الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْجِهَادِ يَدَ نَفْسِهِ أَوْ رِجْلَ نَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَسَاوِي الْأَعْضَاءِ فِي الْأَبْدَالِ تَسَاوِي تَفْوِيتِهَا فِي الْآثَامِ.
وَكَذَلِكَ فَقْءُ الْعَيْنَيْنِ أَشَدُّ إثْمًا مِنْ صَلْمِ الْأُذُنَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ الرِّجْلَيْنِ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ قَطْعِ أَصَابِعِهِمَا، وَكَذَلِكَ قَطْعُ الْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ مِنْ إحْدَى الْيَدَيْنِ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ قَطْعِ الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ مِنْهُمَا. وَالْمَدَارُ فِي هَذَا كُلِّهِ عَلَى رُتَبِ تَفْوِيتِ الْمَصَالِحِ وَتَحْقِيقِ الْمَفَاسِدِ. فَكُلُّ عُضْوٍ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ أَتَمَّ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ وِزْرًا، فَلَيْسَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْخَنَاصِرِ وَالْآذَانِ.
[فَصْلٌ فِيمَا يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ فِعْلِهِ]
ِ وَتَخْتَلِفُ الْأُجُورُ بِاخْتِلَافِ رُتَبِ الْمَصَالِحِ؛ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ الْأَسْبَابُ وَالشَّرَائِطُ وَالْأَرْكَانُ فِي الْبَاطِنِ، فَإِنْ ثَبَتَ فِي الظَّاهِرِ مَا يُوَافِقُ الْبَاطِنَ مِنْ تَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ وَالشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ، فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّرْعِ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَذَبَ الظَّنُّ بِأَنْ ثَبَتَ فِي الظَّاهِرِ مَا يُخَالِفُ الْبَاطِنَ، أُثِيبَ الْمُكَلَّفُ عَلَى قَصْدِ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ، وَلَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ لِأَنَّهُ خَطَأٌ وَلَا ثَوَابَ عَلَى الْخَطَأِ، لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ وَلَا ثَوَابَ عَلَى الْمَفَاسِدِ وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ وَالْمَسَاكِنِ الْمَرَاكِبِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ بِحِلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ صَدَقَ ظَنُّهُ فَغَلَبَ حَصَلَتْ الْمَصْلَحَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ إبَاحَةِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَذَبَ ظَنُّهُ، لَزِمَهُ ضَمَانُ مَا انْتَفَعَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ تَلِفَ عِنْدَهُ.
الْمِثَالُ الثَّانِي مَا يُنْفِقُهُ الْمُكَلَّفُ مِنْ الْأَمْوَالِ فِي الْقُرُبَاتِ: كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَالصَّدَقَاتِ وَعِمَارَةِ الرُّبُطِ وَالْمَدَارِسِ وَالْمَسَاجِدِ وَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَجَمِيعِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ مِنْ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ بِحِلِّ شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ، فَإِنْ وَافَقَ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ أُثِيبَ مُتَعَاطِيهِ عَلَى قَصْدِهِ وَفِعْلِهِ، لِأَنَّهُ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَعَمِلَهَا، فَكُتِبَ لَهُ بِذَلِكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِسَبَبِ مَا حَصَّلَهُ مِنْ مَصَالِحِ تِلْكَ الْقُرُبَاتِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ ظَنُّهُ فِي ذَلِكَ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، أُثِيبَ عَلَى قَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ دُونَ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ عِقَابٌ إذْ لَا يَتَقَرَّبُ إلَى الرَّبِّ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي ثَنَائِهِ عَلَى رَبِّهِ عز وجل: «وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْك، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك» : أَيْ وَالشَّرُّ لَيْسَ قُرْبَةً وَلَا وَسِيلَةً إلَيْك؛ إذْ لَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ إلَّا بِأَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ وَالْخُيُورِ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ، بِخِلَافِ ظَلَمَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يُتَقَرَّبُ إلَيْهِمْ بِالشُّرُورِ، كَغَصْبِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ، وَظُلْمِهِمْ الْعِبَادَ، وَإِفْشَاءِ الْفَسَادِ وَإِظْهَارِ الْعِنَادِ، وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ إلَّا بِالْحَقِّ وَالرَّشَادِ، فَإِنْ قِيلَ: الْجِهَادُ إفْسَادٌ، وَتَفْوِيتُ النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَالْأَمْوَالِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ؟ قُلْنَا: لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إفْسَادًا، وَإِنَّمَا يُتَقَرَّبُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الصَّلَاحِ، كَمَا أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ وَسِيلَةٌ إلَى حِفْظِ الْأَرْوَاحِ، وَلَيْسَ مَقْصُودًا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إفْسَادًا لِلْيَدِ.
وَكَذَلِكَ الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ وَشُرْبُ الْأَدْوِيَةِ الْمُرَّةِ الْبَشِعَةِ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَحَمَّلُهُ النَّاسُ مِنْ الْمَشَاقِّ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ الْمَصَالِحِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ أَنْ يَقْضِيَ الْمُكَلَّفُ دَيْنَهُ بِمَالٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِلْكُهُ، أَوْ يُنْفِقُهُ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ زَوْجِهِ وَأَقَارِبِهِ وَرَقِيقِهِ وَدَوَابِّهِ، وَذَلِكَ الْمَالُ فِي الْبَاطِنِ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، فَيُثَابُ عَلَى قَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ، وَلَا يُثَابُ عَلَى إنْفَاقِهِ، لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ وَلَا يُثَابُ عَلَى الْمَفَاسِدِ.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ إذَا اعْتَكَفَ الْمُكَلَّفُ فِي مَكَانِ يَظُنُّهُ مَسْجِدًا، فَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا فِي الْبَاطِنِ أُثِيبَ عَلَى قَصْدِهِ وَاعْتِكَافِهِ، لِأَنَّهُ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَعَمِلَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا فِي الْبَاطِنِ أُثِيبَ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ اعْتِكَافِهِ، لِأَنَّ اعْتِكَافَهُ إفْسَادٌ لِمَنَافِعَ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَتَلْزَمُهُ أُجْرَتُهَا.
الْمِثَالُ الْخَامِسُ أَنْ يَقْتُلَ الْحَاكِمُ مَنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ، أَوْ يَرْجُمَهُ أَوْ يَحُدَّهُ، أَوْ يُسَلِّمَ الْمَرْأَةَ إلَى مَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ زَوْجُهَا، فَإِنْ كَذَبَ الظَّنُّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِهِ، وَلَا يُؤْجَرُ عَلَى فِعْلِهِ، لِأَنَّهُ مُعَاوَنَةٌ عَلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ، وَحَدِّ نَفْسٍ بَرِيئَةٍ مَظْلُومَةٍ أَوْ رَجْمِهَا، وَتَسْلِيمِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ إلَى مَنْ يَزْنِي بِهَا، وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْمَفَاسِدِ أَقْصَى غَايَاتِهَا أَنْ يُعْفَى عَنْهَا، أَمَّا أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِلثَّوَابِ فَلَا.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ سَاعَدَهُ وَعَاوَنَهُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ. وَإِنْ صَدَقَ ظَنُّهُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ، فَيُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَفِعْلِهِ، لِأَنَّهُ هَمَّ بِحَسَنَاتٍ وَعَمِلَهَا.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ سَاعَدَهُ وَعَاوَنَهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَأَنْصَارِهِ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ. وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَنُهِينَا عَنْ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
وَلَوْ عَلِمَ الشَّاهِدُ وَالْحَاكِمُ وَمُبَاشِرُ الْقَتْلِ وَالرَّجْمِ أَنَّ الْقَتِيلَ مَظْلُومٌ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ أَجْنَبِيَّةٌ، كَانَ إثْمُ الْمُبَاشِرِ أَعْظَمَ مِنْ إثْمِ الْحَاكِمِ إذَا لَمْ يُخْبِرْ الْحَاكِمَ، وَإِثْمُ الْحَاكِمِ أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ الشَّاهِدِ، لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ قَدْ حَقَّقَ الْمَفَاسِدَ، وَالْحَاكِمُ سَبَبٌ لِمُبَاشَرَتِهِ، وَالشَّاهِدُ سَبَبٌ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَلَّى الْمُكَلَّفُ صَلَاةً مُعْتَقِدًا لِاجْتِمَاعِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطهَا، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ صَلَّى مُحْدِثًا، أَوْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ، أَوْ أَنَّ إمَامَهُ كَانَ كَافِرًا أَوْ امْرَأَةً، أَوْ صَلَّى عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَهَلْ يَبْطُلُ جَمِيعُ مَا بَاشَرَهُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَقْوَالِهَا وَخُضُوعِهَا وَخُشُوعِهَا أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ صِحَّةُ الطَّهَارَةِ وَلَا الْوَقْتِ، كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَالدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ، وَمُلَاحَظَةِ مَعَانِي الْأَذْكَارِ وَالْقِرَاءَةِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالْمَهَابَةِ وَالْإِجْلَالِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ صَحِيحٌ يُثَابُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ