المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل في تفضيل مكة على المدينة] - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - جـ ١

[عز الدين بن عبد السلام]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ جَلْبِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمَا]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا تُعْرَفُ بِهِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَفِي تَفَاوُتِهِمَا]

- ‌[فَائِدَةٌ قَدَّمَ الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَصْفِيَاءُ مَصَالِحَ الْآخِرَةِ عَلَى مَصَالِحِ الدنيا]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا تُعْرَفُ بِهِ مَصَالِحُ الدَّارَيْنِ وَمَفَاسِدُهُمَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَقَاصِدِ هَذَا الْكِتَابِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَائِدَةٌ سَعَى النَّاسُ فِي جَانِبِ الْأَفْرَاحِ وَاللَّذَّاتِ وَفِي دَرْءِ الْغُمُومِ الْمُؤْلِمَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَصَالِحُ ضَرْبَانِ]

- ‌[فَائِدَةٌ الْمَصَالِحُ الْمَحْضَةُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْحَثِّ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ بِمَثَابَةِ الْأَوْقَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا رُتِّبَ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا عُرِفَتْ حِكْمَتُهُ مِنْ الْمَشْرُوعَاتِ وَمَا لَمْ تُعْرَفْ حِكْمَتُهُ مِنْ الْمَشْرُوعَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَفَاوُتِ رتب الْأَعْمَال بِتَفَاوُتِ رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ الصَّغَائِرُ مِنْ الْكَبَائِرِ]

- ‌[فَائِدَةٌ مَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا قَذْفًا لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالْحَفَظَةَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فِي ظَنِّهِ وَلَيْسَتْ فِي الْبَاطِنِ كَبِيرَةً]

- ‌[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي إتْيَانِ الْمَفَاسِدِ ظَنًّا أَنَّهَا مِنْ الْمَصَالِحِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَنْ فَعَلَ مَا يَظُنُّهُ قُرْبَةً أَوْ وَاجِبًا وَهُوَ مَفْسَدَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ تَقْسِيمِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ تَفَاوُتِ رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَتَسَاوِيهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَتَفَاوَتُ أَجْرُهُ بِتَفَاوُتِ تَحَمُّلِ مَشَقَّتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَسَاوِي الْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةِ مَعَ تَفَاوُتِ الْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْقِسَامِ الْمَصَالِحِ إلَى الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْقِسَامِ الْمَفَاسِدِ إلَى الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ]

- ‌[فَائِدَةٌ إذَا عَظُمَتْ الْمَصْلَحَةُ أَوْجَبَهَا الرَّبُّ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَفَاوُتِ الْأَعْمَالِ مَعَ تَسَاوِيهَا بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْقِسَامِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ إلَى فُرُوضِ كِفَايَاتٍ وَفُرُوضِ أَعْيَانٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْقِسَامِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ إلَى الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ رُتَبِ الْمَصَالِحِ]

- ‌[فَائِدَةٌ فِي مَصَالِحِ الْمُبَاحِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَصْلٌ تَقْسِيم الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَخْفَى مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ]

- ‌[قَاعِدَةٌ فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اجْتِمَاعِ الْمَصَالِحِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ مِنْ الْوِلَايَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَنْفِيذِ تَصَرُّفَاتِ الْبُغَاةِ وَأَئِمَّةِ الْجَوْرِ لِمَا وَافَقَ الْحَقَّ لِضَرُورَةِ الْعَامَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَقَيُّدِ الْعَزْلِ بِالْأَصْلَحِ لِلْمُسْلِمِينَ فَالْأَصْلَحِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَصَرُّفِ الْآحَادِ فِي الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ عِنْدَ جَوْرِ الْأَئِمَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَجُوزُ أَخْذُهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مُعَامَلَةِ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي يَدِهِ حَرَامٌ]

- ‌[قَاعِدَةٌ فِي تَعَذُّرِ الْعَدَالَةِ فِي الْوِلَايَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ بِالزَّمَانِ إذَا اتَّسَعَ وَقْتُ الْفَاضِلِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَسَاوِي الْمَصَالِحِ مَعَ تَعَذُّرِ جَمْعِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْإِقْرَاعِ عِنْدَ تَسَاوِي الْحُقُوقِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ مَصْلَحَتِهِ إلَّا بِإِفْسَادِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اجْتِمَاعِ الْمَفَاسِدِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْمَصَالِحِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اجْتِمَاعِ الْمَصَالِحِ مَعَ الْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَائِدَةٌ إذَا قَذَفَ امْرَأَةً عِنْدَ الْحَاكِمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْوَسَائِلِ إلَى الْمَصَالِحِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ وَسَائِلِ الْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَصْلٌ اخْتِلَافُ الْآثَارِ بِاخْتِلَافِ الْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ فِعْلِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مِنْ الْأَفْعَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الصِّفَاتِ وَمَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُعَاقَبُ مِنْ قُبْحِ الصِّفَاتِ وَمَا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ الْعُلُومِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْعَالِمُ وَالْحَاكِمُ وَمَا لَا يُثَابَانِ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْمُتَنَاظِرَانِ وَمَا لَا يُثَابَانِ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَفْضِيلِ الْحُكَّامِ عَلَى الْمُفْتِينَ وَالْأَئِمَّةِ عَلَى الْحُكَّامِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْجَوْرِ وَالْعَدْلِ فِي وِلَايَتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُثَابُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ وَمَا لَا يُثَابُونَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ التَّسْمِيعِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ]

- ‌[فَائِدَةٌ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ وَطَاعَتُهَا مَصُونَةٌ مِنْ الرِّيَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَنَّ الْإِعَانَةَ عَلَى الْأَدْيَانِ وَطَاعَةَ الرَّحْمَنِ لَيْسَتْ شِرْكًا]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَفَاوُتِ فَضْلِ الْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ بِالطَّاعَاتِ]

- ‌[قَاعِدَةٌ فِي بَيَانِ الْحُقُوقِ الْخَالِصَةِ وَالْمُرَكَّبَةِ]

- ‌[فَائِدَةٌ مَا مِنْ حَقٍّ لِلْعِبَادِ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِمْ إلَّا وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْقِسَامِ الْحُقُوقِ إلَى الْمُتَفَاوِتِ وَالْمُتَسَاوِي وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يَتَسَاوَى مِنْ حُقُوقِ الرَّبِّ فَيَتَخَيَّرُ فِيهِ الْعَبْدُ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا اخْتَلَفَ فِي تَفَاوُتِهِ وَتَسَاوِيهِ مِنْ حُقُوقِ الْإِلَهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَا يُقَدَّمُ مِنْ حُقُوقِ بَعْضِ الْعِبَادِ عَلَى بَعْضٍ]

- ‌[الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِيمَا يَتَسَاوَى مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَتَخَيَّرُ فِيهِ الْمُكَلَّفُ]

- ‌[الْفَصْلُ السَّادِسُ فِيمَا يَتَقَدَّمُ مِنْ حُقُوقِ الرَّبِّ عَلَى حُقُوقِ عِبَادِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ السَّابِعُ فِيمَا يَتَقَدَّمُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى حُقُوقِ الرَّبِّ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ تَقْدِيمِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى حُقُوقِ عِبَادِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ الطَّاعَاتِ]

- ‌[قَاعِدَةٌ فِي الْجَوَابِرِ وَالزَّوَاجِرِ]

- ‌[فَائِدَةٌ سَجْدَتَا السَّهْوِ جَبْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَزَجْرٌ لِلشَّيْطَانِ مِنْ وَجْهٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّمَاثُلُ مِنْ الزَّوَاجِرِ وَمَا لَا يُشْتَرَطُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مُتَعَلِّقَاتِ حُقُوقِ اللَّهِ عز وجل وَمَحَالِّهَا]

- ‌[قَاعِدَةٌ فِي بَيَانِ مُتَعَلِّقَاتِ الْأَحْكَامِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ الْأَبْدَانِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ الْجَوَارِحِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ الْحَوَاسِّ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الطَّاعَاتُ مِنْ الْأَمْوَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمَاكِنِ مِنْ الطَّاعَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَزْمَانِ مِنْ الطَّاعَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَنْوِيعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ]

الفصل: ‌[فصل في تفضيل مكة على المدينة]

فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ بِغَيْرِ كُفْرٍ وَلَا عِصْيَانٍ، وَيَتَفَضَّلَ بِغَيْرِ طَاعَةٍ وَإِيمَانٍ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ يُنْشِئُ فِي الْجَنَّةِ أَقْوَامًا وَفِي الْجَنَّةِ آخَرِينَ.

وَكَذَلِكَ مَنْ خَلَقَهُ فِي الْجِنَانِ مِنْ الْحُورِ الْعَيْنِ. وَتَفْضِيلُ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا دُنْيَوِيٌّ كَتَفْضِيلِ الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْمَانِ، وَكَتَفْضِيلِ بَعْضِ الْبُلْدَانِ عَلَى بَعْضٍ بِمَا فِيهَا مِنْ الْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ وَطِيبِ الْهَوَاءِ وَمُوَافَقَةِ الْأَهْوَاءِ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: تَفَضُّلٌ دِينِيٌّ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ اللَّهَ يَجُودُ عَلَى عِبَادِهِ فِيهِمَا بِتَفْضِيلِ أَجْرِ الْعَامِلِينَ كَتَفْضِيلِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى صَوْمِ سَائِرِ الشُّهُورِ

وَكَذَلِكَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ وَشَعْبَانَ وَسِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، فَضْلُهُمَا رَاجِعٌ إلَى جُودِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ فَضْلُ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ كُلِّ لَيْلَةٍ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي فِيهِ مِنْ إجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَالْمَغْفِرَةِ وَإِعْطَاءِ السُّؤَالِ وَنَيْلِ الْمَأْمُولِ مَا لَا يُعْطِيهِ فِي الثُّلُثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ.

وَكَذَلِكَ اخْتِصَاصُ عَرَفَةَ بِالْوُقُوفِ فِيهَا، وَمِنًى بِالرَّمْيِ فِيهَا، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِالسَّعْيِ فِيهِمَا، مَعَ الْقَطْعِ بِتَسَاوِي الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ، وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ مَكَّةَ عَلَى سَائِرِ الْبُلْدَانِ.

[فَصْلٌ فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ]

فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ

إنْ قِيلَ: قَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ رحمه الله إلَى تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَيْهَا؟ قُلْنَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَجُودُ عَلَى عِبَادِهِ فِي مَكَّةَ بِمَا لَا يَجُودُ بِمِثْلِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وُجُوبُ قَصْدِهَا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَهَذَانِ وَاجِبَانِ لَا يَقَعُ مِثْلُهُمَا فِي الْمَدِينَةِ، فَالْإِثَابَةُ عَلَيْهِمَا إثَابَةٌ عَلَى وَاجِبٍ، وَلَا يَجِبُ قَصْدُ الْمَدِينَةِ بَلْ قَصْدُهَا بَعْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ عليه السلام بِسَبَبِ زِيَارَتِهِ سُنَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.

ص: 45

الْوَجْهُ الثَّانِي: إنْ فَضُلَتْ الْمَدِينَةُ بِإِقَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ النُّبُوَّةِ، كَانَتْ مَكَّةُ أَفْضَلَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ بِهَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً أَوْ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنْ فَضُلَتْ الْمَدِينَةُ بِكَثْرَةِ الطَّارِقِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَمَكَّةُ أَفْضَلُ مِنْهَا بِكَثْرَةِ مَنْ طَرَقَهَا مِنْ الصَّالِحِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا حَجَّهَا آدَم وَمَنْ دُونَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَلَوْ كَانَ لِمَلِكٍ دَارَانِ فُضْلَيَانِ فَأَوْجَبَ عَلَى عَبِيدِهِ أَنْ يَأْتُوا إحْدَى دَارَيْهِ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِغُفْرَانِ سَيِّئَاتِهِمْ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ وَإِسْكَانِهِمْ فِي قُرْبِهِ وَجِوَارِهِ فِي أَفْضَلِ دُورِهِ، لَمْ يُرَتِّبْ ذُو لُبٍّ أَنَّ اهْتِمَامَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ أَتَمُّ مِنْ اهْتِمَامِهِ بِغَيْرِهِ مِنْ بُيُوتِهِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . وَقَالَ: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ» ، وَقَالَ فِي الْمَدِينَةِ، «مَنْ صَبَرَ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا كُنْت لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ التَّقْبِيلَ وَالِاسْتِلَامَ ضَرْبٌ مِنْ الِاحْتِرَامِ وَهُمَا مُخْتَصَّانِ بِالرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ السَّلَامِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْنَا اسْتِقْبَالَهَا فِي الصَّلَاةِ حَيْثُمَا كُنَّا مِنْ الْبِلَادِ وَالْفَلَوَاتِ، فَإِنْ قِيلَ إنْ دَلَّتْ الصَّلَاةُ إلَيْهَا عَلَى فَضْلِهَا فَلْتَكُنْ الصَّخْرَةُ أَفْضَلَ مِنْهَا لَمَّا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ إلَيْهَا؟ فَالْجَوَابُ إنَّ صَلَاتَهُ وَصَلَاةَ أُمَّتِهِ إلَى الْكَعْبَةِ أَطْوَلُ زَمَانًا، فَإِنَّهَا قِبْلَتُهُمْ إلَى الْقِيَامَةِ، وَلَوْلَا أَنَّ مَصْلَحَتَهَا أَكْبَرُ لَمَا اخْتَارَهَا لَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ، وَكُلُّ فِعْلٍ نُسِخَ إيجَابُهُ إلَى غَيْرِهِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي زَمَانِهِ أَفْضَلَ مِنْ الْآخَرِ أَوْ مِثْلِهِ لِقَوْلِهِ:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ، وَكَوْنُهُ أَفْضَلَ فِي زَمَانِهِ وَجْهٌ، لَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ عَلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى.

ص: 46

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْنَا اسْتِدْبَارَ الْكَعْبَةِ وَاسْتِقْبَالَهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنْ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ إلَّا لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ بَوَّأَهَا لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عليه السلام، وَلِابْنِهِ إسْمَاعِيلَ عليه السلام، وَجَعَلَهَا مُبَوَّأً وَمَوْلِدًا لِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا حَرَمًا آمِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ.

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ مَكَّةَ لَا تُدْخَلُ إلَّا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، إمَّا وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَلَيْسَ فِي الْمَدِينَةِ مِثْلُ ذَلِكَ وَلَا بَدَلٌ مِنْهُ.

الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ فِي مَكَّةَ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ، عَبَّرَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَنْ الْحَرَمِ كُلِّهِ، وَهَذَا مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْبَعْضِ عَنْ الْكُلِّ، كَمَا يُعَبَّرُ بِالْوَجْهِ عَنْ الْجُمْلَةِ، وَبِالرَّأْسِ عَنْ الْجُمْلَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهُوَ مَسْنُونٌ وَلَمْ يُنْقَلْ فِي الْمَدِينَةِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اغْتِسَالَهُ لِأَجْلِ الْحَجِّ لَا لِأَجْلِ دُخُولِ الْبَلَدِ كَمَا فِي غُسْلِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْبَيْتِ فِي كِتَابِهِ بِمَا لَمْ يُثْنِ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] ، وَكَيْفَ لَا نَعْتَقِدُ أَنَّ مَكَانًا أَوْجَبَ اللَّهُ إتْيَانَهُ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ أَفْضَلُ مِنْ مَكَان لَا يَجِبُ إتْيَانُهُ، وَمِنْ شَرَفِ مَكَّةَ

ص: 47

أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُكْرَهُ فِيهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَاتِ لِمَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ. «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: «اللَّهُمَّ إنَّك أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي فِي أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيْك» . فَهَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ الْمَجَازِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَهُوَ مِنْ مَجَازِ وَصْفِ الْمَكَانِ بِصِفَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ، وَلَا يَقُومُ بِهِ قِيَامَ الْعَرَضِ بِالْجَوْهَرِ كَقَوْلِهِ {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} [سبأ: 15] وَصَفَهَا بِالطِّيبِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِهَوَائِهَا.

وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ وُصِفَتْ بِالْقُدْسِ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ لِمَنْ حَلَّ بِهَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، وَكَذَلِكَ الْوَادِي الْمُقَدَّسُ وُصِفَ بِقُدْسِ مُوسَى عليه السلام وَبِقُدْسِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ حَلُّوا فِيهِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام «أَحَبُّ الْبِلَادِ إلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَسْوَاقُهَا» ، أَرَادَ بِمَحَبَّةِ الْمَسَاجِدِ مَحَبَّةَ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ ذِكْرِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَوَاتِ، وَأَرَادَ بِبُغْضِ الْأَسْوَاقِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَسُوءِ الْمُعَامَلَةِ، مَعَ كَوْنِ أَهْلِهَا لَا يَأْمُرُونَ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ وَلَا يَغُضُّونَ الْأَبْصَارَ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ بَلَدٌ خَائِفٌ وَآمِنٌ وُصِفَ بِصِفَةِ مَنْ حَلَّ فِيهِ مِنْ الْخَائِفِينَ وَالْآمِنِينَ، فَكَذَلِكَ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا هُوَ وَصْفٌ بِمَا حَصَلَ فِيهِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ إقَامَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِرْشَادُهُ أَهْلَهُ إلَى مَا بُعِثَ بِهِ، فَكَانَتْ حِينَئِذٍ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ كَانَ أَحَبَّ إلَى رَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ إقَامَتُهُ بِهَا وَإِرْشَادُهُ أَهْلَهَا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَإِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إقَامَتِهِ بِغَيْرِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّاعَةَ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِهَا أَحَبُّ إلَى رَسُولِهِ مِنْ

ص: 48

جَمِيعِ الطَّاعَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَيْكَ أَلَا تَكُونَ أَحَبَّ إلَى رَسُولِهِ. كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى أَنْ تَكُونَ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَى رَبِّهِ. فَالتَّعْبِيرُ بِالْأَحَبِّ فِي الْبَلَدَيْنِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَلَدَيْنِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، إذْ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخَالِفَ رَبَّهُ فِي مَحَبَّةِ مَا أَحَبَّهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَلَدَيْنِ بِحَسْبِ مَا وَقَعَ فِيهِ: مِنْ إبْلَاغِ الرِّسَالَةِ، وَالْأَمْرِ بِالطَّاعَاتِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمَعَاصِي، وَكُلُّ ذَلِكَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِمَّا سِوَاهُ مِنْ النَّوَافِلِ، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فِي أَمْرِ مَعَاشِي فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك فِي أَمْرِ مَعَادِي وَهَذَا مُتَّجَهٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِهِ وَتَبْلِيغِ أَمْرِهِ إلَى أَنْ تَكَامَلَ الْوَحْيُ وَبَشَّرَهُ بِإِكْمَالِ دِينِهِ وَإِتْمَامِ إنْعَامِهِ بِقَوْلِهِ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] .

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمَاكِنَ وَالْأَزْمَانَ يُوصَفَانِ بِصِفَةِ مَا يَقَعُ فِيهِمَا قَوْله تَعَالَى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] وَقَوْلُهُ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] فَوَصَفَهُمَا بِصِفَةِ أَهْلِهِمَا.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] وَصَفَهَا بِالتَّحْرِيمِ الْوَاقِعِ فِيهَا وَهُوَ تَحْرِيمُ صَيْدِهَا، وَعَضُدِ شَجَرِهَا وَاخْتِلَاءِ خَلَائِهَا، وَتَحْرِيمُ الْتِقَاطِ لَقَطَتِهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ. وَكَذَلِكَ وَصَفَ سبحانه وتعالى الْأَشْهُرَ بِالتَّحْرِيمِ.

فِي قَوْلِهِ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] . وَفِي قَوْلِهِ. {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 194] .

وَقَالَتْ الْعَرَبُ. يَوْمٌ بَارِدٌ وَلَيْلٌ نَائِمٌ، وَنَهَارٌ صَائِمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:

وَنِمْت وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمٍ

وَفِي الْكِتَابِ. {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر: 9]، {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 156] وَكَذَلِكَ يَوْمٌ عَصِيبٌ، وَقَمْطَرِيرٌ، وَثَقِيلٌ. كُلُّ ذَلِكَ صِفَةٌ لِمَا يَحْصُلُ فِي تِلْكَ الْأَزْمَانِ، وَكَذَلِكَ وَصَفَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بِكَوْنِهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، إنَّمَا هُوَ وَصْفٌ لِلْعَمَلِ الْوَاقِعِ فِيهَا.

وَأَمَّا فَضْلُ الثُّغُورِ فَعَائِدٌ إلَى فَضِيلَةِ الرِّبَاطِ

ص: 49