الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حادي عشر: الكشف الصوفي
الغيب في المعتقد الصوفي:
يقول تبارك وتعالى: {الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة:1 - 3) فقد جعل الله صفة الإيمان بالغيب أول صفة للمتقين المهتدين بالقرآن والسنة، وذلك حتى يوحد المؤمنون طريق التلقي فلا يتلقون غيبًا إلا من الله ومن أقامه للأخبار بالغيب عنه وهم رسله، وأنبياؤه فقط.
جاء المتصوفة فكان أول هدم لهم في الإسلام أن يهدموا هذا الأصل فأقاموا شيئًا سموه (الكشف الصوفي) وهو يعني عندهم رفع الحجب أمام قلب الصوفي وبصره ليعلم ما في السماوات جميعًا، وما في الأرض جميعًا، فلا تسقط ورقة إلا بنظره ولا تقع قطرة ماء من السماء إلا بعلمه ولا يولد مولود، أو يعقد معقود، أو يتحرك ساكن أو يسكن متحرك إلا بعلم الصوفي. لا يقف أمامه حجاب، ولا يوصد أمامه باب، ولا يعجزه علم شيء في الأرض ولا في السماء. فهو يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة بساعة، بل هو يعلم بأي لغة وأي قلم كتب اللوح المحفوظ، وماذا في أم الكتاب، وماذا كان منذ الأزل وماذا سيكون إلى الأبد.
لقد ترقى المتصوفة في مسألة الكشف عندهم فزعموا أولًا أن الصوفي يكشف له معان في القرآن والحديث لا يعلمها علماء الشريعة الذين سموهم بعلماء الظاهر والقراطيس والآثار التي ينقلونها عن الموتى، وأما هم فيلتقون بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقظة أحيانًا، ومنامًا أحيانًا ويسألونه ويستفيدون منه هذه العلوم.
ثم ترقوا فقالوا: إن لنا علومًا ليست في الكتاب والسنة نأخذها عن الخضر الذي هو على شريعة الباطن، وهو الذي يمد الأولياء بهذه الشريعة، فموسى ومحمد والأنبياء على شريعة ظاهرة، وأما الخضر فهو على شريعة باطنة يجوز فيها ما لا يجوز في الظاهر، فقد قتل الغلام بغير ذنب، وكسر السفينة لمن حملهم بغير نوال، وبنى الجدار إحسانًا منه لمن
أساء إليهم. ومثل هذا ينكره أهل الظاهر كما أنكره موسى، ونحن في الباطن على شريعة الخضر وهو يلتقي بنا ونتعلم منه علومًا خاصة ينكرها أهل الظاهر لجهلهم.
والعجيب أنه كان من هذا الدين الباطن الذي زعموا أخْذَه عن الخضر إتيان (الحمارة) والزنا، وشرب الخمر واللواط، والتعري، والصراخ في الطرقات، وسب المؤذنين للصلاة، وسب الأنبياء، والادعاء بأن كل مخلوق هو الله، وإلقاء السلام على الكلاب والخنازير، والترحم على إبليس ومحاولة الوصول إلى مقامه، وجعْل فرعون أعلم من موسى بالله، وتبرئة قوم نوح من الشرك، وجعل الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الله المستوي على العرش. هذه الأشياء قليلة جدًا من هذا الدين الباطني الذي زعم المتصوفة أنهم نالوه عن طريق الكشف الصوفي، وهو رفع الحجب عن القلوب والأبصار لرؤية الحق على ما هو عليه، وأن الخضر عليه السلام هو مبلغ كل هذا لهم.
وتارة يترقون في هذا الكذب، أو بالأحرى يهوون إلى أسفل سافلين في دعاوي الكذب هذه، فيزعمون أنهم تلقوا هذه العلوم من ملك الإلهام كما تلقى محمد صلى الله عليه وآله وسلم علومه من ملك الوحي، وأخرى يزعمون أنهم تلقوا علومهم هذه التي أشرنا إلى بعضها آنفًا من الله رأسًا وبلا وساطة، وأنها انطبعت في نفوسهم من الله رأسًا وأنهم مطالعون الأمر في الأزل بأرواحهم، والأمر في الأبد يرونه كما يكون عليه الحال يرونه كذلك بأرواحهم بغير وساطة وأن همتهم تصل السماوات وما فوقها والأرض وما تحتها.
ولقد وسع المتصوفة دائرة كشفهم هذه فزعموا أنهم يعلمون أسرار الحروف المقطعة من القرآن بطريق الكشف، وقصص الأنبياء يروونها على حقيقتها ويجتمعون بالأنبياء ويسألونهم عن تفاصيل قصصهم وما كان منهم. فيفيدون فوائد كثيرة دونها كثيرًا ما هو موجود فعلًا في القرآن، وأما الجنة والنار، فهم وإياها دائمًا رأي العين، بل هي ساقطة أصلًا من عيونهم؛ لأن النار لو بصق أحدهم عليها لأطفأها. وأما الجنة فالنظر إليها شرك وكفر لأنهم ينظرون إلى الله فقط.
باختصار لقد اكتشف المتصوفة ـ بزعمهم ـ للقرآن معاني غير التي يعرفها أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلماء الأمة على مر العصور. لقد اكتشفوا هم عن طريق كشفهم الشيطاني
أن للقرآن معاني أخرى وأن فيه علومًا كثيرة جدًا لا يعلمها غيرهم. وما هذه العلوم. إنها كل الفلسفات القديمة، والخزعبلات والخرافات التي عند فلاسفة الإغريق، وكهنة الهنادك والهندوس، وشياطين المجوس وإباحية المانوية والمزدكية، وخرافات القصاص من كل لون وجنس، كل هذا وهذا جعله المتصوفة كشفًا وحقيقة صوفية ومعاني للقرآن الكريم والحديث النبي الشريف.
ومن أراد منهم أن لا ينسب هذه الخرافات والخزعبلات إلى القرآن والحديث، ورأى أنه تحقق بعلوم أكثر بكثيرمما فيهما قال:«خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله» . فجعل نفسه أعظم معرفة وتحقيقًا مما لدى الأنبياء. وذلك لما رأى أنه قد جمع من الخرافات والخزعبلات والأساطير شيئًا نهى الرسل الصادقون عن افترائه وتناقله وتداوله.
هذه هي حقيقة الكشف الصوفي الذي زعم أصحابه أنه ثمرة العبادة والتقوى والاتصال بالله والملائكة والأنبياء والخضر، وأنه نتيجة حتمية لسباحة أرواحهم في الأزل والأبد، والسماوات السبع وما فوقها والأراضين السبع وما تحتها.
لقد أتونا بعد هذه السياحة الشيطانية بعشرات المجلدات والخرافات والخزعبلات بعد أن لبسوها وخلطوها ببعض العلم الذي جاء به الرسل فخلطوا الأمر على عامة المسلمين، وأضلوا من لا علم لهم بالكتاب والسنة، وظنوا فعلًا أن هؤلاء الناس صالحون وأن علومهم هذه قد أتوا بها فعلًا من الغيب، وخاصة أنهم رأوهم أحيانًا تجري على أيديهم بعض الحيل الشيطانية، وبعض الكرامات الإبليسية من خرق العادات أو الإخبار ببعض المغيبات مما هو عند الهندوس والمجوس والدجال وابن صياد أمثاله وأكثر منه مئات المرات.
لقد أوهم العامة ما جرى على يد هؤلاء من هذه الكرامات الإبليسية التي هي حقًا أمثال شيطانية من ما يجري للكفار والمنافقين والدجالين، فظنوا أن هؤلاء من أهل الله حقًا، وأن الحجب ترتفع عنهم صدقًا وأن علومهم هذه آتية من الغيب يقينًا وبذلك راجت يومًا بضاعة هؤلاء الزنادقة وصرفوا المسلمين عن دينهم الحق وعقيدتهم المستقيمة.
الإيمان بالغيب في الكتاب والسنة:
من أصول الدين وقواعد الإيمان أن تعتقد أن الغيب علمه لله تعالى وحده سبحانه وتعالى وأنه سبحانه وتعالى يُطْلِع ـ على ما شاء من الغيب ـ مَنْ شاء من أنبيائه ورسله فقط، وأن الأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله إياه، كما قال سبحانه وتعالى لرسوله:{قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَاّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:188).
وأمر رسوله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبر الناس أنه ليس ملكًا ولا يملك خزائن الله ولا يعلم الغيب قال تعالى: {قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام: 50)
وهذا الذي قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو ما قاله نوح قبل ذلك. قال تعالى على لسان نوح: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} (هود:31).
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» . وهذا الحديث يقرر قوله تعالى: «إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34).
وفي صحيح البخاري أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثك أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه فقد كذب وهو يقول: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (الأنعام: 103) ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب وهو يقول: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل: 65)
فهذه الآيات والأحاديث ومثلها كثير جدًا قاطع بأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا الله لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وأنه لا يعلم أحد من هؤلاء الغيب إلا ما أطلعه الله سبحانه عليه، فهاهم الملائكة يخلق الله آدم ولا يعلمون الحكمة من خلقه، ويعرض الله عليهم مسميات معينة ويقول لهم {أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:31)، فيقولون:{قَالُواْ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة:32)، ويعلم الله آدم النبي الأسماء فيعلمها لهم، وآدم نبي مكلَّم كما جاء في الحديث الشريف.
وهؤلاء الأنبياء لا يعلمون الغيب بنص القرآن وبمئات بل بآلاف الوقائع، فإبراهيم عليه السلام لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة، ولقد جاءته الملائكة في صورة بشر فذبح لهم عجلًا وقرّبه إليهم وهو لا يعلم حقيقتهم حتى أعلموه، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أعلموه أنهم ذاهبون لتدمير قرى لوط.
وأما لوط فإن الملائكة قد أتوا لإنجائه وإنجاء أهله، ولم يعلم حقيقة أمرهم إلا بعد أن علموه ولم يكن له كشف خاص، ولا علم خاص يستطيع أن يعرف مَن القوم.
وأما محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد حدث له مئات الوقائع التي تدل يقينًا أنه لم يكن يعلم في الغيب إلا ما أعلمه الله إياه. فقد ظن أن جبريل الذي أتاه في الغار شيطان وقال لخديجة: «لقد خِفْتُ على نفسي» ، ولم يعرف أنه الملك حتى أتى ورقة بن نوفل فأخبره أن الكلام الذي جاء به يشبه الكلام الذي نزل على الأنبياء من قبله. ولم يدر بخَلَد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيؤذَى ويخرج من مكة أبدًا علمًا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد مكث يتعبد في غار حراء سنوات طويلة،