الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ، وَالنَّسْجِ وَالْغَزْلِ، وَالصَّنَائِعِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا بَقَاءُ الْعَالَمِ، وَدَفْعِ مَا يَجِبُ دَفْعُهُ وَقَطْعِ مَا يَجِبُ قَطْعُهُ، فَهَذَا لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ إذَا قَصَدَ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْقُرْبَةَ إلَى اللَّهِ عز وجل، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. فَكَمْ مِنْ مُقِيمٍ لِصُوَرِ الطَّاعَاتِ وَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِ الْعِصْيَانِ إلَّا إذَا قَصَدَ بِذَلِكَ طَاعَةَ الدَّيَّانِ، فَحِينَئِذٍ يُثَابُ عَلَيْهِ، بَلْ لَوْ قَصَدَ الْإِنْسَانُ الْقُرْبَةَ بِوَسِيلَةٍ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ لَا يُثَابُ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ فِعْلِهِ، كَمَنْ قَصَدَ نَوْمَ بَعْضِ اللَّيْلِ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى قِيَامِ بَقِيَّتِهِ، وَكَمَنْ قَصَدَ الْأَكْلَ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ، وَلَوْ نَذَرَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ قَصَدَ الْمَعْصِيَةَ بِمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ لَعُوقِبَ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ فِعْلِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ وَطْءَ جَارِيَةٍ أَوْ أَكْلَ طَعَامٍ يَظُنُّهُمَا لِغَيْرِهِ، فَوَطِئَ وَأَكَلَ مَعَ كَوْنِهِمَا مِلْكًا لَهُ، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ فِعْلِهِ.
[قَاعِدَةٌ فِي الْجَوَابِرِ وَالزَّوَاجِرِ]
(قَاعِدَةٌ) فِي الْجَوَابِرِ وَالزَّوَاجِرِ الْجَوَابِرُ مَشْرُوعَةٌ لِجَلْبِ مَا فَاتَ مِنْ الْمَصَالِحِ، وَالزَّوَاجِرُ مَشْرُوعَةٌ لِدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَالْغَرَضُ مِنْ الْجَوَابِرِ جَبْرُ مَا فَاتَ مِنْ مَصَالِحِ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَبْرُ آثِمًا، وَكَذَلِكَ شُرِعَ الْجَبْرُ مَعَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ وَالْجَهْلِ وَالْعِلْمِ وَالذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ، وَعَلَى الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ، بِخِلَافِ الزَّوَاجِرِ فَإِنَّ مُعْظَمَهَا لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى عَاصٍ زَجْرًا لَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ تَجِبُ الزَّوَاجِرُ دَفْعًا لِلْمَفَاسِدِ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ وَلَا عُدْوَانٍ، كَمَا فِي حَدِّ الْحَنَفِيِّ إذَا شَرِبَ النَّبِيذَ، وَرِيَاضَةِ الْبَهَائِمِ، وَتَأْدِيبِ الصِّبْيَانِ اسْتِصْلَاحًا لَهُمْ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ هَلْ هِيَ زَوَاجِرُ أَمْ جَوَابِرُ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا زَوَاجِرَ عَنْ الْعِصْيَانِ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْأَمْوَالِ وَتَحْمِيلَ الْمَشَاقِّ رَادِعٌ زَاجِرٌ عَنْ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا جَوَابِرُ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ وَقُرُبَاتٌ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّاتِ، وَلَيْسَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ زَاجِرًا، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرُبَاتٍ
إذْ لَيْسَتْ فِعْلًا لِلْمَزْجُورِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهَا الْأَئِمَّةُ وَنُوَّابُهُمْ.
وَالْجَوَابِرُ تَقَعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَمَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ وَالْجِرَاحِ. وَالْجَوَابِرُ تَقَعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا وَهِيَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ. فَأَمَّا الْجَوَابِرُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِبَادَاتِ فَمِنْهَا جَبْرُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ بِالطَّهَارَةِ بِالتُّرَابِ، وَمِنْهَا جَبْرُ مَا فَاتَ بِالسَّهْوِ مِنْ تَرْتِيبِ الصَّلَاةِ وَالْكَفِّ عَنْ الْأَفْعَالِ الْمُفْسِدَةِ بِالسُّجُودِ، وَمِنْهَا التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ وَالْقُنُوتُ بِالسُّجُودِ، وَمِنْهَا جَبْرُ مَا فَاتَ مِنْ الْقِبْلَةِ وَقْتَ الْمُسَابَقَةِ بِجِهَةِ الْمُقَاتَلَةِ، وَمِنْهَا جَبْرُ الْقِبْلَةِ بِصَوْبِ السَّفَرِ فِي حَقِّ النَّوَافِلِ، وَمِنْهَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ لِمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَإِنَّهَا جَابِرَةٌ لِمَا فَاتَ مِنْ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ فِي صَلَاةِ الِانْفِرَادِ، وَمِنْهَا جَبْرُ مَا بَيْنَ السَّنَتَيْنِ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الزَّكَاةِ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَهَذَا جَبْرٌ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِ الْجَبْرِ بِالْقِيَمِ، وَمِنْهَا جَبْرُ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ بِمُدٍّ مِنْ الطَّعَامِ، وَكَذَلِكَ جَبْرُ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ بِالْفِدْيَةِ لِمَا فَاتَهُمَا مِنْ أَدَاءِ الصِّيَامِ، وَمِنْهَا جَبْرُ تَأْخِيرِ قَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ مِنْ طَعَامٍ، وَمِنْهَا جَبْرُ مَنَاهِي النُّسُكِ بِالدِّمَاءِ وَالطَّعَامِ وَالصِّيَامِ. وَمِنْهَا نَقْصُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ بِالدَّمِ ثُمَّ بِالصِّيَامِ، وَمِنْهَا جَبْرُ الرَّمْيِ وَتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمَوَاقِيتِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ النُّسُكِ وَالطَّعَامِ وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَمِنْهَا جَبْرُ الصَّيْدِ الْمَأْكُولِ الْبَرِّيِّ فِي الْحَرَمِ أَوْ الْإِحْرَامِ بِالْمِثْلِ وَالطَّعَامِ وَالصِّيَامِ، وَمِنْهَا جَبْرُ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ لِمَالِكِهِ بِقِيمَتِهِ وَلِلرَّبِّ بِالْمِثْلِ أَوْ الطَّعَامِ أَوْ الصِّيَامِ، وَهَذَا مُتْلِفٌ وَاحِدٌ جُبِرَ بِبَدَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَمِنْهَا جَبْرُ أَشْجَارِ الْحَرَمِ بِالنَّعَمِ وَالتَّخَيُّرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْبَرُ إلَّا بِعَمَلٍ بَدَنِيٍّ، وَالْأَمْوَالَ لَا تُجْبَرُ إلَّا بِجَابِرٍ مَالِيٍّ وَالنُّسُكَانِ يُجْبَرَانِ تَارَةً بِعَمَلٍ بَدَنِيٍّ وَتَارَةً يُجْبَرَانِ بِجَابِرٍ مَالِيٍّ فَالْبَدَنِيُّ
كَالصِّيَامِ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَبَعْضِ مَحْضُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَالْمَالُ كَذَبْحِ النُّسُكِ وَالْإِطْعَامِ وَإِتْلَافِ الصَّيْدِ، يُخَيَّرُ بِالْهَدْيِ أَوْ الطَّعَامِ أَوْ الصِّيَامِ، وَالصَّوْمُ تَارَةً يُجْبَرُ بِمِثْلِهِ فِي حَقِّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ وَتَارَةً يُجْبَرُ بِالْمَالِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابِرُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَمْوَالِ فَالْأَصْلُ رَدُّ الْحُقُوقِ بِأَعْيَانِهَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَإِذَا رَدَّهَا كَامِلَةَ الْأَوْصَافِ بَرِئَ مِنْ عُهْدَتِهَا، وَإِنْ رَدَّهَا نَاقِصَةَ الْأَوْصَافِ جَبَرَ أَوْصَافَهَا بِالْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَال، إنْ رَدَّهَا نَاقِصَةَ الْقِيمَةِ مُوَفَّرَةَ الْأَوْصَافِ لَمْ يَضْمَنْ مَا نَقَصَ قِيمَتَهَا بِانْخِفَاضِ الْأَسْوَاقِ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُفِتْ شَيْئًا مِنْ أَجْزَائِهَا وَلَا مِنْ أَوْصَافِهَا. مِثَالُهُ: إذَا غَصَبَ حِنْطَةً تُسَاوِي مِائَةً فَرَدَّهَا وَهِيَ تُسَاوِي عَشَرَةً، أَوْ غَصَبَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً فَرَدَّهُ وَهُوَ يُسَاوِي خَمْسَةً لِانْحِطَاطِ الْأَسْعَارِ لِأَنَّ الْغَايَةَ رَغَبَاتُ النَّاسِ وَهِيَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي الشَّرْعِ، وَالصِّفَاتُ وَالْمَنَافِعُ لَا يُمْكِنُ رَدُّ أَعْيَانِهَا فَتُضْمَنُ الصِّفَاتُ عِنْدَ الْفَوَاتِ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيَمِ الْأَعْيَانِ.
وَتُضْمَنُ الْمَنَافِعُ بِأُجُورِ الْأَمْثَالِ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْأَعْيَانِ، وَلَهَا حَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَتُجْبَرُ بِمَا يُمَاثِلُهَا فِي الْمَالِيَّةِ وَجَمِيعِ الْأَوْصَافِ الْخُلُقِيَّةِ كَضَمَانِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتِ، وَالسِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ، وَالشَّيْرَجُ بِالشَّيْرَجِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ جَبْرُهَا لِقِيَامِهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَجَمِيعِ الْأَعْرَاضِ؛ فَإِنَّ الْأَعْيَانَ إذَا تَسَاوَتْ فِي قَدْرِ الْمَالِيَّةِ وَفِي الْأَوْصَافِ الْخُلُقِيَّةِ فَقَدْ حَصَلَ الْجَبْرُ بِمَا يَقْصِدُهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ الْمَالِيَّةِ وَالْأَوْصَافِ وَجَمِيعِ الْأَعْرَاضِ، وَلَا مُبَالَاةَ بِتَفَاوُتِ الْعَيْنِ إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضُ عَاقِلٍ بَعْدَ الْفَوَاتِ وَلَا يَعْدِلُ ذَلِكَ إلَّا فِي صُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا إذَا أَدَّى إلَى نَقْصِ الْمَالِيَّةِ مِثْلُ أَنْ يَشْرَبَ الْمُضْطَرُّونَ مَاءً مَغْصُوبًا فِي مَظَانِّ فَقْدِ
الْمَاءِ وَغَلَاءِ ثَمَنِهِ وَارْتِفَاعِ قِيمَتِهِ فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَهُ إذَا حَضَرُوا بِقِيمَتِهِ فِي مَحَلِّ عِزَّتِهِ كَيْ لَا تَضِيعَ عَلَى مَالِكِهِ قِيمَتُهُ وَمَالِيَّتُهُ، وَكَذَلِكَ نَظَائِرُهُ.
الْمِثَالِ الثَّانِي: جَبْرُ لَبَنِ الْمُصْرَاةِ بِالتَّمْرِ فَإِنَّهُ مِثْلِيٌّ خَارِجٌ عَنْ جَبْرِ الْأَعْيَانِ بِالْقِيَمِ وَالْأَمْثَالِ، وَإِنَّمَا نَحْكُمُ بِذَلِكَ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مَا اخْتَلَطَ مِنْ لَبَنِ الْبَائِعِ بِلَبَنِ الْمُشْتَرِي فَتَوَلَّى الشَّرْعُ تَقْدِيرَهُ، إذْ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى تَقْدِيرِهِ، وَجَعَلَهُ بِالتَّمْرِ لِمُوَافَقَتِهِ لِلَّبَنِ فِي الِاقْتِيَاتِ وَلِعِزَّةِ التَّقْدِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَبَرَ الْمَالَ الْمَقْطُوعَ بِحِلِّهِ بِمِثْلِهِ مِنْ مَالٍ أَكْثَرُهُ حَرَامٌ فَقَدْ فَاتَ وَصْفٌ مَقْصُودٌ فِي الشَّرْعِ وَعِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى أَخْذِهِ مَعَ التَّفَاوُتِ الظَّاهِرِ بَيْنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ وَبَيْنَ مَا تَمَكَّنَتْ بِشُبْهَةِ الْحَرَامِ؟ قُلْنَا: فِي هَذَا نَظَرٌ وَاحْتِمَالٌ وَظَاهِرُ حُكْمِهِمْ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهِ كَمَا يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى أَخْذِ مَالٍ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَفِي هَذَا أَيْضًا بُعْدٌ وَإِشْكَالٌ.
الْحَالُ الثَّانِيَةُ: مِنْ تَعَذُّرِ رَدِّ الْأَعْيَانِ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ كَالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ فَيُجْبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يُمَاثِلُهُ فِي الْقِيمَةِ وَالْمَالِيَّةِ لِتَعَذُّرِ جَبْرِهِ بِمَا يُمَاثِلُهُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ، فَإِنْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ لَيْسَ فِي يَدِهِ بِأَنْ أَحْرَقَ دَارًا لَيْسَتْ فِي يَدِهِ، أَوْ قَتَلَ عَبْدًا فِي يَدِ سَيِّدِهِ، أَوْ أَتْلَفَ دَابَّةً فِي يَدِ رَاكِبِهَا فَإِنَّهُ يُجْبِرُ ذَلِكَ بِقِيمَتِهِ وَقْتَ إتْلَافِهِ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي فَوَّتَهَا.
وَإِنْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَحْتَ يَدِهِ الضَّامِنَةِ بِتَفْدِيَتِهِ أَوْ بِتَفْوِيتِهِ أَوْ بِتَفْوِيتِ غَيْرِهِ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله بِقِيمَتِهِ أَكْبَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ وَضَعَ يَدَهُ إلَى حِينِ الْفَوَاتِ تَحْتَ يَدِهِ، لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِرَدِّهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَقْصَى قِيمَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُجْبِرُ كُلَّ شَيْءٍ بِمِثْلِهِ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ أَوْصَافُهُ، وَهَذَا إنْ شَرَطَ التَّسَاوِيَ فِي الْمَالِيَّةِ فَقَرِيبٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَقَدْ أُبْعِدَ عَنْ الْحَقِّ وَنَأَى عَنْ الصَّوَابِ، فَإِنَّ جَبْرَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ظُلْمٌ لِغَاصِبِهِ، وَجَبْرَهُ بِدُونِ قِيمَتِهِ
ظُلْمٌ لِمَالِكِهِ بِمَا نَقَصَ مِنْ مَالِيَّتِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى جَبْرِ الصَّيْدِ بِالْمِثْلِ مِنْ النَّعَمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَعَبُّدٌ حَائِدٌ عَنْ قَوَاعِدِ الْجَبْرِ.
وَأَمَّا صِفَاتُ الْأَمْوَالِ فَلَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَالطَّرِيقُ إلَى جَبْرِهَا إذَا فَاتَتْ بِسَبَبٍ مُضَمِّنٍ أَوْ فَاتَتْ تَحْتَ الْأَيْدِي الضَّامِنَةِ أَنْ تُقَوَّمَ الْعَيْنُ عَلَى أَوْصَافِ كَمَالِهَا، ثُمَّ تُقَوَّمَ عَلَى أَوْصَافِ نُقْصَانِهَا فَيُجْبَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ بِمَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِثْلُ إنْ غَصَبَ شَابَّةً حَسَنَةً فَصَارَتْ عِنْدَهُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ فَيَجْبُرُ مَا فَاتَ مِنْ صِفَةِ شَبَابِهَا وَنَضَارَتِهَا بِمَا بَيْنَ قِيمَتَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ عَيَّبَ شَيْئًا مِنْ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ يَجْبُرُهُ بِمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ سَلِيمًا وَمَعِيبًا، وَكَذَلِكَ لَوْ هَدَمَ دَارًا فَإِنَّهُ يَجْبُرُ تَأْلِيفَهَا بِمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا فِي حَالَتَيْ الْبِنَاءِ وَالِانْهِدَامِ، لِأَنَّ تَأْلِيفَهَا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ حَفَرَ الْأَرْضَ فَنَقَصَتْ بِحَفْرٍ لَزِمَهُ أَنْ يَرُدَّ التُّرَابَ إلَى حَفْرِهِ لِيُسَوِّيَ الْأَرْضَ كَمَا كَانَتْ. وَهَذَا قَضَاءٌ بِأَنَّ تَأْلِيفَ بَعْضِ التُّرَابِ إلَى بَعْضٍ وَتَسْوِيَةَ الْحَفْرِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَأَوْجَبَ عَلَيْهِ أَرْشَ النُّقْصَانِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ رَفَعَ خَشَبَةً مِنْ جِدَارٍ أَوْ حَجَرًا مِنْ بَيْنِ أَحْجَارٍ ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى مَكَانَيْهِمَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُحَصِّلٌ لِمِثْلِ الْغَرَضِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، فَأَشْبَهَ تَسْوِيَةَ الْحَفْرِ وَطَمَّ الْآبَارِ تَنْزِيلًا لِتَمَاثُلِ التَّأْلِيفَاتِ مَنْزِلَةَ تَمَاثُلِ الْمِثْلِيَّاتِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ نَقَضَ قَصْرًا مَبْنِيًّا بِالْأَحْجَارِ مِنْ غَيْرِ طِينٍ وَلَا جَيَّارٍ وَأَمْكَنَ أَنْ يَرُدَّ كُلَّ حَجَرٍ فِي مَكَانِهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ لَمْ يَلْزَمْهُ سِوَى ذَلِكَ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إذَا سَوَّى الْحَفْرَ وَطَمَّ الْآبَارَ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ أَنَّ الشَّرِيكَ إذَا هَدَمَ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكَ أُجْبِرَ عَلَى إعَادَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا لَا يُسَاوِي تَأْلِيفَهُ فَهُوَ صَوَابٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ مَعَ تَفَاوُتِ التَّأْلِيفِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِ الشَّرْعِ، وَإِبْدَالُ الْمُتْلَفَاتِ لِأَدَائِهِ إلَى إبْدَالِ الْفَائِتِ بِدُونِهِ أَوْ بِأَفْضَلَ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ بِصِفَةٍ تَرْغَبُ بِمِثْلِهَا الْعُصَاةُ وَتَزِيدُ بِهَا الْقِيَمُ عِنْدَهُمْ كَالْكَبْشِ النَّطَّاحِ وَالدِّيكِ الْمِهْرَاشِ وَالْغُلَامِ الْفَاتِنِ بِحُسْنِ صُورَتِهِ وَحَرَكَتِهِ فَإِنَّ لِهَؤُلَاءِ قِيمَةً زَائِدَةً عِنْدَ أَهْلِ الْفَسَادِ عَلَى الْقِيمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الصَّلَاحِ؟ قُلْنَا: لَا نَظَرَ إلَى ذَلِكَ لِفَسَادِ الْغَرَضِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ، كَمَا لَا نَظَرَ إلَى قِيمَةِ الزَّمْرِ وَالْكُوبَةِ وَالصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِقِيمَةِ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الرُّشْدِ وَالصَّلَاحِ كَمَا فِي كَسْرِ الْأَوْثَانِ وَالصُّلْبَانِ.
وَأَمَّا جَبْرُ الْأُرُوشِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ جَبْرِ الصِّفَاتِ يُقَوَّمُ الْعَرَضُ صَحِيحًا وَمَعِيبًا وَيَحْسِبُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مَنْسُوبًا إلَى الثَّمَنِ.
وَأَمَّا الْمَنَافِعُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَمَنَافِع الْمَلَاهِي وَالْفُرُوجِ الْمُحَرَّمَةِ وَاللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ وَالضَّمِّ الْمُحَرَّمِ فَلَا جَبْرَ لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ احْتِقَارًا لَهَا، كَمَا لَا تُجْبَرُ الْأَعْيَانُ النَّجِسَةُ لِحَقَارَتِهَا، فَإِنْ اسْتَوْفَى شَيْئًا مِنْهَا بِغَيْرِ مُطَاوَعَةٍ مِنْ ذِي الْمَنْفَعَةِ فَلَا يُجْبَرُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا مَهْرُ الْمَزْنِيِّ بِهَا كُرْهًا أَوْ شُبْهَةً، وَلَا يُجْبَرُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اللِّوَاطِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَوَّمْ قَطُّ فَأَشْبَهَ الْقُبَلَ وَالْعِنَاقَ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً مُتَقَوِّمَةً فَتُجْبَرُ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالصَّحِيحَةِ وَالْفَوَاتُ تَحْتَ الْأَيْدِي الْمُبْطِلَةِ وَالتَّفْوِيتُ بِالِانْتِفَاعِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَوَّمَهَا وَنَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْأَمْوَالِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَبْرِهَا بِالْعُقُودِ وَجَبْرِهَا بِالتَّفْوِيتِ وَالْإِتْلَافِ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ هِيَ الْغَرَضُ الْأَظْهَرُ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، فَمَنْ غَصَبَ قَرْيَةً أَوْ دَارًا قِيمَتُهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبَقِيَتْ فِي يَدِهِ سَبْعِينَ سَنَةً يَنْتَفِعُ بِهَا مَنَافِعَ تُسَاوِي أَضْعَافَ قِيمَتِهَا وَلَمْ تَلْزَمْهُ قِيمَتُهَا لَكَانَ ذَلِكَ بَعِيدًا مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ الَّذِي لَمْ تَرِدْ شَرِيعَةٌ بِمِثْلِهِ وَلَا بِمَا يُقَارِبُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ.
وَأَمَّا مَنَافِعُ الْأَحْرَارِ فَيُجْبَرُ اسْتِيفَاؤُهَا فِي الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَفِي غَيْرِ الْعُقُودِ، وَهَلْ تُجْبَرُ بِحَبْسِ الْحُرِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءٍ لَهَا؟ فِيهِ خِلَافٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحُرَّ عَلَى مَنَافِعِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فَوَاتُهَا فِي يَدِ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْأَبْضَاعُ فَإِنَّهَا تُجْبَرُ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالصَّحِيحَةِ وَفِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَوَطْءِ الْإِكْرَاهِ بِمُهُورِ الْأَمْثَالِ، وَلَا تُجْبَرُ مَنَافِعُ الْأَبْضَاعِ إلَّا بِعَقْدٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ تَفْوِيتٍ بِشُبْهَةٍ أَوْ إكْرَاهٍ، وَلَا تُجْبَرُ بِالْفَوَاتِ تَحْتَ الْأَيْدِي الْعَادِيَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَنَافِعِ الْأَبْضَاعِ وَسَائِرِ الْمَنَافِعِ الْفَائِتَةِ تَحْتَ الْأَيْدِي الْعَادِيَةِ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْمَنَافِعِ يُجْبَرُ بِقَلِيلِ الْأَجْرِ وَحَقِيرِهَا، وَضَمَانُ الْأَبْضَاعِ بِمُهُورِ الْأَمْثَالِ يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ إيلَاجِ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ. فَلَوْ جُبِرَ بِالْفَوَاتِ تَحْتَ الْأَيْدِي لَجُبِرَ بِمَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ مِنْ الْأَمْوَالِ. فَإِذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ مِائَةً وَمُدَّةُ الْإِيلَاجِ لَحْظَةٌ لَطِيفَةً، فَأَمْسَكَهَا يَوْمًا يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَيْ لَحْظَةٍ لَلَزِمَهُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ أَلْفَا دِينَارٍ بَلْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ أَوْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ أَوْ عَشَرَةُ آلَافٍ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ بِعَشَرَةِ آلَافِ إيلَاجَةٍ وَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ.
وَأَمَّا النُّفُوسُ فَإِنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ قِيَامِ جَبْرِ الْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ وَالْأَوْصَافِ إذْ لَا تُجْبَرُ بِأَمْثَالِهَا وَلَا تَخْتَلِفُ جَوَابِرُهَا بِاخْتِلَافِ الْأَوْصَافِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَدْيَانِ وَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ: فَيُجْبَرُ الْمُسْلِمُ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ وَالْمُسْلِمَةُ بِخَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ، وَيُجْبَرُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَتُجْبَرُ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ بِسُدُسِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَيُجْبَرُ الْمَجُوسِيُّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْمَجُوسِيَّةُ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَا عِبْرَةَ فِي جَبْرِ الْأَمْوَالِ بِالْأَدْيَانِ فَيُجْبَرُ الْعَبْدُ الْمَجُوسِيُّ الَّذِي يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ، وَيُجْبَرُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُسَاوِي مِائَةً بِمِائَةٍ، لِأَنَّ الْمَجْبُورَ هُوَ الْمَالِيَّةُ دُونَ الْأَدْيَانِ.
وَأَمَّا الْجِرَاحُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يَصِلُ إلَى الْعِظَامِ فِي الْوَجْهِ أَوْ الرَّأْسِ وَأَرْشُهُ مُقَدَّرٌ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ بِسَبَبِ طُولِهِ وَلَا قِصَرِهِ وَلَا ضِيقِهِ وَلَا اتِّسَاعِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ مِنْ الْجِرَاحِ وَهُوَ عَلَى قِيَاسِ الْإِتْلَافِ يُجْبَرُ بِأَرْشِ النَّقْصِ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا سَلِيمًا وَمَجْنِيًّا عَلَيْهِ وَبِحَسَبِ مَا بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الدِّيَةِ دُونَ الْقِيمَةِ.
وَأَمَّا أَعْضَاءُ بَنِي آدَمَ فَإِنَّهَا تُجْبَرُ بِالدِّيَةِ تَارَةً وَبِمُقَدَّرٍ يُنْسَبُ إلَى الدِّيَةِ تَارَةً، وَلَوْ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي الدَّوَابِّ لَمْ يُجْبَرْ بِمُقَدَّرٍ وَجُبِرَ بِمَا يَنْقُصُ مِنْ قِيمَةِ السَّالِمِ مِنْ الْجِنَايَةِ.
وَلَوْ وَجَبَ فِي الْإِنْسَانِ دِيَاتٌ ثُمَّ مَاتَ بِسِرَايَتِهَا لَعَادَتْ الدِّيَاتُ إلَى دِيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ فُرِضَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ ثُمَّ مَاتَ بِالسِّرَايَةِ لَجُبِرَ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ مَوْتِهِ وَلَمْ يُسْقِطْ شَيْئًا مِنْ أُرُوشِ أَعْضَائِهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى جِنَايَاتِ الْأُنَاسِ التَّعَبُّدُ الَّذِي لَا يُوقَفُ عَلَى مَعْنَاهُ، وَالْحُكُومَاتُ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ فَهِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ نِسْبَتِهَا إلَى الدِّيَاتِ. وَقَدْ سَوَّى الشَّرْعُ بَيْنَ أَرْشِ إبْهَامِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَخِنْصَرِهَا مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَكَذَلِكَ سَوَّى بَيْنَ أَرْشِ إبْهَامِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى وَخِنْصَرِهَا مَعَ التَّفَاوُتِ الظَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ سَوَّى بَيْنَ أَرْشِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَأَرْشِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ مَعَ بَقَاءِ مُعْظَمِ مَنَافِعِ الرِّجْلَيْنِ وَفَوَاتِ مُعْظَمِ مَنَافِعِ الْيَدَيْنِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فِي مُجَانَبَةِ الْقِيَاسِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَرْشِ إبْهَامِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَسَبَّابَتِهَا وَبَيْنَ أَرْشِ خِنْصَرِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى وَبِنَصْرِهَا، وَكَذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَرْشِ إبْهَامِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَأَرْشِ خِنْصَرِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَأَعْجَبُ مِنْهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ دِيَةِ الْأُذُنَيْنِ وَدِيَةِ اللِّسَانِ مَعَ تَفَاوُتِ النَّفْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ دِيَةِ الشَّمِّ وَالْعَقْلِ وَدِيَةِ الْبَصَرِ وَالشَّمِّ، وَكَذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْيَدَيْنِ، وَكَذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ دِيَاتِ الْأَسْنَانِ وَالْأَصَابِعِ مَعَ تَفَاوُتِهِمَا فِي الْمَنَافِعِ، وَكَذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مُوضِحَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مُسْتَوْعِبَةٌ لِجَمِيعِ الرَّأْسِ
وَالْأُخْرَى بِقَدْرِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ، وَكَذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْهَاشِمَتَيْنِ وَالْمِنْقَلَتَيْنِ مَعَ تَفَاوُتِهِمَا فِي الْهَشْمِ وَنَقْلِ الْعِظَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا تَعَبُّدًا لَا يَقِفُ الْعِبَادُ عَلَى مَعْنَاهُ.
وَكَذَلِكَ خُولِفَ الْقِصَاصُ فِي التَّمَاثُلِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْجَابِرِ وَالْمَجْبُورِ فِي غَيْرِ الْإِنَاسِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُجْبَرُ بِالْإِبِلِ وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا مِنْ جِنْسِ أَعْضَائِهِ كَمَا يُجْبَرُ جَزَاءُ الصَّيْدِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا مِنْ جِنْسِ أَعْضَائِهِ، وَالْعَبْدُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْبَعِيرِ وَالْإِنْسَانِ فَتُجْبَرُ أَعْضَاؤُهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ نَظَرًا إلَى مَالِيَّتِهِ كَمَا تُجْبَرُ أَعْضَاءُ الْبَعِيرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّ نِسْبَةَ أُرُوشِ جِرَاحَةِ الْعَبْدِ إلَى قِيمَتِهِ كَنِسْبَةِ أُرُوشِ جِرَاحِ الْحُرِّ إلَى دِيَتِهِ.
وَأَمَّا الزَّوَاجِرُ فَنَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا مَا هُوَ زَاجِرٌ عَنْ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ حَاضِرٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ مُلَابِسَةٍ لَا إثْمَ عَلَى فَاعِلِهَا وَهُوَ مَا قَصَدَ بِهِ دَفْعَ الْمَفْسَدَةِ الْمَوْجُودَةِ وَيَسْقُطُ بِانْدِفَاعِهَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَقَعُ زَاجِرًا عَنْ مِثْلِ ذَنْبٍ مَاضٍ مُنْصَرِمٍ أَوْ عَنْ مِثْلِ مَفْسَدَةٍ مَاضِيَةٍ مُنْصَرِمَةٍ وَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا مَا يَجِبُ إعْلَامُ مُسْتَحِقِّهِ بِهِ لِيَبْرَأَ مِنْهُ أَوْ يَسْتَوْفِيَهُ وَذَلِكَ كَالْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَكَحَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مُسْتَحِقَّهُ لِيَسْتَوْفِيَهُ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا الْأَوْلَى بِالْمُتَسَبِّبِ إلَيْهِ سَتْرُهُ، كَحَدِّ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ. وَالْجَرَائِمُ الْمَزْجُورُ عَنْهَا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يَجِبُ زَجْرُهَا عَلَى مُرْتَكِبِهَا كَالْكَفَّارَاتِ الزَّاجِرَةِ عَنْ إفْسَادِ الصَّوْمِ وَإِفْسَادِ الْحَجِّ وَإِفْسَادِ الِاعْتِكَافِ وَالطَّهَارَةِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَتَخَيَّرُ فِيهِ مُسْتَوْفِيهِ بَيْنَ اسْتِيفَائِهِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ عَنْهُ وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ كَالْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ، وَكَحَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: التَّعْزِيرَاتُ الْمُفَوَّضَاتُ إلَى الْأَئِمَّةِ الْحُكَّامِ، فَإِنْ كَانَتْ لِلْجِنَايَاتِ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ لَمْ يَجُزْ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ وَإِسْقَاطُهَا إذَا طَلَبَهَا مُسْتَحِقُّهَا وَإِنْ كَانَتْ لِلَّهِ فَاسْتِيفَاؤُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلَحِ فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ اسْتِيفَاءَهَا وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ دَرْأَهَا وَجَبَ دَرْؤُهَا.
أَمَّا الزَّوَاجِرُ عَنْ الْإِضْرَارِ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ. أَحَدُهَا قَتْلُ تَارِكِ الصَّلَاةِ حَثًّا عَلَيْهَا فَإِنْ أَتَى بِهَا تَرَكْنَاهُ.
الْمِثَالُ الثَّانِي: الزَّجْرُ عَنْ مَفْسَدَةِ الْبُغَاةِ فَإِنْ رَجَعُوا إلَى الطَّاعَةِ كَفَفْنَا عَنْ قَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ وَهَذَا زَجْرٌ عَنْ مَفْسَدَةٍ لَا إثْمَ فِيهِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ فَإِنْ صَلَّوْا تَرَكْنَاهُمْ وَهُوَ أَيْضًا زَجْرٌ عَنْ مَفْسَدَةٍ لَا إثْمَ فِيهَا.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ: تَحْرِيمُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا عَلَى مَنْ طَلَّقَهَا زَجْرًا لَهُ عَنْ تَكْرِيرِ أَذِيَّتِهَا بِالطَّلَاقِ، وَهَذَا زَجْرٌ عَمَّا لَيْسَتْ مَفْسَدَتُهُ مُحَرَّمَةً.
الْمِثَالُ الْخَامِسُ: قِتَالُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ كَالْمُمْتَنِعِينَ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا بِالْحَرْبِ، فَإِنْ أَدَّوْا الْحُقُوقَ سَقَطَ قِتَالُهُمْ.
الْمِثَالُ السَّادِسُ: زَجْرُ النَّاظِرِ إلَى الْحُرُمِ فِي الدُّورِ بِرَمْيِ عَيْنِهِ، فَإِنْ انْكَفَّ سَقَطَ رَمْيُهَا.
الْمِثَالُ السَّابِعُ: قِتَالُ الصِّوَالِ مَا دَامُوا مُقْبِلِينَ عَلَى الصِّيَالِ، فَإِنْ انْكَفُّوا حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَقِتَالُهُمْ.
الْمِثَالُ الثَّامِنُ: قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا.
الْمِثَالُ التَّاسِعُ: قِتَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ.
الْمِثَالُ الْعَاشِرُ: ضَرْبُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ النَّاشِزَةَ إلَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْ النُّشُوزِ.
الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ: قِتَالُ الْفِئَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ عَصَبِيَّةً أَوْ عَلَى الدُّنْيَا إلَى أَنْ تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ.
الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ: قِتَالُ الدَّاخِلِ إلَى الدُّورِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُغِيثِ إلَى أَنْ يُوَلِّيَ خَارِجًا.
الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ: حَبْسُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ إلَى أَنْ يَبْذُلُوهَا.
الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ: قِتَالُ الْخَوَارِجِ إلَى أَنْ يَرْجِعُوا إلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الزَّوَاجِرُ عَمَّا تَصَرَّمَ مِنْ الْجَرَائِمِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ عُقُوبَتُهَا إلَّا بِاسْتِيفَائِهَا أَوْ بِعَفْوِ مُسْتَحِقِّهَا فَلَهُ أَمْثِلَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْذِفَ رَجُلًا مُحْصَنًا قَذْفًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إعْلَامُهُ لِيَسْتَوْفِيَهُ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحُكَّامِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إعْلَامُ مُسْتَحِقِّهِ بِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ. وَالْمُخْتَارُ إيجَابُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم حِرْصًا مِنْهُ عَلَى إقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ نُصْحًا لِلْمَقْذُوفَةِ حَتَّى إذَا كَانَتْ عَفِيفَةً تَخَيَّرَتْ بَيْنَ حَدِّ الْقَذْفِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ، وَإِنْ اعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا رَجَمَهَا.
الْمِثَالُ الثَّانِي: الْقِصَاصُ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ يَجِبُ عَلَى الْجَانِي إعْلَامُ
مُسْتَحِقِّهِ بِهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْإِعْلَامِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: إذَا سَرَقَ مَالَ إنْسَانٍ سَرِقَةً مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعْلَامُ بِالسَّرِقَةِ بَلْ يُخْبِرُ مَالِكَ السَّرِقَةِ بِأَنَّ لَهُ عَلَيْهِ مَالًا بِقَدْرِ الْمَسْرُوقِ إنْ كَانَ تَالِفًا لِيَسْتَوْفِيَهُ أَوْ يُبَرِّئَهُ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِذِكْرِ السَّرِقَةِ لِأَنَّ زَاجِرَهَا حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَالْأَوْلَى بِمُرْتَكِبِهَا أَنْ يَسْتُرَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ بَاقِيًا رَدَّهُ، أَوْ وَكَّلَ مَنْ يَرُدُّهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَافٍ بِسَرِقَةٍ، وَلَا يُوَكِّلُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّدِّ بِنَفْسِهِ، إذْ لَيْسَ لَهُ رَدُّ الْمَغْصُوبِ إلَى غَيْرِ مَالِكِهِ إلَّا إلَى الْحَاكِمِ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ انْتِزَاعُ الْمَغْصُوبِ مِنْ الْغَاصِبِ.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ: حَدُّ قَطْعِ الطَّرِيقِ إنْ مَحَّصْنَاهُ لِلَّهِ فَهُوَ كَحَدِّ السَّرِقَةِ يُجْبَرُ بِالْمَالِ لِمُسْتَحِقِّهِ وَلَا يَذْكُرُ سَبَبَهُ سَتْرًا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ جَعَلْنَا فِيهِ مَعَ تَحَتُّمِهِ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ وَجَبَ إعْلَامُهُ بِهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ فَيَسْتَوْفِيَهُ الْإِمَامُ.
وَأَمَّا مَا الْأَوْلَى بِالتَّسَبُّبِ إلَيْهِ سَتْرُ سَبَبِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْأَوْلَى بِفَاعِلِهَا سَتْرُهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَهَا لِلْأَئِمَّةِ لِيَسْتَوْفُوهَا جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُعْلِنًا بِكَبِيرَةٍ لِمَا يُبْتَنَى عَلَى إظْهَارِهَا مِنْ إقَامَةِ شِعَارِ الدِّينِ وَزَجْرِ الْمُفْسِدِينَ عَنْ الْفَسَادِ، وَيُكْرَهُ لِلْمُذْنِبِ الْمُجْرِمِ أَنْ يَكْشِفَ عُيُوبَهُ وَيَجْهَرَ بِذُنُوبِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«وَكُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرُ الَّذِي يَبِيتُ يَعْصِي رَبَّهُ ثُمَّ يُصْبِحُ يَقُولُ: فَعَلْت كَذَا كَذَا فَيَفْضَحُ نَفْسَهُ بَعْدَ أَنْ سَتَرَهُ رَبُّهُ» .
وَأَمَّا الشُّهُودُ عَلَى هَذِهِ الْجَرَائِمِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقٌ لِلْعِبَادِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِهَا وَأَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَرْبَابَهَا، وَإِنْ كَانَتْ زَوَاجِرُهَا حَقًّا مَحْضًا لِلَّهِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي إقَامَةِ الشَّهَادَةِ بِهَا فَيَشْهَدُوا بِهَا، مِثْلُ أَنْ يَطَّلِعُوا مِنْ إنْسَانٍ عَلَى تَكَرُّرِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى شُرْبِ الْخُمُورِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ، فَالْأَوْلَى أَنْ
يَشْهَدُوا عَلَيْهِ دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي السَّتْرِ عَلَيْهِ مِثْلٍ زَلَّة مِنْ هَذِهِ الزَّلَّاتِ تَقَعُ نُدْرَةً مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ ثُمَّ يُقْلِعُ عَنْهَا وَيَتُوبُ مِنْهَا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا، وَقَدْ «قَالَ صلى الله عليه وسلم: لِضِرَارٍ فِي حَقِّ مَاعِزٍ: هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِك يَا ضِرَارُ؟» وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» وَصَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . فَإِنْ قِيلَ: إذَا عَلِمَ الشُّهُودُ أَنَّ الزَّانِيَ قَدْ تَابَ مِنْ الزِّنَا فَصَلَحَتْ حَالُهُ بِحَيْثُ يَجُوزُ لَهُمْ تَزْكِيَتُهُ فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: إنْ أَسْقَطْنَا الْحَدَّ بِالتَّوْبَةِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ بَقِينَا الْحَدَّ مَعَ التَّوْبَةِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ، وَالْأَوْلَى كِتْمَانُهَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَالْحَدُّ وَالْقِصَاصُ؟ قُلْنَا: هُوَ مَجَازٌ عَنْ وُجُوبِ تَمْكِينِهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْعُقُوبَاتِ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْجَانِي أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَلَا عَلَى الْجَارِحِ أَنْ يَجْرَحَ نَفْسَهُ وَلَا عَلَى الزَّانِي أَنْ يَجْلِدَ نَفْسَهُ وَلَا أَنْ يَرْجُمَهَا، وَكَذَلِكَ الْمُعَزَّرُ، وَقَدْ صَرَّحَ الرَّبُّ بِإِيجَابِ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا، وَأَدَاؤُهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَمْكِينِ أَهْلِهَا مِنْ قَبْضِهَا وَأَخْذِهَا، فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى ذَوِي الْجَرَائِمِ.
وَالْحُقُوقُ فِي الشَّرْعِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يَجِبُ التَّمْكِينُ مِنْ قَبْضِهِ وَأَخْذِهِ كَأَمَانَاتِ الرَّبِّ وَأَمَانَاتِ عِبَادِهِ، فَأَمَّا أَمَانَاتُ الرَّبِّ فَكَاسْتِئْمَانِهِ الْآبَاءَ وَالْأَوْصِيَاءَ عَلَى الْيَتَامَى، وَكَاسْتِئْمَانِهِ مَنْ أَطَارَتْ إلَيْهِ الرِّيحُ ثَوْبًا لِغَيْرِهِ وَكَاسْتِئْمَانِهِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لِإِنْسَانٍ فَمَاتَ رَبُّهَا وَانْتَقَلَتْ إلَى وَرَثَتِهِ مَعَ بَقَائِهَا فِي يَدِ الْأَمِينِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ لِوَرَثَتِهِ فَيَجِبُ أَنْ يُعْلِمَ بِهَا أَرْبَابَهَا إنْ لَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا بِهَا، ثُمَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِهَا إلَّا التَّمْكِينُ مِنْ قَبْضِهَا.
وَأَمَّا أَمَانَاتُ النَّاسِ فَكَالْوَدَائِعِ وَلَا يَجِبُ فِيهَا إلَّا التَّمْكِينُ مِنْ قَبْضِهَا.