الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْعُلَمَاءِ رَدَّ شَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تُكَذِّبُهُمَا، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ إذَا رَأَوْا الْهِلَالَ شَهَرُوهُ وَتَفَوَّهُوا بِرُؤْيَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَفَوَّهْ بِرُؤْيَتِهِ إلَّا الشَّاهِدَانِ دَلَّ الظَّاهِرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْعَادَةِ عَلَى كَذِبِهِمَا أَوْ عَلَى ضَعْفِ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِمَا، فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ وَلَا يُكَذَّبُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ إلَّا نَادِرًا، فَلِذَلِكَ اعْتَمَدَ الشَّرْعُ عَلَيْهَا
كَيْ لَا تَفُوتَ
مَصَالِحُ كَثِيرَةٌ غَالِبَةٌ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَفَاسِدَ قَلِيلَةٍ نَادِرَةٍ.
[فَائِدَةٌ يُحْكَمُ بِمُجَرَّدِ الظُّهُورِ أَوْ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ]
(فَائِدَةٌ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِمُجَرَّدِ الظُّهُورِ أَوْ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ، وَلَا نَجْتَزِي فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِمُجَرَّدِ الظُّهُورِ وَلَا بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ حَتَّى نَضُمَّ إلَيْهِمَا ظَنًّا مُسْتَفَادًا مِنْ سَبَبٍ آخَرَ.
وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ: أَحَدُهَا لَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ ظَنَّيْنِ مُسْتَفَادَيْنِ ظَاهِرَيْنِ كَتَحْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ فِي يَدِهِ، فَإِنَّ يَدَهُ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِهِ، وَكَذَلِكَ يَمِينُهُ ظَاهِرَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِ، إذْ الْغَالِبُ مِمَّنْ يَعْرِفُ الرَّبَّ سبحانه وتعالى أَنَّهُ لَا يَتَجَرَّأُ عَلَى الْحَلِفِ بِهِ كَاذِبًا.
الْمِثَالُ الثَّانِي: تَحْلِيفُ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ خَصْمِهِ حَتَّى نَضُمَّ إلَيْهِ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ يَمِينِهِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: لَا نَجْتَزِي بِالظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ اسْتِصْحَابِ الْأَصْلِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ ظَنٌّ مُسْتَفَادٌ مِنْ ظَاهِرٍ كَتَحْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ مِنْهُمَا، وَلَا نَكْتَفِي بِالظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ حَتَّى نَضُمَّ إلَيْهِ الْمُسْتَفَادَ مِنْ يَمِينِهِ.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ: مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إنَاءٌ طَاهِرٌ بِإِنَاءٍ نَجِسٍ، أَوْ ثَوْبٌ طَاهِرٌ بِثَوْبٍ نَجِسٍ فَأَرَادَ اسْتِعْمَالَ أَحَدِهِمَا بِنَاءً عَلَى الِاسْتِصْحَابِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنَّا
لَا نَحْكُمُ بِالظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الِاسْتِصْحَابِ حَتَّى نَضُمَّ إلَيْهِ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَنَكْتَفِيَ فِي الْقِبْلَةِ بِالظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الِاجْتِهَادِ؛ لِتَعَذُّرِ ضَمِّ الِاسْتِصْحَابِ إلَيْهِ، إذْ لَيْسَ فِي الْجِهَاتِ جِهَةٌ يُقَالُ: الْأَصْلُ وُجُوبُ الْقِبْلَةِ فِيهَا.
وَكَذَلِكَ الِاجْتِهَادُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ نَكْتَفِي فِيهِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الِاجْتِهَادِ؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِصْحَابِ.
وَلَوْ أَثْبَتَهُ مَاءٌ وَبَوْلٌ فَلَا اجْتِهَادَ إذْ لَا نَقْنَعُ فِي هَذَا الْبَابِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَفِيهِ وَجْهٌ، وَالْفَارِقُ تَعَذُّرُ ذَلِكَ فِي الْقِبْلَةِ وَالْأَحْكَامِ، وَتَيَسُّرُهُ فِي الِاجْتِهَادِ بَيْنَ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَالنَّجَسِ.
وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي دُخُولِ رَمَضَانَ وَدُخُولِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ مُجَرَّدِ الظَّاهِرِ دُونَ أَصْلٍ يُسْتَصْحَبُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يُبْنَى إنْكَارُ الْمُنْكِرِ عَلَى الظُّنُونِ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ الْإِنْكَارُ مَبْنِيٌّ عَلَى الظُّنُونِ كَغَيْرِهِ، فَإِنَّا لَوْ رَأَيْنَا إنْسَانًا يَسْلُبُ ثِيَابَ إنْسَانٍ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ ظَاهِرِ يَدِ الْمَسْلُوبِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَيْنَاهُ يَجُرُّ امْرَأَةً إلَى مَنْزِلِهِ يَزْعُمُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا ادَّعَاهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَيْنَاهُ يَقْتُلُ إنْسَانًا يَزْعُمُ أَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ دَخَلَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَهُوَ يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الْإِنْكَارُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ عِبَادَهُ حُنَفَاءَ، وَالدَّارُ دَالَّةٌ عَلَى إسْلَامِ أَهْلِهَا لِغَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا، فَإِذَا أَصَابَتْ ظُنُونُنَا فِي ذَلِكَ فَقَدْ قُمْنَا بِالْمَصَالِحِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْقِيَامَ بِهَا وَأُجِرْنَا عَلَيْهَا إذَا قَصَدْنَا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
وَإِنْ اخْتَلَفَتْ ظُنُونُنَا أُثِبْنَا عَلَى قُصُودِنَا وَكُنَّا مَعْذُورِينَ فِي ذَلِكَ كَمَا عُذِرَ مُوسَى عليه السلام فِي إنْكَارِهِ عَلَى الْخَضِرِ خَرْقَ السَّفِينَةِ وَقَتْلَ الْغُلَامِ وَبَالَغَ فِي إنْكَارِهِ بِقَسَمِهِ بِاَللَّهِ فِي قَوْلَيْهِ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]، {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74] .
وَلَوْ اطَّلَعَ مُوسَى عَلَى مَا فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى مَا فِي
قَتْلِ الْغُلَامِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى مَا فِي تَرْكِ السَّفِينَةِ مِنْ مَفْسَدَةِ غَصْبِهَا، وَعَلَى مَا فِي إبْقَاءِ الْغُلَامِ مِنْ كُفْرِ أَبَوَيْهِ وَطُغْيَانِهِمَا لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَلَسَاعَدَهُ فِي ذَلِكَ وَصَوَّبَ رَأْيَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ عز وجل، وَلَوْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا هَذَا لَكَانَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ.
وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا: أَنْ تَكُونَ السَّفِينَةُ لِيَتِيمٍ يَخَافُ عَلَيْهَا الْوَصِيُّ أَنْ تُغْصَبَ وَعَلِمَ الْوَصِيُّ أَنَّهُ لَوْ خَرَقَهَا لَزَهِدَ الْغَاصِبُ عَنْ غَصْبِهَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ خَرْقُهَا حِفْظًا لِلْأَكْثَرِ بِتَفْوِيتِ الْأَقَلِّ، فَإِنَّ حِفْظَ الْكَثِيرِ الْخَطِيرِ بِتَفْوِيتِ الْقَلِيلِ الْحَقِيرِ مِنْ أَحْسَنِ التَّصَرُّفَاتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] .
وَمِنْهَا: لَوْ هَرَبَ مِنْ الْإِمَامِ مَنْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ فَأَمَرَ الْإِمَامُ مَنْ يَلْحَقُهُ لِيَقْتُلَهُ فَاسْتَغَاثَ بِنَا لِنَمْنَعَهُ مِنْ قَتْلِهِ فَإِغَاثَتُهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا إذَا لَمْ نَعْلَمْ بِالْوَاقِعَةِ، بَلْ لَوْ لَمْ يَنْدَفِعْ الْهَامُّ بِقَتْلِهِ إلَّا بِالْقَتْلِ لَقَتَلْنَاهُ.
وَلَوْ اطَّلَعْنَا عَلَى الْبَاطِنِ لَسَاعَدَنَا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ الْأَجْرُ فِي مُسَاعَدَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَوَّزَ الشَّرْعُ اللِّعَانَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ فِي أَيْمَانِهِ وَلِعَانِهِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا جَوَّزَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرًا يَقْتَضِي تَصْدِيقَهُ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الزَّوْجِ الصِّدْقُ فِي قَذْفِهَا إذْ الْغَالِبُ أَنَّ الْأَزْوَاجَ لَا يَقْذِفُونَ أَزْوَاجَهُمْ، وَالظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمَرْأَةِ الصِّدْقُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ زِنَاهَا.
وَمِثْلُ ذَلِكَ: مَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ إنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَزَوْجَتِي طَالِقٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ أَوْ أَمَتِي حُرَّةٌ؛ وَقَالَ آخَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَزَوْجَتِي طَالِقٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ أَوْ أَمَتِي حُرَّةٌ، وَلَمْ نَعْلَمْ حَالَ الطَّائِرِ فَإِنَّا نُقِرُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكُهُ الْبُضْعَ وَرَقَبَةَ الرَّقِيقِ فَأَشْبَهَ اللِّعَانَ، وَلَوْ انْتَقَلَ رَقِيقُ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ
لَقَطَعْنَا بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ فِيهِمَا؛ لِتَحَقُّقِ الْمَفْسَدَةِ فِي حَقِّهِ،
وَإِنَّمَا عُمِلَ بِالظُّنُونِ فِي مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ
؛ لِأَنَّ كَذِبَ الظُّنُونِ نَادِرٌ وَصِدْقَهَا غَالِبٌ؛ فَلَوْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهَا خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ نَادِرِ كَذِبِهَا لَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ كَثِيرَةٌ غَالِبَةٌ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَفَاسِدَ قَلِيلَةٍ نَادِرَةٍ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ حِكْمَةِ الْإِلَهِ الَّذِي شَرَّعَ الشَّرَائِعَ لِأَجْلِهَا.
وَلَقَدْ هَدَى اللَّهُ أُولِي الْأَلْبَابِ إلَى مِثْلِ هَذَا قَبْلَ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ تَصَرُّفِهِمْ فِي مَتَاجِرِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ، وَإِقَامَتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ وَسَائِرِ تَقَلُّبَاتِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَغْلَبِ الْمَصَالِحِ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْدَرِ الْمَفَاسِدِ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ مَعَ تَجْوِيزِهِ لِتَلَفِهِ وَتَلَفِ مَالِهِ فِي السَّفَرِ يَبْتَنِي سَفَرُهُ عَلَى السَّلَامَةِ الْغَالِبَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَطْبُ نَفْسِهِ وَمَالِهِ نَادِرًا لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ عَلَيْهِ وَنُدْرَةِ الْهَلَاكِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَلَوْ قَعَدَ الْمَرْءُ فِي بَيْتِهِ مُهْمِلًا لِمَصَالِحِ دِينِهِ وَدِينَاهُ خَوْفًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَكَدَمَهُ بَعِيرٌ أَوْ رَفَسَهُ بَغْلٌ أَوْ نَدَسَهُ حِمَارٌ أَوْ قَتَلَهُ جَبَّارٌ مَعَ نُدْرَةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَأَلْحَقَهُ الْعُقَلَاءُ بِالْحَمْقَى وَالنَّوْكَى وَالْمَجَانِينِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جَبَّارٌ يَطْلُبُهُ أَوْ عَدُوٌّ يُرْهِبُهُ أَوْ كَلْبٌ عَقُورٌ يَقْصِدُهُ لِيَعَضَّهُ فَخَرَجَ عَلَى هَؤُلَاءِ مُغَرِّرًا بِنَفْسِهِ لَعَدَّهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ الْحَمْقَى وَالنَّوْكَى وَلَلَامَتْهُ الشَّرَائِعُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَعَدَ عَنْ الْقِتَالِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَحَرِيمِهِ وَأَطْفَالِهِ، وَإِحْرَازِ دِينِهِ لَعُدَّ جُبْنُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ لِمَا فَوَّتَ بِهِ مِنْ عَظِيمِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ التَّغْرِيرُ بِالنُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ قَبِيحًا مِنْ غَيْرِ مَصَالِحَ يَحُوزُهَا وَمَفَاسِدَ يُجَوِّزُهَا، لَعَدَّ الْعُقَلَاءُ ذَلِكَ قَبِيحًا مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مُعْظَمِ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِيُحَصِّلُوهَا، وَعَلَى مَعْرِفَةِ مُعْظَمِ الْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِيَتْرُكُوهَا، وَلَوْ اسْتَقْرَى ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ عَمَّا رَكَّزَهُ اللَّهُ فِي الطِّبَاعِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْيَسِيرُ الْقَلِيلُ، فَمُعْظَمُ مَا تَحُثُّ عَلَيْهِ الطَّبَائِعُ قَدْ حَثَّتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ وَمَا اتَّفَقَ عَلَى الصَّوَابِ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَقُولُوا مَا وَجَبَ بِيَقِينٍ فَلَا يُبْرَأُ مِنْهُ
إلَّا بِيَقِينٍ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَقِينَ مُسْتَعَارٌ لِلظَّنِّ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: نَقُولُ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَوْجَبَ عَلَيْنَا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَا نَظُنُّ أَنَّهُ الْوَاجِبُ فَإِذَا كَانَ الْمُتَيَقَّنُ هُوَ الْمَظْنُونَ فَالْمُكَلَّفُ يَتَيَقَّنُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ مَظْنُونٌ لَهُ وَأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يُكَلِّفْهُ إلَّا مَا يَظُنُّهُ، وَإِنَّ قَطْعَهُ بِالْحُكْمِ عِنْدَ ظَنِّهِ لَيْسَ قَطْعُهُ بِمُتَعَلَّقِ ظَنِّهِ بَلْ هُوَ قَطْعٌ بِوُجُودِ ظَنِّهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الظَّنِّ وَبَيْنَ الْقَطْعِ بِوُجُودِ الْمَظْنُونِ.
فَعَلَى هَذَا مَنْ ظَنَّ الْكَعْبَةِ فِي جِهَةٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ بِوُجُوبِ اسْتِقْبَالِ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَا يَقْطَعُ بِكَوْنِ الْكَعْبَةِ فِيهَا، وَالْوَرَعُ تَرْكُ مَا يَرِيبُ الْمُكَلَّفُ إلَى مَا لَا يَرِيبُهُ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاحْتِيَاطِ
فَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إنَاءٌ طَاهِرٌ بِإِنَاءٍ نَجِسٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِوَاهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، فَإِذَا أَدَّاهُ الِاجْتِهَادُ إلَى طَهَارَةِ أَحَدِهِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إنَاءٍ طَاهِرٍ بِيَقِينٍ، كَمَنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ مَعَهُ إنَاءٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ بَيْنَ الْإِنَاءَيْنِ، فَإِنْ أَدَّاهُ الِاجْتِهَادُ إلَى الْيَقِينِ تَخَيَّرَ فِي التَّطَهُّرِ بِأَيِّ الْمَاءَيْنِ شَاءَ، وَإِنْ أَدَّاهُ الِاجْتِهَادُ إلَى الظَّنِّ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الطَّاهِرَ بِالظَّنِّ كَالطَّاهِرِ بِالْيَقِينِ.
وَكَمَا لَوْ لَبِسَ ثَوْبًا طَاهِرًا بِالظَّنِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ثَوْبٍ طَاهِرٍ بِيَقِينٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ وُجُودِ مَاءٍ طَاهِرٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عليه السلام:«دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَفِي الْعَمَلِ بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّك إذَا حَمَلْتَهُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ فَخَرَجَتْ مِنْهُ الْمَنْدُوبَاتُ.
وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ كَانَ تَحَكُّمًا، وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَيْهِمَا جَمَعَتْ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ أَوْ بَيْنَ الْمُشْتَرَكَاتِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ الْإِيجَابُ، وَالْغَالِبَ عَلَى الْعُمُومِ التَّخْصِيصُ، وَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنْ صِيغَةِ الْإِيجَابِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْعُمُومِ مَعَ غَلَبَةِ تَخْصِيصِهِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] ، وَإِنَّمَا ذَمَّ اللَّهُ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ أَوْ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ كَمَعْرِفَةِ الْإِلَهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُعْظَمَ مَصَالِحِ الذُّنُوبِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُبَاحِ مَبْنِيٌّ عَلَى الظُّنُونِ الْمَضْبُوطَةِ بِالضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَلَوْ شَكَّ الْمُصَلِّي فِي فَرَائِضِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا وَجَبَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ هَهُنَا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِالْيَقِينِ إلَّا الِاعْتِقَادُ دُونَ الْعِلْمِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ» مُعْتَقِدًا أَنَّهُ كَمَّلَ الصَّلَاةَ، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ شَرْطًا لَمَا سَلَّمَ مَعَ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ، وَلَوْ شَكَّ الْإِمَامُ فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فَسَبَّحَ لَهُ الْجَمَاعَةُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَكْمَلَ الصَّلَاةَ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا تُحِيلُ الْعَادَةُ وُقُوعَ النِّسْيَانِ مِنْ جَمِيعِهِمْ بَنَى الْإِمَامُ عَلَى قَوْلِهِمْ لِعِلْمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] وَفِي قَوْلِهِ عليه السلام: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذِبُ الْحَدِيثِ» ؟ .
قُلْنَا: أَمَّا الْآيَةُ فَلَمْ يَنْهَ فِيهَا عَنْ كُلِّ ظَنٍّ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ بَعْضِهِ وَهُوَ أَنْ نَبْنِيَ عَلَى الظَّنِّ مَا لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَظُنَّ بِإِنْسَانٍ أَنَّهُ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا أَوْ أَخَذَ مَالًا أَوْ ثَلَبَ عِرْضًا فَأَرَادَ أَنْ يُؤَاخِذَهُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ يَسْتَنِدُ إلَيْهَا ظَنُّهُ.
وَأَرَادَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ الْمَذْكُورِ فَهَذَا هُوَ الْإِثْمُ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ، وَيَجِبُ تَقْدِيرُ هَذَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الظَّنِّ مَعَ قِيَامِ أَسْبَابِهِ الْمُثِيرَةِ لَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ لِاجْتِنَابِ مَا لَا يُطَاقُ اجْتِنَابُهُ، إذْ لَا يُمْكِنُ الظَّانُّ دَفْعَهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ قِيَامِ أَسْبَابِهِ، وَلَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ: إيَّاكُمْ وَاتِّبَاعَ بَعْضِ الظَّنِّ، وَإِنَّمَا قَدَّرَ ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ فِيمَا