المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثالث‌ ‌ محنته ووفاته محنته: ولا شك أن عالمًا بهذه المثابة من - التسعينية - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد

- ‌الباب الأول المؤلف حياته وعصره

- ‌الفصل الأول حياته

- ‌اسمه ومولده:

- ‌نشأته وذكر بعض صفاته:

- ‌الفصل الثَّاني عصره

- ‌الناحية السياسية

- ‌الناحية الاجتماعية:

- ‌الناحية العلمية:

- ‌الفصل الثالث‌‌ محنته

- ‌ محنته

- ‌وفاته:

- ‌الباب الثاني كتابه التسعينية ودراسة بعض مسائله

- ‌الفصل الأول التعريف بالكتاب

- ‌سبب تأليفه:

- ‌تسميته:

- ‌سبب التسمية:

- ‌نسبته إلى المؤلف:

- ‌تاريخ تأليفه:

- ‌منهج المؤلف في الكتاب:

- ‌نسخ الكتاب:

- ‌النسخة الأولى:

- ‌النسخة الثانية:

- ‌النسخة الثالثة:

- ‌عملي في الكتاب، وبيان المنهج الذي سلكته في تحقيقه:

- ‌الفصل الثاني دراسة بعض مسائله

- ‌فتنة القول بخلق القرآن:

- ‌مسألة كلام الله تعالى:

- ‌الأصل الذي تفرع منه نزاع الناس في مسألة الكلام

- ‌نماذج مصورة من النسخ المخطوطة

- ‌ خطبة الحاجة

- ‌الوجه الثامن:إن هذا خلاف إجماع سلف الأمة وأئمتها

- ‌الوجه الخامس عشر:إن القول الذي قالوه إن لم يكن حقًّا يجب اعتقاده لم يجز الإلزام به

- ‌الوجه الثاني:أن الله نزه نفسه في كتابه عن النقائص، تارة بنفيها، وتارة بإثبات أضدادها

- ‌الوجه السادس:أنه لو فرض جواز التقليد أو وجوبه في مثل هذا، لكان لمن يسوغ تقليده في الدين كالأئمة المشهورين

- ‌الوجه السابع:أن هذا القول لو فرض أنه حق معلوم بالعقل لم يجب اعتقاده بمجرد ذلك

- ‌القول باجتهاد الرأي، وإن اعتقد صاحبه أنه عقلي، مقطوع به لا يحتمل النقيض، فإنه قد يكون غير مقطوع به

- ‌الوجه الثاني عشر:أن لفظ الجهة عند من قاله، إما أن يكون معناه وجوديًّا أو عدميًّا

- ‌ التحيز الذي يعنيه المتكلمون

- ‌ قول القائل: إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة، وقوله: إنه معنى قائم به بدعة

- ‌ مسألة القرآن وقع فيها بين السلف والخلف من الاضطراب والنزاع ما لم يقع نظيره في مسألة العلو والارتفاع

- ‌من أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية وغيرهم، قصورهم في مناظرة الكفار والمشركين

- ‌ الأصل الذي ضل به جهم وشيعته

- ‌ النزاع في مسألة الحرف والصوت

- ‌ قول عبد الله بن كلاب

الفصل: ‌ ‌الفصل الثالث‌ ‌ محنته ووفاته محنته: ولا شك أن عالمًا بهذه المثابة من

‌الفصل الثالث‌

‌ محنته

ووفاته

محنته:

ولا شك أن عالمًا بهذه المثابة من العلم وغزارته، ومن الفكر واستقلاله، وما نتج عن ذلك من المؤلفات الكثيرة التي اعترف العلماء المعاصرون له بالعجز عن حصرها، ومن الشجاعة ما جعلته يقف في وجه التتار -كما تقدم- إضافة إلى محاربته أهل الأهواء والبدع في عصره فكان له موقف مع الشيعة الباطنية ممن مالأ التتار والنصارى (1) -كما نصب نفسه لكشف أستار أهل التصوف، الذين اتخذوا الشعوذة سبيلًا للتأثير على العامة، إضافة إلى ممالأتهم للتتار، كما كانت له رحمه الله مواقف مع الفقهاء في عصره ممن جرفهم تيار التعصب المذهبي، والجمود الفكري إلى تقليد من سبقهم، فكان كل رأي فقهي أو عقدي له أتباع يتبعونه، ويرون أنَّه الصواب، وما سواه الخطأ، حتَّى ولو ظهر لهم أن الصواب خلافه.

إن عالمًا بهذه الخصال التي يفتقدها معاصروه لا بد وأن يكون له حساد يتربصون به الدوائر، ويحاولون الخلاص منه، فلم تفتر جهودهم ولم تلن عزائمهم في سبيل تحقيق هذه الغاية.

فأول محنة وقعت للشيخ -كما نقلها الثقات- سنة 698 هـ، عندما أرسل إليه أهل حماة يسألونه عن الصفات التي وصف الله بها نفسه في القرآن

(1) وقد كتب رحمه الله رسالة إلى السلطان الناصر يحذره منهم، ويبين له حقيقة أمرهم وأحوالهم.

وقد أوردها ابن عبد الهادي في "العقود الدرية" ص: 182 فما بعدها.

ص: 43

الكريم، فألف الحموية (1) جوابًا لسؤالهم ورجح مذهب السلف على مذهب المتكلمين وشنع عليهم، فجرى له بسبب تأليفها أمور ومحن.

يقول ابن كثير رحمه الله: ". . . قام عليه جماعة من الفقهاء، وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي جلال الدين الحنفي، فنودي في البلد في العقيدة التي كان قد مسألة عنها أهل حماة، المسماة بـ "الحموية" فانتصر له الأمير سيف الدين جاغان، وأرسل يطلب الذين قاموا عنده فاختفى كثير منهم، وضرب جماعة ممن نادى على العقيدة، فسكت الباقون، فلما كان يوم الجمعة عمل الشَّيخ تقي الدين الميعاد بالجامع على عادته، وفسر في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (2)، ثم اجتمع بالقاضي إمام الدين يوم السبت، واجتمع عنده جماعة من الفضلاء، وبحثوا في الحموية وناقشوه في أماكن فيها، فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير، ثم ذهب الشَّيخ تقي الدين، وقد تمهدت الأمور، وسكنت الأحوال، وكان إمام الدين معتقده حسنًا، ومقصده صالحًا"(3).

وبعد هذه الحادثة بسبع سنين (4) -أي في سنة 705 هـ - تحرك المناوئون والخصوم للشيخ، فجاء الأمر من مصر بأن يسأل عن معتقده، فجمع له القضاة، والعلماء بمجلس نائب دمشق الأفرم.

(1) يقول مرعي الحنبلي في "الكواكب الدرية" ص: 112:

"ألفها الشَّيخ رحمه الله وعمره دون الأربعين سنة ثم انفتح له -بعد ذلك- من الرد على الفلاسفة والجهمية وسائر أهل الأهواء والبدع ما لا يوصف، ولا يعبر عنه، وجرى له من المناظرات العجيبة، والمباحثات الدقيقة -مع أقرانه وغيرهم- في سائر العلوم ما تضيق عنه العبارة، ولا يعرف أنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه".

(2)

سورة القلم. الآية 4.

(3)

البداية والنهاية 14/ 4، 5.

وانظر: العقود الدرية -لابن عبد الهادي- ص: 195.

والكواكب الدرية -للإمام مرعي الحنبلي- ص: 102.

(4)

لعل الحروب التي اجتاحت البلاد الشامية من قبل التتار في هذه الفترة شغلت الخصوم عن نفث السموم، وإشعال الفتن ضد الشَّيخ رحمه الله.

ص: 44

فقال: "أنا كنت قد سئلت عن معتقد أهل السنة، فأجبت عنه في جزء من سنين"(1). وطلبه من داره، فأحضر وقرأه.

فنازعوه في موضعين، أو ثلاثة منه، وطال المجلس، فقاموا، واجتمعوا مرتين -أيضًا- لتتمة الجزء، وحاققوه (2).

ثم رفع الاتفاق على أن هذا معتقد سلفي جيد، وبعضهم قال ذلك كرهًا، وكان المصريون (3) قد سعوا في أمر الشَّيخ، وملؤوا ركن الدين الجاشنكيز (4) -الذي تسلطن بمصر- فطلب إلى مصر على البريد.

وفي ثاني يوم من دخوله اجتمع القضاة والفقهاء بقلعة مصر، وانتصب له خصمًا شمس الدين بن عدلان، وادعى عليه عند ابن مخلوف القاضي المالكي أنَّه يقول: إن الله تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه تعالى على العرش بذاته، وأن الله يشار إليه بالإشارة الحسية (5).

وقال: أطلب عقوبته على ذلك.

فقال القاضي: ما تقول يا فقيه؟

فحمد الله وأثنى عليه.

فقيل له: أسرع، ما أحضرناك لتخطب.

فقال: أومنع الثّناء على الله؟

فقال القاضي: أجب، فقد حمدت الله.

(1) يشير رحمه الله إلى العقيدة الواسطية التي ألفها قبل سبع سنين من هذه الحادثة وقبل مجيء التتار إلى الشام.

(2)

انظر ما حصل للشيخ في هذه الاجتماعات في:

العقود الدرية -لابن عبد الهادي- ص: 206 - 248.

والبداية والنهاية -لابن كثير- 14/ 32، 33.

(3)

كالشيخ نصر المنبجي، والقاضي ابن مخلوف، وغيرهما.

(4)

حيث أوهمه نصر المنبجي أن ابن تيمية سوف يخرجهم من الملك، ويقيم غيرهم، وأنه مبتدع.

انظر: الكواكب الدرية -للإمام مرعي الحنبلي- ص: 128.

(5)

هذه المسائل هي التي دفعت الشَّيخ رحمه الله إلى تفصيل القول فيها في كتابه "التسعينية".

ص: 45

فقال: ومن الحاكم فيّ؟

قيل له: القاضي المالكي.

قال: كيف يحكم فيّ وهو خصمي؟ وغضب غضبًا شديدًا، وانزعج.

فأقيم مرسّمًا عليه، وحبس في برج أيامًا.

ثم نقل منه ليلة عيد الفطر إلى السجن المعروف بـ "الجب" بقلعة الجبل، هو وأخواه شرف الدين عبد الله، وزين الدين عبد الرحمن (1).

وبعد أكثر من سنة (2)، أحضر نائب السلطنة سيف الدين سلار القضاة الثلاثة: الشَّافعي، والمالكي، والحنفي، ومن الفقهاء الباجي، والجزري، والنمراوي، وتكلم في إخراج الشَّيخ من الحبس.

فاتفقوا على أن يشترط عليه أمور، ويلزم بالرجوع عن بعض العقيدة فأرسلوا إليه من يحضره ليتكلموا معه في ذلك، فلم يجب إلى الحضور، وتكرر الرسول إليه في ذلك مرارًا، وصمم على عدم الحضور (3)، فطال عليهم المجلس، وانصرفوا عن غير شيء.

وفي شهر ذي الحجة (4) من هذه السنة طلب أخوا الشَّيخ: شرف الدين، وزين الدين، من الحبس إلى مجلس نائب السلطان سلار، وحضر ابن مخلوف المالكي، وطال بينهم كلام كثير، فظهر شرف الدين بالحجة على ابن مخلوف بالنقل والدليل والمعرفة، وخطّأه في مواضع ادعى فيها دعاوى باطلة، وكان الكلام في مسألة العرش، ومسألة الكلام، ومسألة النزول.

وفي ثاني يوم (5) أحضر الشَّيخ شرف الدين وحده إلى مجلس نائب

(1) انظر: العقود الدرية -لابن عبد الهادي- ص: 196، 197 (بتصرف).

(2)

في ليلة عيد الفطر من سنة ست وسبعمائة من الهجرة.

(3)

لعل امتناع الشَّيخ رحمه الله عن الحضور وتصميمه على ذلك، أنَّه رأى أنهم ليسوا طلاب حجة وبحث عن الحقيقة، وإنَّما يريدون أن يفرضوا عليه رأيهم من غير مناقشة ويلزموه باعتناق عقيدتهم المخالفة للمنهج الحق.

(4)

يوم الخميس السابع والعشرين منه.

(5)

يوم الجمعة الثامن والعشرين.

ص: 46

السلطان، وحضر ابن عدلان، وتكلم معه الشَّيخ شرف الدين، وناظره وبحث معه، وظهر عليه (1).

وفي شهر صفر (2) من سنة سبع وسبعمائة، اجتمع القاضي بدر الدين بن جماعة بالشَّيخ تقي الدين في دار الأوحدي بالقلعة بكرة الجمعة، وتفرقا قبل الصَّلاة، وطال بينهما الكلام.

وفي شهر ربيع الأول (3) من هذه السنة دخل الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى -ملك العرب- إلى مصر، وحضر بنفسه إلى الجب، فأخرج الشَّيخ تقي الدين -بعد أن استأذن في ذلك- إلى دار نائب السلطنة بالقلعة، وحضر بعض الفقهاء، وحصل بينهم بحث كبير، وفرقت بينهم صلاة الجمعة.

ثم اجتمعوا إلى المغرب، ولم ينفصل الأمر (4).

ثم اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان، وحضر جماعة من الفقهاء ولم يحضر القضاة، وطلبوا، فاعتذر بعضهم بالمرض، وبعضهم بغيره (5)، وانفصل المجلس على خير، وبات الشَّيخ عند نائب السلطنة.

وكتب رحمه الله بكرة الإثنين كتابًا إلى دمشق يتضمن خروجه، وإقامته بدار شقير بالقاهرة، وأن نائب السلطان طلب تأخره عن الأمير مهنا أيامًا ليرى النَّاس فضله، ويحصل لهم الاجتماع به.

وكانت مدة إقامته رحمه الله بالسجن ثمانية عشر شهرًا (6).

بقي الشَّيخ نحو ستة أشهر أو تزيد يدعو النَّاس ويرشدهم، وانتفع به

(1) انظر: البداية والنهاية -لابن كثير- 14/ 26، 27.

والكواكب الدرية -لمرعي الحنبلي- ص: 129 - 131.

(2)

يوم الجمعة رابع عشر منه.

(3)

يوم الجمعة الثالث والعشرين منه.

(4)

انظر: العقود الدرية -لابن عبد الهادي- ص: 252، 253.

(5)

وذلك كما يقول ابن كثير: "لمعرفتهم بما ابن تيمية منطوي عليه من العلوم والأدلة وأن أحدًا من الحاضرين لا يطيقه".

(6)

انظر: البداية والنهاية لابن كثير- 14/ 39.

والكواكب الدرية -لمرعي الحنبلي- ص: 131.

ص: 47

خلق كثير، إلى أن تكلم في الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، وهم: ابن عربي، وابن سبعين، والقونوي، وغيرهم (1)، فتحزب عليه الصوفية، وذهبوا إلى القلعة في جموع كثيرة يشكون ابن تيمية للسلطان، وادعوا أنَّه يسب مشايخهم، ويضع من قدرهم عند النَّاس.

فأمر السلطان أن يعقد له مجلس بدار العدل.

وفي يوم الثلاثاء العاشر من شهر شوال سنة سبع وسبعمائة، عقد له المجلس، فأظهر فيه رحمه الله من العلم، والشجاعة، وقوة القلب، وصدق التوكل، ما يتجاوز الوصف.

ولكن كثرت الضجات، وزادت المجادلات، التي لم تجد الدولة سبيلًا لإخمادها إلّا بتخيير الشَّيخ بين ثلاثة أمور:

- أن يسير إلى دمشق.

- أو أن يذهب إلى الإسكندرية.

وهو مقيد في دمشق والإسكندرية بشروط.

- أو الحبس.

فاختار رحمه الله الحبس (2)، لكن تلاميذه ومحبيه طلبوا منه السَّفر إلى دمشق على ما شرطوا، فأجابهم إلى ما طلبوا تطييبًا لخاطرهم وركب البريد في الثامن عشر من شهر شوال من هذه السنة، ثم أرسل من الغد بريد آخر خلفه فرده إلى مصر، وحضر عند القاضي بدر الدين بن جماعة وجماعة من الفقهاء.

فقال بعضهم له: ما ترضى الدولة إلّا بالحبس، فقال القاضي ابن جماعة: وفيه مصلحة له.

فاستناب شمس الدين التونسي المالكي، وأذن له أن يحكم عليه

(1) من خلال التحقيق لهذا الكتاب عرفت بالاتحادية وبأصحابها.

(2)

يقول أبو زهرة -في كتابه "ابن تيمية- حياته وعصره وفقهه" ص: 66:

"وأنه إذ يختار الحبس يختار تقييد الجسم من الحركة، وقد ارتضاه عن تقييد الفكر واللسان، فإن الحرية التي تملأ نفس العالم ليست هي حرية الانتقال من مكان إلى مكان، إنَّما هي حرية الفكر وجولاته، ونشر تفكيره وآرائه. . . ".

ص: 48

بالحبس، فامتنع، وقال: ما ثبت عليه شيء.

فأذن لنور الدين الزواوي المالكي، فتحير.

فلما رأى الشَّيخ رحمه الله توقفهم في حبسه، قال: أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة.

فقال نور الدين: يكون في موضع يصلح لمثله.

فقيل له: الدولة ما ترضى إلَّا بمسمى الحبس.

ثم أرسل بعد هذا إلى حبس القضاة، وأذن بأنَّ يكون عنده من يخدمه.

وكان كل ذلك بإشارة نصر المنبجي، ووجاهته في الدولة (1).

ومكث الشَّيخ في الحبس يستفتى، ويقصده النَّاس، ويزورونه، ويكتب لهم بما يحير العقول من المسائل التي عجز غيره عن الإفتاء بها، فالتف النَّاس حوله، وكثر اجتماعهم به وترددهم عليه.

فأثار هذا حفيظة أعدائه، وحصرت صدورهم، ممَّا جعلهم ينقلونه إلى الإسكندرية (2) في آخر شهر صفر من سنة تسع وسبعمائة، وحبس ببرج منها ثمانية أشهر زاول خلالها رحمه الله ما عرف عنه من الوعظ وتوجيه النَّاس، فكان يقصده الأعيان والفقهاء يقرؤون عليه، ويستفيدون منه.

وفي اليوم الثامن من شهر شوال من هذه السنة بادر الملك الناصر بعد دخوله إلى مصر واستعادة ملكها بإحضار الشَّيخ من الإسكندرية، فخرج منها الشَّيخ، ووصل إلى القاهرة في الثامن عشر من الشهر المذكور واجتمع بالسلطان يوم الجمعة الرابع والعشرين منه، فأكرمه وأحسن استقباله، وتلقاه في مجلس (3) حفل فيه قضاة وفقهاء مصر والشام، وأصلح بينه وبينهم.

(1) انظر: العقود الدرية -لابن عبد الهادي- ص: 267 - 269.

والكواكب الدرية -لمرعي الحنبلي- ص: 133، 134.

(2)

يذكر ابن كثير -في "البداية والنهاية" 14/ 43: أن الجاشنكيز وشيخه المنبجي أرادا من نقله إلى الإسكندرية كهيئة المنفي، لعل أحدًا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة، لأنَّ الشَّيخ كان يتكلم فيهما وفي ابن عربي وأتباعه، وكان الأمر على خلاف ما أرادا، فازداد حب النَّاس للشيخ وتعلقهم به.

(3)

انظر ما دار في هذه المجلس من استقبال حافل للشيخ وثناء السلطان عليه في =

ص: 49

ثم أخذ الشَّيخ رحمه الله يبث العلم وينشره في القاهرة، والخلق يقرؤون عليه، ويستفتونه ويجيبهم بالكلام والكتابة، واستمر على ذلك إلى أن عاد إلى دمشق في اليوم الأول من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وكانت مدة غيبته عنها سبع سنين وسبع جمع (1).

وبعد وصوله دمشق واستقراره بها زاول نشاطه العلمي، فصنف الكتب، وأفتى النَّاس بالكلام والكتابة المطولة، ونفع الخلق، والإحسان إليهم، والاجتهاد في الأحكام الشرعيّة، فصار رحمه الله يفتي بما قام الدليل عليه عنده (2).

وفي منتصف شهر ربيع الآخر سنة ثمان عشرة وسبعمائة، أشار القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي، على الشَّيخ بترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق، فقبل الشَّيخ إشارته، وعرف نصيحته، وأجاب إلى ذلك.

وفي مستهل شهر جمادى الأولى من هذه السنة ورد كتاب السلطان بمنع الشَّيخ من الإفتاء في هذه المسألة، فامتنع الشَّيخ فترة، لكنَّه عاد إلى الإفتاء بذلك، وقال: لا يسعني كتمان العلم.

وفي شهر رمضان من السنة المذكورة، اجتمع القضاة والفقهاء عند نائب السلطان بدار السعادة، وأحضر الشَّيخ، وعوتب على فتياه بعد المنع، وأكد عليه المنع مرَّة أخرى.

وفي شهر رجب من سنة عشرين وسبعمائة، اجتمع القضاة والفقهاء وجماعة من المفتين بدار السعادة، وحضر الشَّيخ، وعاودوه في الإفتاء بمسألة الطلاق، وعاتبوه على استمراره في الإفتاء بها، وحبسوه بالقلعة، وبقي بها خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا.

ثم ورد مرسوم بإخراجه يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين وسبعمائة.

= العقود الدرية -لابن عبد الهادي- ص: 278 - 281.

(1)

انظر: الكواكب الدرية -لمرعي الحنبلي- ص: 140.

(2)

ذكر ابن عبد الهادي في "العقود الدرية" ص: 321 فما بعدها بعض فتاوى الشَّيخ في دمشق واختياراته التي خالف فيها المذاهب الأربعة، أو بعضها.

ص: 50