الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي تَسَاوِي الْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةِ مَعَ تَفَاوُتِ الْمَفَاسِدِ]
فِي تَسَاوِي الْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةِ مَعَ تَفَاوُتِ الْمَفَاسِدِ
قَدْ تَتَسَاوَى الْعُقُوبَاتُ الْعَاجِلَةُ مَعَ تَفَاوُتِ الزَّلَّاتِ مَعَ أَنَّ الْأَغْلَبَ تَفَاوُتُ الْعُقُوبَاتِ بِتَفَاوُتِ الْمُخَالَفَاتِ، فَإِنَّ مَنْ شَرِبَ قَطْرَةً مِنْ الْخَمْرِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا يُحَدُّ كَمَا يُحَدُّ مَنْ شَرِبَ مَا أَسْكَرَهُ وَخَبَلَ عَقْلَهُ مَعَ تَفَاوُتِ الْمَفْسَدَتَيْنِ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْوَسَائِلَ إلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ، مِثْلَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ شُرْبِ الْقَطْرَةِ مِنْ الْخَمْرِ خِفَّةُ حَدِّ السُّكْرِ وَثِقَلُ مَا عَدَاهُ مِنْ الْحُدُودِ، مَعَ أَنَّ التَّوَسُّلَ إلَى السَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ لَا يُحَرِّكُ الدَّاعِيَةَ إلَيْهِمَا، وَلَا يَحُثُّ عَلَيْهِمَا، بِخِلَافِ وَسَائِلِ الزِّنَا مِنْ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهَا تُؤَكِّدُ الْحَثَّ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاةَ إلَيْهِ، وَالْقَتْلَ فِي الزَّوَاجِرِ. فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَكُونُ وِزْرُ مَنْ سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ كَوِزْرِ مَنْ سَرَقَ أَلْفَ دِينَارٍ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقَطْعِ؟ قُلْنَا: لَا، بَلْ يَتَفَاوَتُ وِزْرُهُمَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِتَفَاوُتِ مَفْسَدَةِ سَرِقَتَيْهِمَا. قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]، {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] .
وَالْقَطْعُ الْوَاجِبُ فِي الْأَلْفِ مُتَعَلِّقٌ بِرُبْعِ دِينَارٍ مِنْ الْأَلْفِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الِاسْتِوَاءِ فِي الْعُقُوبَةِ الْعَاجِلَةِ الِاسْتِوَاءُ فِي الْعُقُوبَةِ الْآجِلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجَابَ بِمِثْلِ هَذَا فِي حَدَّيْ الْقَطْرَةِ وَالسَّكْرَةِ. لَكِنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا، فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي الْحَدَّيْنِ وَتَكْفِيرِ الذَّنْبَيْنِ.
وَفِي السَّرِقَتَيْنِ. اسْتَوَيَا فِي الْمَفْسَدَتَيْنِ، وَهُمَا أَخْذُ رُبْعِ دِينَارٍ، فَيُكَفِّرُ الْحَدَّانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِرُبْعِ الدِّينَارِ مِنْ السَّرِقَتَيْنِ، وَيَبْقَى الزَّائِدُ إلَى تَمَامِ الْأَلْفِ لَا مُقَابِلَ لَهُ
وَلَا تَكْفِيرَ.
وَأَمَّا تَفَاوُتُ حَدَّيْ زِنَا الْبِكْرِ وَالْمُحْصَنِ، فَفِيهِ إشْكَالٌ يَسَّرَ اللَّهُ حَلَّهُ.
فَإِنْ قِيلَ لِمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي الْحُدُودِ مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي الْجَرَائِمِ وَتَحْقِيقِ الْمَفَاسِدِ؟ قُلْنَا: تَعْذِيبُ الْأَمَاثِلِ عَلَى الْإِسَاءَةِ أَشَدُّ مِنْ تَعْذِيبِ الْأَرَاذِلِ؛ لِأَنَّ صُدُورَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ مَعَ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ أَقْبَحُ مِنْ صُدُورِهَا مِنْ الْأَرَاذِلِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ، {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] ، وَإِلَى قَوْلِهِ:{لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا} [الإسراء: 74]{إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 75]، وَإِلَى قَوْلِهِ:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة: 44]{لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45]{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ الْمُفَضَّلِ مِنْ شُكْرِ إحْسَانِ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ، فَإِذَا قَابَلَ إحْسَانَهُ بِعِصْيَانِهِ، كَانَ ذَلِكَ أَقْبَحَ مِنْ عِصْيَانِ غَيْرِهِ. وَلِذَلِكَ قَبُحَتْ مَعْصِيَةُ الْوَالِدَيْنِ وَعُقُوقُهُمَا لِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِ إنْعَامِهِمَا بِتَرْبِيَتِهِمَا، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] وَلَوْ سَبَّ الْوَزِيرُ الْمِلْكَ بِمِسَبَّةٍ سَبَّهُ بِهَا السَّائِسُ لَاسْتَحَقَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَلَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّائِسِ لِأَجْلِ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ سَوَّيْتُمْ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ وَقَتْلِ الْمُحَارِبَةِ؟ قُلْنَا: سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا لِتَعَذُّرِ تَبْعِيضِ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ.
فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَسْتَوِي إثْمُ الذَّابِحِ، وَإِثْمُ مَنْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ إنْسَانٍ فَسَرَتْ إلَى نَفْسِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ، وَيَتَفَاوَتَانِ فِي الْعُقُوبَةِ الْآجِلَةِ؛ لِأَنَّ جُرْأَةَ الذَّابِحِ عَلَى انْتِهَاكِ الْحُرْمَةِ فِي الذَّبْحِ أَشَدُّ مِنْ جُرْأَةِ الْقَاطِعِ عَلَى انْتِهَاكِ الْحُرْمَةِ فِي الْقَطْعِ.
وَكَذَلِكَ