الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ الْحُقُوقِ: مَا تَكُونُ مُؤْنَةُ إقْبَاضِهِ عَلَى مُقْبِضِهِ كَالْأَثْمَانِ وَالْعَوَارِيّ وَالْغُصُوبِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْجُنَاةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ عَلَيْهِمْ التَّمْكِينُ كَمَا فِي الْأَمَانَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِقْبَاضُ وَالتَّسْلِيمُ كَمَا فِي الْعَوَارِيّ وَالْغُصُوبِ وَالدُّيُونِ وَالْأَثْمَانِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِي أُجْرَةِ الْجَلَّادِ وَالْمُسْتَوْفِي لِلْقِصَاصِ. فَإِنْ أَوْجَبْنَا التَّمْكِينَ لَمْ يَلْزَمْ الْجَانِي أُجْرَةُ الْمُسْتَوْفِي، وَإِنْ أَوْجَبْنَا التَّسَلُّمَ وَجَبَ أُجْرَةُ الْمُسْتَوْفِي عَلَى الْجَانِي كَمَا تَجِبُ أُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ.
[فَائِدَةٌ سَجْدَتَا السَّهْوِ جَبْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَزَجْرٌ لِلشَّيْطَانِ مِنْ وَجْهٍ]
(فَائِدَةٌ) سَجْدَتَا السَّهْوِ جَبْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَزَجْرٌ لِلشَّيْطَانٍ عَنْ الْوَسْوَاسِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِمَا فِي السَّجْدَتَيْنِ مِنْ تَرْغِيمِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا سَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي وَيَقُولُ يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْت بِالسُّجُودِ فَعَصَيْت فَلِي النَّارُ. فَإِنْ قِيلَ: مُحَرَّمَاتُ الْحَجِّ تِسْعٌ مَنْ تَعَمَّدَهَا زُجِرَ عَنْهَا بِالْكَفَّارَةِ إلَّا النِّكَاحُ وَالْإِنْكَاحُ فَإِنَّهُ يُزْجَرُ عَنْهُمَا بِالتَّعْزِيرِ دُونَ التَّكْفِيرِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاكِحَ وَالْمُنْكَحَ لَمْ يَحْصُلَا عَلَى غَرَضِهِمَا مِنْ الْمُحَرَّمِ الَّذِي ارْتَكَبَاهُ بِخِلَافِ مَنْ ارْتَكَبَ سَائِرَ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ عَلَى الْأَغْرَاضِ الَّتِي حُرِّمَتْ لِأَجْلِهَا، فَإِنَّ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ مِنْ الطِّيبِ وَالدُّهْنِ وَاللِّبَاسِ وَسَتْرِ الرَّأْسِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْجِمَاعِ وَبِمَا دُونَ الْجِمَاعِ، وَأَكْلِ الصَّيْدِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ حَاصِلٌ لِمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ، فَزُجِرَ بِالْكَفَّارَةِ فِطَامًا لَهُ عَنْ السَّعْيِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ، وَالنِّكَاحُ وَالْإِنْكَاحُ كَلَامٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
شَيْءٌ مِنْ الْأَغْرَاضِ وَلَا يَصِحَّ وَمَا جَازَتْ مُبَاشَرَتُهُ مِنْ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ لِعُذْرٍ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ جَبْرًا لَا زَجْرًا عِنْدَ مَنْ جَعَلَ الْكَفَّارَةَ زَوَاجِرَ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهَا زَوَاجِرَ جَعَلَهَا جَوَابِرَ لِمَا نَقَصَ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَمَهْمَا جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ وَجَبَ كَأَكْلِ الْمُحْرِمِ الْمُضْطَرِّ الصَّيْدَ فَلَيْسَتْ كَفَّارَةً زَاجِرَةً بَلْ هِيَ جَابِرَةٌ لَا غَيْرُ، إذْ لَا زَجْرَ عَمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ أَذِنَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الزَّجْرُ عَنْ الْمَفَاسِدِ الْمُحَقَّقَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ زُجِرَ الْحَنَفِيُّ بِالْحَدِّ عَنْ شُرْبِ النَّبِيذِ مَعَ إبَاحَتِهِ؟ قُلْنَا: لَيْسَ بِمُبَاحٍ وَإِنَّمَا يُخْطِئُ فِي شُرْبِهِ، وَقَدْ عَفَا الشَّرْعُ عَنْ الْمَفَاسِدِ الْوَاقِعَةِ مِنْ الْمُخْطِئِينَ الْجَاهِلِينَ دُونَ الْعَامِدِينَ الْعَارِفِينَ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا قُلْنَا بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فَهَلَّا كَانَ شُرْبُ الْحَنَفِيِّ مُبَاحًا؟ قُلْنَا: مَنْ صَوَّبَ الْمُجْتَهِدِينَ شَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ يَنْقُضُ الْحُكْمَ الْمُسْتَنِدَ بِهِ إلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَفَاسِدُ الْجَرَائِمِ الَّتِي شُرِعَتْ عَنْهَا الزَّوَاجِرُ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْقِصَاصُ فِي الْأَرْوَاحِ فَزَاجِرٌ عَنْ إزْهَاقِ النُّفُوسِ وَقَطْعِ الْحَيَاةِ وَهِيَ مِنْ أَعْلَى الْمَفَاسِدِ.
وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الْأَعْضَاءِ وَمَنَافِعِهَا فَزَاجِرٌ عَنْ تَفْوِيتِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَعْضَاءِ فِي الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْأَغْرَاضِ الَّتِي خُلِقَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ وَالْأَطْرَافُ لِأَجْلِهَا، وَالْقِصَاصُ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَقٍّ لِلَّهِ وَحَقٍّ لِلْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ، وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ عُضْوٌ خَسِيسٌ بِعُضْوٍ نَفِيسٍ، وَإِنْ أَذِنَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَغَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَسَقَطَ بِإِسْقَاطِهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَمِنْ وَرَثَتِهِ اسْتِيفَاؤُهُ فَلَا يُؤَدِّي تَفْوِيضُهُ إلَيْهِمْ إلَى تَحَقُّقِ الْمَفَاسِدِ لِأَنَّهَا تَنْدَفِعُ بِتَشَفِّيهِمْ فِي الْغَالِبِ.
وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَزَاجِرٌ عَنْ مَفَاسِدِ الزِّنَا وَعَنْ مَفَاسِدِ مَا فِيهِ، مِنْ مَفَاسِدِ
اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَاشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ وَإِرْغَامِ أَنْفِ الْعَصَبَاتِ وَالْأَقَارِبِ، وَلَمْ يُفَوِّضْهُ الشَّرْعُ إلَى مَنْ تَأَذَّى بِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَزْنِيِّ بِهَا، لِأَنَّهُ لَوْ فَوَّضَهُ إلَيْهِمْ لَمَا اسْتَوْفَوْهُ غَالِبًا خَوْفًا مِنْ الْعَارِ وَالِافْتِضَاحِ.
وَأَمَّا حَدُّ السَّرِقَةِ فَزَاجِرٌ عَنْ مَفْسَدَةِ تَفْوِيتِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَتَوَسَّلُ بِهَا إلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَيَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلَمْ يُفَوِّضْ الشَّرْعُ اسْتِيفَاءَهُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِغَلَبَةِ الرِّقَّةِ فِي مُعْظَمِ النَّاسِ عَلَى السَّارِقِينَ، فَلَوْ فُوِّضَ إلَيْهِمْ لَمَا اسْتَوْفَوْهُ رِقَّةً وَحُنُوًّا وَشَفَقَةً عَلَى السَّارِقِينَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تُقْطَعُ يَدٌ دِيَتُهَا خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِل أَوْ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ بِرُبُعِ دِينَارٍ أَوْ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله؟ قُلْنَا: لَيْسَ الزَّجْرُ عَمَّا أُخِذَ وَإِنَّمَا الزَّجْرُ عَنْ تَكْرِيرِ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ السَّرِقَةِ الْمُفَوِّتَةِ لِلْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا ضَابِطَ لَهَا وَلَوْ شَرَطَ الشَّرْعُ فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ مَالًا خَطِيرًا لَضَاعَتْ أَمْوَالُ الْفُقَرَاءِ النَّاقِصَةُ عَنْ نِصَابِ الْخَطِيرِ، وَفِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ عَامَّةٌ لِلْفُقَرَاءِ.
وَأَمَّا حَدُّ الْخَمْرِ فَزَاجِرٌ عَنْ شُرْبِ كَثِيرِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ فِي شَيْءٍ حَقِيرٍ، فَمَا الظَّنُّ بِإِفْسَادِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَخْطَرُ مِنْ كُلِّ خَطِيرٍ؟ وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الْحَدَّ فِي شُرْبِ الْيَسِيرِ مِنْهُ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا وَجَبَ الْحَدُّ فِي إزَالَةِ عَقْلِهِ بِغَيْرِ سُكْرٍ كَالْبَنْجِ وَغَيْرِهِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ إفْسَادَ الْعَقْلِ بِذَلِكَ فِي غَايَةِ النُّدُورِ إذْ لَيْسَ فِيهِ تَفْرِيحٌ
وَلَا إطْرَابٌ يَحُثَّانِ عَلَى تَعَاطِيهِ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ فَإِنَّ مَا فِيهِمَا مِنْ التَّفْرِيحِ وَالْإِطْرَابِ حَاثٌّ عَلَى شُرْبِهِمَا فَغَلَبَتْ لِذَلِكَ مَفْسَدَتُهُمَا فَوَجَبَ الْحَدُّ لِغَلَبَةِ الْمَفْسَدَةِ، وَلَمْ تَجِبْ فِي الْبَنْجِ وَنَحْوِهِ لِنُدْرَةِ الْإِفْسَادِ بِهِ.
وَأَمَّا حَدُّ قَطْعِ الطَّرِيقِ فَزَاجِرٌ عَنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ بِالْقَطْعِ وَعَنْ الْجِنَايَةِ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ بِالْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا تَحَتَّمَ كَمَا تَحَتَّمَ حَدُّ الزِّنَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ ضَمُّوا إلَى جِنَايَاتِهِمْ إخَافَةَ السَّبِيلِ فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَازٍ بِهَا، بِخِلَافِ مَنْ قَتَلَ إنْسَانًا أَوْ سَرَقَ مَالَهُ فِي خُفْيَةٍ.
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَزَاجِرٌ عَنْ هَتْكِ الْأَعْرَاضِ بِالتَّعْبِيرِ بِالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ عز وجل إذْ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ، وَعَلَى حَقِّ الْآدَمِيِّ لِلْآدَمِيِّ لِدَرْءِ تَغَيُّرِهِ بِالْقَذْفِ، وَقَدْ غَلَّبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ عز وجل فَلَمْ يُسْقِطْهُ بِإِسْقَاطِ الْمَقْذُوفِ، وَغَلَّبَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِيهِ حَقَّ الْآدَمِيِّ فَأَسْقَطَهُ بِإِسْقَاطِهِ كَالْقِصَاصِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِرَجْمِ الثَّيِّبِ الزَّانِي وَقَدْ قِيلَ فِيهَا مَا لَا أَرْتَضِيهِ.
وَكَذَلِكَ الْمَفْسَدَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِجَعْلِ الرِّبَا مِنْ الْكَبَائِرِ لَمْ أَقِفْ فِيهَا عَلَى مَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مَطْعُومًا أَوْ قِيمَةً لِلْأَشْيَاءِ أَوْ مُقَدَّرًا لَا يَقْتَضِي مَفْسَدَةً عَظِيمَةً تَكُونُ مِنْ الْكَبَائِرِ لِأَجْلِهَا، وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ لِشَرَفِهِ حَرُمَ فِيهِ رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسَاءِ، فَإِنَّ مَنْ بَاعَ أَلْفَ دِينَارٍ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ صَحَّ بَيْعُهُ، وَمَنْ بَاعَ كُرَّ شَعِيرٍ بِأَلْفِ كُرِّ حِنْطَةٍ، أَوْ بَاعَ مَدَّ شَعِيرٍ بِأَلْفِ مَدٍّ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ بَاعَ مَدًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِمِثْلِهِ، أَوْ دِينَارًا بِمِثْلِهِ، أَوْ دِرْهَمًا بِمِثْلِهِ وَأَجَّلَ ذَلِكَ لَحْظَةً فَإِنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلُوحُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّوَرِ مَعْنًى يُصَارُ إلَيْهِ وَلَا يُعْتَمَدُ.
وَأَمَّا التَّعْزِيرَاتُ فَزَوَاجِرُ عَنْ ذُنُوبٍ لَمْ تُشْرَعْ فِيهَا حُدُودٌ وَلَا كَفَّارَاتٌ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ بِتَفَاوُتِ الذُّنُوبِ فِي الْقُبْحِ وَالْإِيذَاءِ، وَقَدْ قَدَّرَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِعَشَرَةِ سِيَاطٍ لِقَوْلِهِ عليه السلام: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
أَنْ يَجْلِدَ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» ، وَقَدَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِمَا نَقَصَ عَنْ أَدْنَى الْحُدُودِ، وَقَدَّرَهَا آخَرُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: يُعَزَّرُ فِي الْيَمِينِ الْغُمُوسِ مَعَ إيجَادِ الْكَفَّارَةِ أَمْ لَا؟ قُلْنَا يُعَزَّرُ لِجُرْأَتِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَالْكَفَّارَةُ مَا وَجَبَتْ لِكَوْنِ الْحَالِفِ مُجْتَرِئًا وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ مُوجِبِ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ حَيْثُ لَا عِصْيَانَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَزْدَجِرُ الْجَلْدُ الْقَوِيُّ الَّذِي عَمَّ فَسَادُهُ وَعَظُمَ عِنَادُهُ بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ؟ قُلْنَا: يَضُمُّ إلَيْهِ الْحَبْسَ الطَّوِيلَ الَّذِي يُرْجَى الِازْدِجَارَ بِمِثْلِهِ وَلِلْإِمَامِ صَلْبُهُ مُبَالَغَةً فِي زَجْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ مَنْ آذَى مُسْلِمًا بِشَيْءٍ مِنْ ضُرُوبِ الْأَذَى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ بِمُخَالَفَتِهِ وَآذَى الْمُسْلِمَ بِانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ، فَإِذَا عَفَا الْمُسْتَحِقُّ عَنْ عُقُوبَةِ ذَلِكَ الْأَذَى أَوْ عَنْ حَدِّهِ فَهَلْ تَسْقُطُ عُقُوبَةُ اللَّهِ فِي مُخَالَفَتِهِ؟ قُلْنَا هَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْقَطَ عُقُوبَتَهُ تَبَعًا لِسُقُوطِ حَقِّ الْآدَمِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا زَجْرًا عَنْ الْجُرْأَةِ عَلَى انْتِهَاكِ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا كَفَّارَةُ قَتْلِ الْخَطَأِ فَوَجَبَتْ جَبْرًا لِمَا فَوَّتَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ جَبْرًا لِمَا فَاتَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ زَجْرًا عَنْ تَفْوِيتِ حَقِّ الْعَبْدِ وَتَحْصِيلًا لِاسْتِمْرَارِ الْحَيَاةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، وَالتَّقْدِيرُ وَلَكُمْ فِي خَوْفِ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، فَإِنَّ الْجَانِيَ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ يُقْتَلُ إذَا جَنَى خَافَ الْقِصَاصَ فَكَفَّ عَنْ الْقَتْلِ فَاسْتَمَرَّتْ حَيَاتُهُ وَحَيَاةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ زَجْرًا عَنْ تَفْوِيتِ حَقِّ الرَّبِّ.