الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى الظُّنُونِ]
ِ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ صِدْقَ الظُّنُونِ بُنِيَتْ عَلَيْهَا مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ كَذِبَهَا نَادِرٌ وَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ مَصَالِحَ صِدْقُهَا الْغَالِبُ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَفَاسِدَ كَذِبُهَا النَّادِرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظُّنُونِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِكُلِّ ظَنٍّ، وَالظُّنُونُ الْمُعْتَبَرَةُ أَقْسَامٌ.
أَحَدُهَا: ظَنٌّ فِي أَدْنَى الرُّتَبِ.
وَالثَّانِي: ظَنٌّ فِي أَعْلَاهَا، وَالثَّالِثُ ظُنُونٌ مُتَوَسِّطَاتٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ثَبُتَتْ أَحْكَامُ الشَّرْعِ بِالظُّنُونِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَمْ ثَبُتَتْ الْحُقُوقُ عِنْدَ الْحُكَّامِ بِمِثْلِ ذَلِكَ؟ بَلْ شُرِطَ فِي أَكْثَرِهَا الْعَدَدُ وَالذُّكُورَةُ وَجُعِلَتْ فِي رُتَبٍ مُتَفَاوِتَةٍ فَأَعْلَاهَا مَا شُرِطَ فِيهِ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ وَأَدْنَاهَا مَا شُرِطَ فِيهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ كَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ وَفَوْقَهُ؟ وَمَنْ ادَّعَى بِحَدِّ الْقَذْفِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ النُّكُولُ كَيْ لَا يَكُونَ عَوْنًا عَلَى جَلْدِهِ، وَإِسْقَاطِ عَدَالَتِهِ، وَالْعَزْلِ عَنْ وِلَايَتِهِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهَا.
وَمَنْ ادَّعَى عَلَى الْوَلِيِّ الْمُجْبَرِ أَنَّهُ زَوَّجَ ابْنَتَهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ النُّكُولُ كَيْ لَا يَكُونَ عَوْنًا عَلَى تَسْلِيمِ ابْنَتِهِ إلَى مَنْ يَزْنِي بِهَا، وَكَذَلِكَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ حَيْثُ تُشْرَعُ الْيَمِينُ فِي حَقِّهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ لَا يَجُوزُ لَهُ النُّكُولُ كَيْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ عَوْنًا عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ظُلْمًا، وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ إذَا لَاعَنَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ كَاذِبًا وَلَا يَحِلُّ لَهَا النُّكُولُ عَنْ اللِّعَانِ، كَيْ لَا يَكُونَ عَوْنًا عَلَى جَلْدِهَا
أَوْ رَجْمِهَا وَفَضِيحَةِ أَهْلِهَا، وَأَمَّا يَمِينُ الْمُدَّعِي فَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً لَمْ تَحِلَّ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَجِبَ، وَإِنْ كَانَتْ صَادِقَةً فَلِلْحَقِّ الْمُدَّعِي حَالَانِ.
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ، فَالْأَوْلَى بِالْمُدَّعِي إذَا نَكَلَ أَنْ يُبِيحَ الْحَقَّ أَوْ يَبْرَأَ مِنْهُ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ إضْرَارِ خَصْمِهِ عَلَى الْبَاطِلِ.
الْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مِمَّا لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ، وَيَعْلَمُ الْمُدَّعِي أَنَّ الْحَقَّ يُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ حِفْظًا لِمَا يَحْرُمُ بَذْلُهُ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ الْبَيْنُونَةَ فَتُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَى الزَّوْجِ فَيُنْكِرُ وَيَنْكُلُ، فَيَلْزَمُهَا الْحَلِفُ حِفْظًا لِبُضْعِهَا مِنْ الزِّنَا وَتَوَابِعِهِ مِنْ الْخَلْوَةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ نَكَلَتْ عَنْ الْيَمِينِ فَسُلِّمَتْ إلَيْهِ فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا لَزِمَهَا مَنْعُهُ بِالتَّدَرُّجِ إنْ قَدَرَتْ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَيْهِ وَقَدَرَتْ عَلَى قَتْلِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لَزِمَهَا ذَلِكَ.
الْمِثَالُ الثَّانِي: أَنْ تَدَّعِيَ الْأَمَةُ أَنَّ سَيِّدَهَا أَعْتَقَهَا فَيُنْكِرُ وَيَنْكُلُ فَيَلْزَمُهَا الْحَلِفُ حِفْظًا لِبُضْعِهَا، وَلِمَا يَتَعَلَّقُ بِحُرِّيَّتِهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدَّعِيَ الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ فَيُنْكِرُ وَيَنْكُلُ فَيَلْزَمُ الْعَبْدَ الْحَلِفُ حِفْظًا لِحُرِّيَّتِهِ؛ وَلِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَحُقُوقِ عِبَادِهِ كَالْجُمُعَةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَدَّعِيَ الْجَانِي عَفْوَ الْوَلِيِّ فَيُنْكِرُ وَيَنْكُلُ فَيَلْزَمُ الْجَانِيَ الْحَلِفُ حِفْظًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَطْرَافِهِ.
الْمِثَالُ الْخَامِسُ: أَنْ يَدَّعِيَ الْقَاذِفُ عَفْوَ الْمَقْذُوفِ فَيُنْكِرُ وَيَنْكُلُ فَيَلْزَمُ
الْمَقْذُوفَ الْحَلِفُ حِفْظًا لِجَسَدِهِ مِنْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلَوْ نَكَلَ الْوَلِيُّ عَنْ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ فَإِنْ أَوْجَبْنَا بِهَا الْقِصَاصَ وَجَبَ الْيَمِينُ بِهَا وَإِلَّا فَلَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَأْمُرُ الْحَاكِمُ مَنْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِالْحَلِفِ، أَمْ يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ؟ قُلْنَا: بَلْ يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ، وَلَوْ أَمَرَهُ وَقَالَ لَهُ احْلِفْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدِي بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَا يَعْرِضُ الْيَمِينَ إلَّا عَلَى مَنْ ظَهَرَ صِدْقُهُ وَتَرَجَّحَ جَانِبُهُ.
وَقَدْ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لِمَنْ بَاعَ عَبْدًا كَانَ مِلْكَهُ إذَا خَاصَمَهُ الْمُشْتَرِي فِي قِدَمِ عَيْبٍ يُمْكِنُ حُدُوثُهُ، أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ بَاعَهُ وَمَا بِهِ عَيْبٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ حُدُوثِ الْعَيْبِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي.
فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُدَّعِي مُطَالَبَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِهِ فِيهَا وَفُجُورِهِ؟ وَالْقَاعِدَةُ تَحْرِيمُ طَلَبِ مَا لَا يَحِلُّ، وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ الْيَمِينُ الْمُوجِبَةُ لِغَضَبِ اللَّهِ، إذْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ حَلَفَ يَمِينًا كَاذِبًا يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» .
قُلْنَا: يَجُوزُ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَاعِدَةِ تَحْرِيمِ طَلَبِ مَا لَا يَحِلُّ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَوْ لَمْ نُجَوِّزْ ذَلِكَ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْأَيْمَانِ وَضَاعَتْ بِذَلِكَ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لَوْ حُرِّمَ لَجَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي تَحْلِيفِ خَصْمِهِ؛ لِأَنَّهُ مُصَادِقٌ أَنَّ خَصْمَهُ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ وَيَمِينِهِ جَمِيعًا، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْذَنَ؛ لِأَحَدٍ فِي طَلَبِ مَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَيَكُونُ هَذَا مُسْتَثْنًى،