُفَّارُ فِي الْإِسْلَامِ خَوْفًا مِنْ بُطْلَانِ أَنْكِحَتِهِمْ فَتَقَاعَدُوا عَنْ الْإِسْلَامِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْإِسْلَامِ بِتَقْرِيرِهِمْ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ أَوْلَى مِنْ التَّنْفِيرِ مِنْ الْإِسْلَامِ بِإِفْسَادِ أَنْكِحَتِهِمْ، إذْ لَا مَفْسَدَةَ أَقْبَحُ مِنْ تَفْوِيتِ الْإِسْلَامِ وَالسَّعْيِ فِي تَفْوِيتِهِ.
وَكَذَلِكَ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُمْ بِمَنْ قَتَلُوهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَغْرَمُونَ مَا أَتْلَفُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُمْ ذَلِكَ لَتَقَاعَدُوا عَنْ الْإِسْلَامِ.
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: التَّقْرِيرُ عَلَى الْكُفْرِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ وَفِي تَقْرِيرِ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُقَرَّرُ لِوُجُوبِ إزَالَةِ الْمَفَاسِدِ عَلَى الْفَوْرِ وَالْكُفْرُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ.
وَالثَّانِي: يُقَرَّرُ نَظَرًا لَهُ كَمَا تَجُوزُ مُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى التَّقْرِيرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَقْرِيرِ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ وَأَنْكَرِ الْمُنْكَرَاتِ. فَإِنْ خِيفَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ جَازَ التَّقْرِيرُ بِالصُّلْحِ عَشْرَ سِنِينَ رِعَايَةً لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَوَقُّعًا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِإِسْلَامِ بَعْضِ الْكَافِرِينَ. وَقَدْ صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ مَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ فَدَخَلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْكُفْرَ أَنْكَرُ الْمُنْكَرَاتِ، فَلَا يَجُوزُ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِ إلَّا بِقَدْرِ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ.
وَكَذَلِكَ لَا تُخَلَّى كُلُّ سَنَةٍ مِنْ غَزْوَةٍ، وَوَاجِبُ الْإِمَامِ الْقِتَالُ عَلَى الدَّوَامِ، وَالِاسْتِمْرَارُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ إزَالَةَ الْمَفَاسِدِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَمَا الظَّنُّ بِإِزَالَةِ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ وَهُوَ الْكُفْرُ بِالْمَلِكِ الدَّيَّانِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَرَرْتُمْ الْكَوَافِرَ عَلَى كُفْرِهِنَّ عَلَى الدَّوَامِ؟ قُلْنَا لِأَنَّهُنَّ قَدْ صِرْنَ مَالًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قُرْبِ رُجُوعِهِنَّ إلَى الْإِسْلَامِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: وُجُوبُ إجَارَةِ مُسْتَجِيرِ الْكُفَّارِ إلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، لَعَلَّهُ إذَا سَمِعَهُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِ وَيَمِيلَ إلَيْهِ.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وُجُوبُ إجَارَةِ رُسُلِ الْكُفَّارِ مَعَ كُفْرِهِمْ، لِمَصْلَحَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّسَالَةِ مِنْ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: التَّقْرِيرُ بِالْجِزْيَةِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ لِإِيمَانِهِمْ بِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي يُوَافِقُ أَعْظَمُ أَحْكَامِهَا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَخَفَّ كُفْرُهُمْ لِإِيمَانِهِمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، بِخِلَافِ مَنْ جَحَدَهَا فَإِنَّهُ كَذَّبَ اللَّهَ سبحانه وتعالى فِي مُعْظَمِ أَحْكَامِهِ وَكَلَامِهِ، فَكَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظَ، بِخِلَافِ مَنْ آمَنَ بِالْأَكْثَرِ وَكَفَرَ بِالْأَقَلِّ، وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ عِوَضًا عَنْ تَقْرِيرِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، إذْ لَيْسَ مِنْ إجْلَالِ الرَّبِّ أَنْ تُؤْخَذَ الْأَعْوَاضُ عَلَى التَّقْرِيرِ عَلَى سَبِّهِ وَشَتْمِهِ وَنِسْبَتِهِ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَبْعَدَ، وَإِنَّمَا الْجِزْيَةُ مَأْخُوذَةٌ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَصِيَانَةِ أَمْوَالِهِمْ وَحَرَمِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ، مَعَ الذَّبِّ عَنْهُمْ إنْ كَانُوا فِي دِيَارِنَا، وَلَيْسَتْ مَأْخُوذَةً عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ إذْ يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ مَعَ تَقْرِيرِهِمْ فِي دِيَارِهِمْ.
(فَائِدَةٌ) إنْ قِيلَ الْجِزْيَةُ لِلْأَجْنَادِ عَلَى قَوْلٍ وَلِلْمَصَالِحِ عَلَى قَوْلٍ، وَقَدْ رَأَيْنَا جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ لَا يَتَوَرَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ الْخِلَافِ مِنْهَا مَعَ ظُهُورِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجُنْدَ قَدْ أَكَلُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ أَكْثَرَهَا، فَيُؤْخَذُ مِنْ الْجِزْيَةِ مَا يَكُونُ قِصَاصًا بِبَعْضِ مَا أَخَذُوهُ فَأَكَلُوهُ.
الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: التَّقْرِيرُ عَلَى الْمَعَاصِي كُلِّهَا مَفْسَدَةٌ لَكِنْ يَجُوزُ التَّقْرِيرُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ إنْكَارِهَا بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى إنْكَارِهَا
مَعَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ إنْكَارُهُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَمَحْثُوثًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَرَةَ بِالنُّفُوسِ فِي إعْزَازِ الدِّينِ مَأْمُورٌ بِهَا كَمَا يُعْذَرُ بِهَا فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَقِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَقِتَالِ مَانِعِي الْحُقُوقِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُهَا مِنْهُمْ إلَّا بِالْقِتَالِ وَقَدْ قَالَ عليه السلام:«أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» . جَعَلَهَا أَفْضَلَ الْجِهَادِ لِأَنَّ قَائِلَهَا قَدْ جَادَ بِنَفْسِهِ كُلَّ الْجُودِ، بِخِلَافِ مَنْ يُلَاقِي قِرْنَهُ مِنْ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْهَرَهُ وَيَقْتُلَهُ فَلَا يَكُونُ بَذْلُهُ نَفْسَهُ مَعَ تَجْوِيزِ سَلَامَتِهَا، كَبَذْلِ الْمُنْكِرِ نَفْسَهُ مَعَ يَأْسِهِ مِنْ السَّلَامَةِ.
الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: انْهِزَامُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكَافِرِينَ مَفْسَدَةٌ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ إذَا زَادَ الْكَافِرُونَ عَلَى ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ التَّقَارُبِ فِي الصِّفَاتِ تَخْفِيفًا عَنْهُمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ، وَدَفْعًا لِمَفْسَدَةِ غَلَبَةِ الْكَافِرِينَ لِفَرْطِ كَثْرَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَكَذَلِكَ التَّحَرُّفُ لِلْقِتَالِ، وَالتَّحَيُّزُ إلَى فِئَةٍ مُقَاتِلَةٍ بِنِيَّةِ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُتَحَيِّزُ مَعَهُمْ، لِأَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا إدْبَارًا إلَّا أَنَّهُمَا نَوْعٌ مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَى الْقِتَالِ.
الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: قَتْلُ الْكُفَّارِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْمَجَانِينِ وَالْأَطْفَالِ مَفْسَدَةٌ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ إذَا تَتَرَّسَ بِهِمْ الْكُفَّارُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُمْ إلَّا بِقَتْلِهِمْ.
الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: قَتْلُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَفْسَدَةٌ إلَّا إذَا تَتَرَّسَ بِهِمْ الْكُفَّارُ وَخِيفَ مِنْ ذَلِكَ اصْطِلَامُ الْمُسْلِمِينَ، فَفِي جَوَازِ قَتْلِهِمْ خِلَافٌ، لِأَنَّ قَتْلَ عَشَرَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنْ قَتْلِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
الْمِثَالُ الْأَرْبَعُونَ: التَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ فِي الْكُفَّارِ، لِأَنَّ التَّغْرِيرَ بِالنُّفُوسِ إنَّمَا جَازَ لِمَا فِيهِ مِنْ
مَصْلَحَةِ إعْزَازِ الدِّينِ بِالنِّكَايَةِ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ النِّكَايَةُ وَجَبَ الِانْهِزَامُ لِمَا فِي الثُّبُوتِ مِنْ فَوَاتِ النُّفُوسِ مَعَ شِفَاءِ صُدُورِ الْكُفَّارِ وَإِرْغَامِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ صَارَ الثُّبُوتُ هَهُنَا مَفْسَدَةً مَحْضَةً لَيْسَ فِي طَيِّهَا مَصْلَحَةٌ.
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: الْإِرْقَاقُ مَفْسَدَةٌ، وَلَكِنَّهُ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ فَثَبَتَ فِي نِسَاءِ الْكُفَّارِ وَأَطْفَالِهِمْ وَمَجَانِينِهِمْ، زَجْرًا عَنْ الْكُفْرِ وَتَقْدِيمًا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَذَلِكَ إذْ اخْتَارَ الْإِمَامُ إرْقَاقَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الرِّجَالِ أَمَّا إرْقَاقُ الرِّجَالِ فَمِنْ آثَارِ الْكُفْرِ.
وَأَمَّا إرْقَاقُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَلَيْسَ عُقُوبَةً لَهُمْ بِذَنْبِ غَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ عُقُوبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مُصِيبَةٌ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا، كَمَا يُصَابُونَ بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ مِنْ غَيْرِ إجْرَامٍ.
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: قَتْلُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ بِغَيْرِ عُذْرٍ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا بِالْقِتَالِ، دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَتَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَتْلُ الْمُرْتَدِّ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِ، لَكِنَّهُ جَازَ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْكُفْرِ.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: الْكَذِبُ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ، فَيَجُوزُ تَارَةً وَيَجِبُ أُخْرَى وَلَهُ أَمْثِلَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكْذِبَ لِزَوْجَتِهِ لِإِصْلَاحِهَا وَحُسْنِ عِشْرَتِهَا فَيَجُوزُ لِأَنَّ قُبْحَ الْكَذِبِ الَّذِي لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ يَسِيرُ، فَإِذَا تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً تَرْبُو عَلَى قُبْحِهِ أُبِيحَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ تَحْصِيلًا لِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ.
وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِعُمُومِ مَصْلَحَتِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَخْتَبِئَ عِنْدَهُ مَعْصُومٌ مِنْ ظَالِمٍ يُرِيدُ قَطْعَ يَدِهِ فَيَسْأَلُهُ عَنْهُ فَيَقُولُ مَا رَأَيْته فَهَذَا الْكَذِبُ أَفْضَلُ مِنْ الصِّدْقِ، لِوُجُوبِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَصْلَحَةَ حِفْظِ الْعُضْوِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الصِّدْقِ الَّذِي لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، فَمَا الظَّنُّ بِالصِّدْقِ الضَّارِّ؟ وَأَوْلَى مِنْ ذَلِكَ إذَا اخْتَبَأَ عِنْدَهُ مَعْصُومٌ مِمَّنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَسْأَلَ الظَّالِمُ الْقَاصِدُ لِأَخْذِ الْوَدِيعَةِ الْمُسْتَوْدَعَ عَنْ الْوَدِيعَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَهَا، لِأَنَّ حِفْظَ الْوَدَائِعِ وَاجِبٌ وَإِنْكَارَهَا هَهُنَا حِفْظٌ لَهَا، وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِهَا لَضَمِنَهَا وَإِنْكَارُهَا إحْسَانٌ.
الرَّابِعُ: أَنْ تَخْتَبِئَ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ أَوْ غُلَامٌ يُقْصَدَانِ بِالْفَاحِشَةِ، فَيَسْأَلُهُ الْقَاصِدُ عَنْهُمَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَهُمَا الْخَامِسُ: أَنْ يُكْرَهَ عَلَى الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَقْبَحُ الْكَذِبِ أَوْ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ حِفْظًا لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ مَفْسَدَةَ لَفْظِ الشِّرْكِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ، دُونَ مَفْسَدَةِ فَوَاتِ الْأَرْوَاحِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَأَمْثَالِهَا أَنَّ الْكَذِبَ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِيهِ وَيُثَابُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَلَى قَدْرِ رُتْبَةِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ مِنْ الْوُجُوبِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَرْوَاحِ، وَلَوْ صَدَقَ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ لَأَثِمَ إثْمَ الْمُتَسَبِّبِ إلَى تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ، وَتَتَفَاوَتُ الرُّتَبُ لَهُ، ثُمَّ التَّسَبُّبُ إلَى الْمَفَاسِدِ بِتَفَاوُتِ رُتَبِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ.
الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: مِنْ تَرْجِيحِ الْمَصَالِحِ عَلَى الْمَفَاسِدِ: الْغِيبَةُ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ، لَكِنَّهَا جَائِزَةٌ إذَا تَضَمَّنَتْ مَصْلَحَةً وَاجِبَةَ التَّحْصِيلِ، أَوْ جَائِزَةَ التَّحْصِيلِ، وَلَهَا أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُشَاوَرَ فِي مُصَاهَرَةِ إنْسَانٍ فَذَكَرَهُ بِمَا يَكْرَهُ كَمَا قَالَ «صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ لَمَّا خَطَبَهَا أَبُو جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةُ: إنْ أَبَا جَهْمٍ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ» فَذَكَرَهُمَا بِمَا يَكْرَهَانِهِ
نُصْحًا لَهَا وَدَفْعًا لِضِيقِ عَيْشِهَا مَعَ مُعَاوِيَةَ وَتَعْرِيضًا لِضَرْبِ أَبِي الْجَهْمِ. فَهَذَا جَائِزٌ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ وَاجِبٌ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَدْحُ فِي الرُّوَاةِ وَاجِبٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ إثْبَاتِ الشَّرْعِ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الشَّرْعِ بِهِ، لِمَا عَلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحْكَامِ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ خَبَرٍ يُجَوِّزُ الشَّرْعُ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ وَالرُّجُوعَ إلَيْهِ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: جَرْحُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْحُكَّامِ فِيهِ مَفْسَدَةُ هَتْكِ أَسْتَارِهِمْ، لَكِنَّهُ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَنْسَابِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ أَعَمُّ وَأَعْظَمُ، فَإِنْ عُلِمَ مِنْهُ ذَنْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْرَحَهُ بِالْأَكْبَرِ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَإِنْ اسْتَوَيَا تَخَيَّرَ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: النَّمِيمَةُ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ، لَكِنَّهَا جَائِزَةٌ أَوْ مَأْمُورٌ بِهَا إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَصْلَحَةٍ لِلْمَنْمُومِ إلَيْهِ، مِثَالُهُ: إذَا نَقَلَ إلَى مُسْلِمٍ أَنَّ فُلَانًا عَزَمَ عَلَى قَتْلِهِ فِي لَيْلَةِ كَذَا وَكَذَا، أَوْ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، أَوْ عَلَى التَّعَرُّضِ لِأَهْلِهِ فِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ تَوَسُّلٌ إلَى دَفْعِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عَنْ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ شِئْت قُلْت لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ أَضْدَادِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْله تَعَالَى:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] الْآيَةُ.
وَكَذَلِكَ مَا نَقَلَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُنَافِقِينَ.
الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: هَتْكُ الْأَعْرَاضِ مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزَّانِي بِالزِّنَا لِإِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ لِإِقَامَةِ الْقِصَاصِ، وَعَلَى الْقَاذِفِ بِالْقَذْفِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ لِلْمَقْذُوفِ، وَعَلَى الْغَاصِبِ بِالْغَصْبِ لِتَغْرِيمِ الْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ.
وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى السُّرَّاقِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِمَا صَنَعُوهُ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، لِإِقَامَةِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ؛ فَهَذَا كُلُّهُ صِدْقٌ مُضِرٌّ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ هَاتِكٌ لِسِتْرِهِ، لَكِنَّهُ جَازَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصَالِحِ إقَامَةِ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ.
وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِالْكُفْرِ وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْغَرَامَاتِ الْمَالِيَّةِ، كُلُّ ذَلِكَ صِدْقٌ مُضِرٌّ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ نَافِعٌ لِلْمَشْهُودِ لَهُ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِمَا يَضُرُّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ وَيَنْفَعُ الْمَحْكُومَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ إقَامَةُ الْحُكَّامِ عَلَى إقَامَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَكَذَلِكَ تَوْلِيَةُ الْوُلَاةِ الَّذِينَ يَضُرُّونَ قَوْمًا وَيَنْفَعُونَ آخَرِينَ. وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ:«وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُؤَخِّرَك حَتَّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيَضُرَّ بِك آخَرِينَ» .
الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: كَشْفُ الْعَوْرَاتِ وَالنَّظَرُ إلَيْهَا مَفْسَدَتَانِ مُحَرَّمَتَانِ عَلَى النَّاظِرِ وَالْمَنْظُورِ إلَيْهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ الْأَسْتَارِ، وَيَجُوزَانِ لِمَا يَتَضَمَّنَانِهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْخِتَانِ أَوْ الْمُدَاوَاةِ أَوْ الشَّهَادَاتِ عَلَى الْعُيُوبِ أَوْ النَّظَرِ إلَى فَرْجِ الزَّانِيَيْنِ، لِإِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، إنْ كَانَ النَّاظِرُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ بِالزِّنَا وَكَمُلَ الْعَدَدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ لَا يُبْنَى عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ.
الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا مَفْسَدَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ، الْإِيلَامِ بِتَحَمُّلِ الْعَارِ، لَكِنَّهُ يُبَاحُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَيَجِبُ فِي بَعْضِهَا، لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ الْمَصَالِحِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ.