الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثَّاني عصره
وبعد أن تعرفنا على هذه الشخصية الفذة، وما تحويه من الصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة التي منّ الله بها عليه، يطيب لي أن نتعرف على العصر الذي عاشت فيه، إذ من الثابت أن الظروف التي تحيط بالشخص، والبيئة التي يعيش فيها، والأحوال السياسية والاجتماعية القائمة في عصره لها أثر في تكوين الشخصية، وتعيين اتجاهها إلى الخير أو الشر.
وقد يكون التاثير عكسيًّا، فكثرة الفساد تحمل على التفكير الجدي في الإصلاح، فتدفع المصلح لأنَّ يفكر في أسباب الشر فيقتلعها، وفي نواة الخير الكامنة فيغذيها، وكذلك كان التفاعل بين ابن تيمية وعصره (1)، والذي سوف نتكلم عنه في المباحث التالية:
الناحية السياسية
.
الناحية الاجتماعية.
الناحية العلمية.
الناحية السياسية:
الشَّيخ رحمه الله عاش في أواخر القرن السابع وأول القرن الثامن للهجرة، وقد كانت البلاد الإسلامية -في هذه الفترة- مليئة بالأحداث المحزنة التي يذكرها المؤرخون بالتفصيل، وأكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى أمور تعد من علامات العصر الذي عاش فيه شيخ الإسلام.
فقد بدأ الصليبيون غاراتهم على بلاد الشام سنة 491 هـ، كما يذكر ذلك
(1) انظر: ابن تيمية -حياته وعصره وآراؤه وفقهه -لأبي زهرة- ص: 124 (بتصرف).
ابن الأثير (1) عن الحوادث التي جرت في هذه السنة، عندما خرج الفرنج إلى بلاد الشام.
واستمر الصليبيون في غاراتهم على الشام ومصر، ينتصرون مرَّة، وينهزمون أخرى نحو قرنين من الزمان، حتَّى انتهى الأمر بطردهم نهائيًّا سنة 690 هـ على يد الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون (2).
يقول ابن كثير: "في تلك السنة فتحت "عكا" وبقية السواحل التي كانت بأيدي الفرنج من مدد متطاولة، ولم يبق فيها حجر واحد"(3).
وقد ذكر البزار ما يدل على مشاركة الشيخ رحمه الله في فتح "عكا" فقال: "وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح "عكا" أمورًا من الشجاعة يعجز الواصف عن وصفها.
قالوا: ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره" (4).
وبينما كان المسلمون منشغلين بقتال الصليبين، دهمهم خطر التتار الذين قدموا بقيادة زعيمهم "جانكيز خان" يجتاحون البلاد الإسلامية، وكانوا قومًا فيهم غلظة، فأسرفوا في سفك الدماء، ونهب الأموال، وتخريب البلاد حتَّى سقطت بأيديهم بغداد عاصمة الخلافة سنة 656 هـ، وأحالوا هذه المدينة العامرة إلى خراب، فأشعلوا النَّار في دورها، وقتلوا الآلاف من
(1) انظر: الكامل لابن الأثير 10/ 272 - 278.
(2)
هو: خليل بن قلاوون الصالحي الملك الأشرف، من ملوك مصر، ولي بعد وفاة والده سنة 689 هـ، واستفتح بالجهاد، فقصد البلاد الشامية، وقاتل الفرنج واسترد منهم "عكا" و "صورًا" و "صيدا" و "بيروت" وبقية الساحل وتوغل في الداخل، وكان شجاعًا مهيبًا، قتل غيلة بمصر سنة 693 هـ.
انظر: فوات الوفيات -للكتبي- 1/ 406 - 415.
والأعلام -للزركلي- 2/ 369.
(3)
البداية والنهاية- 13/ 303.
(4)
الأعلام العلية -أبو حفص البزار- ص: 63، 64.
وانظر: الكواكب الدرية -للإمام مرعي الحنبلي- ص: 92.
أهلها، وعلى رأسهم الخليفة العباسي المستعصم بالله (1).
وبعد استيلاء التتار على العراق وخراسان وغيرها من بلاد الشرق، أصبح الطريق أمامهم مفتوحًا لغزو الشام، فسارعوا بجيوشهم عبر الفرات وما لبثوا أن استولوا على حلب ثم دمشق، حتَّى وصلوا بقيادة "هولاكو" إلى غزة في طريقهم إلى مصر، لكن الملك المظفر "قطز"(2) -سلطان ديار مصر- باغتهم بجيش، ودارت بينهم معركة في "عين جالوت"(3) سنة 658 هـ، انتهت بهزيمة التتار وفرارهم (4).
لكن التتار عادوا مرَّة أخرى لغزو الشام سنة 699 هـ، وقصدوا دمشق، فاجتمع أعيان البلد وتقي الدين بن تيمية، واتفقوا على المسير إلى "قازان" -سلطان التتار- ومواجهته قبل دخوله دمشق، وأخذ الأمان منه لأهلها، فتوجهوا إليه، وكلمه الشَّيخ كلامًا قويًّا شديدًا فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين (5)، فحقنت الدماء، وحميت الدَّراري واندحر التتار بعد قدوم العساكر المصرية لمساعدة أهل الشام.
وكان رحمه الله يحث النَّاس على الجهاد والاستعداد له في أي لحظة،
(1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير- 13/ 79، 83 - 88، 91، 190 - 194.
وقد ذكر رحمه الله في ص: 193 وصفًا محزنًا لبغداد وحالة أهلها بعد سقوطها بأيدي التتار.
(2)
هو: قطز بن عبد الله المعزي، سيف الدين، وثالث ملوك الترك المماليك بمصر والشام، كان مملوكًا للمعز "أيبك التركماني"، وكان شجاعًا مقدامًا حازمًا، حسن التدبير، وبعد قتال التتار وانتصاره عليهم، قتل أثناء عودته لمصر على يد بيبرس وبعض أمراء الجيش سنة 658 هـ.
انظر: فوات الوفيات -للكتبي- 3/ 201 - 203.
والأعلام -للزركلي- 6/ 47.
(3)
عين جالوت: بين بيسان ونابلس من أعمال فلسطين كان الروم قد استولوا عليها مدة ثم استردها منهم صلاح الدين الأيوبي سنة 579 هـ.
انظر: معجم البلدان للحموي- 4/ 177.
(4)
انظر: البداية والنهاية لابن كثير- 13/ 207 - 211.
(5)
المصدر السابق 14/ 6 - 12، والأعلام العلية للبزار- ص: 64، 65.
ويتلو عليهم آيات الصبر والجهاد، ويجتمع بنواب قازان -بعد رجوعه- لتخليص أسرى المسلمين، وقد فك أسر كثير منهم بسبب جهوده رحمه الله.
وفي سنة 700 هـ جاءت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، ففزع النَّاس، وشرعوا في الهروب من تلك الديار، لكن الشَّيخ رحمه الله حرضهم على البقاء والمدافعة بالغالي والرخيص، وذكرهم بفضل الجهاد، وكلما اقترب التتار من دمشق زاد فزع النَّاس واضطرابهم وهروب البعض منهم، خصوصًا بعد رجوع السلطان الناصر وعساكره إلى مصر من عرض الطريق، وكان خرج منها إلى الشام لمساعدة أهلها، ممَّا جعل الشَّيخ -وبطلب من نائب دمشق- يتوجه إلى مصر بالبريد لحث السلطان على حماية دمشق، إن كانت لهم بهم حاجة.
وقال لهم فيما قال: "إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه، ويستغله في زمن الأمن".
ولم يزل الشَّيخ تقي الدين بهم حتَّى خرجت العساكر من مصر إلى الشام، وحثهم على الجهاد ووعدهم بالنصر المؤزر، لكن ملك التتار أحس بضعف جيشه فرجع، وكفى الله المسلمين شرهم (1).
وفي سنة 702 هـ وردت الأخبار بعزم التتار على غزو الشام، ففزع النَّاس -كما هي حالهم في كل مرَّة- وقدموا فعلًا إلى الشام، وجاءت العساكر المصرية، وخرج الشَّيخ إلى العسكر، واجتمع بهم ووعدهم النصر وحث الأمراء على الصبر ومواصلة الجهاد وعدم التخاذل، ووقعت معركة "شقحب"(2) وشارك الشَّيخ رحمه الله فيها مشاركة فعلية بعد أن كاد يدب اليأس إلى قلوب النَّاس، وبدأت مظاهر التفرق فيهم، وأفتى رحمه الله بفطر النَّاس مدة قتالهم، وأفطر هو -أيضًا- فانتصر المسلمون -بحمد الله-
(1) المصدر السابق 14/ 13 - 15، والعقود الدرية لابن عبد الهادي- ص:119.
(2)
شقحب: عين ماء جنوب دمشق بعد الكسوة على يمين المذاهب إلى حوران، وهي الآن مزرعة تبعد أربعين كلم عن دمشق.
انظر: ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية -محمد كرد علي،- ص: 23 ت (1).
وغنموا مغانم كثيرة، وخذل التتار وولوا مدبرين (1).
وفي سنة 705 هـ، كان لجماعة من التتار صولة على جيش حلب، فخرج الشَّيخ أبو العباس ومعه طائفة من الجيش لغزوهم، ثم تبعه نائب السلطان بما بقي من الجيوش الشامية، وقد أبان الشَّيخ رحمه الله في هذه الغزوة علمًا وشجاعة ملأت قلوب أعدائه حسدًا وغمًّا (2).
فمن هذا العرض الموجز نجد أن حياة المسلمين السياسية في الفترة التي عاش فيها الشَّيخ مضطربة، وقد أدى تلاحق الحوادث والحروب إلى عدم استقرارها، ودفع بخيرة أبناء البلاد إلى الحرب والجهاد.
هذا بالنسبة للوضع السياسي خارج دولة المماليك.
أما في الداخل: فكان حكمهم يزخر بالفتن والاغتيالات والمؤامرات، فما أن تهدأ الأمور وتسير في صالح سلطان حتَّى يتطاول عليه أمير من الأمراء محاولًا اغتصاب السلطة. . . وهكذا، فالقوة كانت إحدى مميزات هذه العصر (3)، ممَّا جعل السلاطين يعيشون في وضع غير مستقر، لما يلاقونه ويتعرضون له من القتل والعزل والإذلال.
ومما لا شك فيه أن هذا الوضع المضطرب له الأثر السلبي على العلماء المعاصرين له الذين أخذوا العهد على أنفسهم بتوجيه النَّاس الوجهة الصالحة، وبيان الحق لهم، فكانوا يغضبون على تلك الطائفة التي تحاول إثارة الشغب بما تحيكه من المؤامرات ضد السلاطين، خصوصًا وأنهم أظهروا الدفاع عن البلاد الإسلامية، وحماية أهلها، وصدوا هجمات التتار المتكررة -كما رأينا- وحرصوا على مصالح الرعية، وأشاعوا العدل بينهم (4).
(1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 14/ 19 - 23.
والكواكب الدرية -للإمام مرعي الحنبلي- ص: 96، 97.
(2)
انظر: البداية والنهاية لابن كثير- 14/ 31.
(3)
انظر: النجوم الزاهرة -لابن تغري بردي- 8/ 264 - فما بعدها.
وحسن المحاضرة -للسيوطي- 2/ 105 - 114.
(4)
انظر: النجوم الزاهرة -لابن تغري بردي- 7/ 163.