الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِيمَا يَفُوتُ مِنْ الْمَصَالِحِ أَوْ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَعَ النِّسْيَانِ]
بسم الله الرحمن الرحيم
فَصْلٌ فِيمَا يَفُوتُ مِنْ الْمَصَالِحِ أَوْ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَعَ النِّسْيَانِ النِّسْيَانُ غَالِبٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَلَا إثْمَ عَلَى النِّسْيَانِ، فَمَنْ نَسِيَ مَأْمُورًا بِهِ لَمْ يَسْقُطْ بِنِسْيَانِهِ مَعَ إمْكَانِ التَّدَارُكِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الشَّرْعِ تَحْصِيلُ مَصْلَحَتِهِ، فَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً أَوْ قِصَاصًا أَوْ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ حُقُوقِ عِبَادِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّدَارُكَ كَالْجِهَادِ وَالْجُمُعَاتِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالرَّوَاتِبِ - عَلَى قَوْلٍ - وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي بَعْضٍ، وَإِسْكَانِ مَنْ يَجِبُ إسْكَانُهُ مِنْ الزَّوْجَاتِ وَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالرَّقِيقِ؛ سَقَطَ وُجُوبُهُ بِفَوَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْبَلُ التَّدَارُكَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ حُقُوقِ عِبَادِهِ، كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالنُّذُورِ وَالدُّيُونِ وَالْكَفَّارَاتِ وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ، وَجَبَ تَدَارُكُهُ عَلَى الْفَوْرِ إنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي فَهُوَ بَاقٍ عَلَى تَرَاخِيهِ، وَالْأَوْلَى تَعْجِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسَارَعَةٌ فِي الْخَيْرَاتِ.
وَلِمَنْ نَسِيَ التَّحْرِيمَ حَالَانِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْعِبَادَةِ كَالْكَلَامِ، وَالْفِعْلِ الْكَثِيرِ فِي الصَّلَاةِ، وَارْتِكَابِ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ، وَمَنْهِيَّاتِ الصِّيَامِ، وَالِاعْتِكَافِ مَعَ نِسْيَانِ الْعِبَادَةِ الَّتِي هُوَ مُلَابِسُهَا، فَإِنْ كَانَ مَنْهِيُّ الْعِبَادَةِ مِنْ قَبِيلِ الْإِتْلَافِ كَقَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، وَحَلْقِ
الشَّعْرِ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ، لَمْ تَسْقُطْ كَفَّارَتُهُ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ جَابِرَةً، وَالْجَوَابِرُ لَا تَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْهِيُّ الْعِبَادَةِ إتْلَافًا سَقَطَ إثْمُهُ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.
وَلَوْ صَلَّى نَاسِيًا لِطَهَارَةِ الْحَدَثِ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ نَسِيَ مَأْمُورًا بِهِ، وَلَوْ صَلَّى نَاسِيًا لِنَجَاسَةٍ لَا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهَا فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ فَفِي عُذْرِهِ قَوْلَانِ مَأْخَذُهُمَا أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنْ النَّجَسِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْمُورَاتِ كَالطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ، وَأَنَّ اسْتِصْحَابَ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ تَدَارُكُ الْمَأْمُورَاتِ إذَا ذُكِرَتْ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ تَحْصِيلُ مَصْلَحَتِهَا وَهِيَ مُمْكِنَةُ التَّدَارُكِ بَعْدَ الذِّكْرِ، وَالْغَرَضُ مِنْ الْمَنْهِيِّ دَفْعُ الْمَفَاسِدِ، فَإِذَا وَقَعَ الْمَنْهِيُّ وَتَحَقَّقَتْ مَفْسَدَتُهُ لَمْ يُمْكِنْ رَفْعًا بَعْدَ وُقُوعِهَا.
الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَخْتَصَّ تَحْرِيمُهَا بِالْعِبَادَةِ فَيَسْقُطُ إثْمُهُ وَيَجِبُ الضَّمَانُ، كَمَنْ بَاعَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ نَسِيَ بَيْعَهَا فَوَطِئَهَا، أَوْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ نَسِيَ إبَانَتَهَا فَوَطِئَهَا، أَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ ثُمَّ نَسِيَ عِتْقَهَا فَوَطِئَهَا، أَوْ بَاعَهَا، أَوْ بَاعَ طَعَامًا ثُمَّ نَسِيَ بَيْعَهُ فَأَكَلَهُ، فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ، وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مِنْ الْجَوَابِرِ، وَالْجَوَابِرُ لَا تَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ.
وَلَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ عَلَى شَيْءٍ أَوْ بِطَلَاقٍ أَوْ إعْتَاقٍ ثُمَّ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا لِحَلِفِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُخْتَارُ حِنْثُهُ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَغْلِبْ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى حَالِ الذِّكْرِ فَيَتَقَيَّدُ بِهَا.
(فَائِدَةٌ) : الْغَالِبُ مِنْ النِّسْيَانِ مَا يَقْصُرُ أَمَدُهُ وَلَا يَسْتَمِرُّ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ إلَّا مَا نَدَرَ مِنْهُ، فَمَنْ أَتَى بِمَحْظُورِ الصَّلَاةِ مَعَ النِّسْيَانِ فَإِنْ قَصُرَ زَمَانُهُ عُفِيَ عَنْهُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ طَالَ زَمَانُهُ فَفِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَهِكُ الْحُرْمَةَ بِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ فَرَّقَ فِي الْأَعْذَارِ بَيْنَ غَالِبِهَا وَنَادِرِهَا،