الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني دراسة بعض مسائله
فتنة القول بخلق القرآن:
لا بد -وقبل الكلام على مسألة خلق القرآن واختلاف الناس فيها، وبيان القول السديد المعتمد على الأدلة النقلية والعقلية- من الكلام على بدعة القول بخلق القرآن، وبيان وقت ظهورها، ومن تزعمها، وما لاقاه الأئمة في سبيل إخمادها، وتجليتها على ضوء نصوص الكتاب والسنة، لا سيما وهذه أمور كثيرًا ما يتطرق إليها الشيخ رحمه الله في ثنايا هذا الكتاب، وأثناء مناقشته الخصوم.
لذا رأيت أن أتكلم عنها، ولو بشيء من الاختصار فأقول:
بدعة القول بخلق القرآن أولى من أظهرها في الإسلام -كما أوضحه الشيخ (1) وغيره: الجعد بن درهم (2)(ت 124 هـ).
فقد نقل أبو القاسم اللالكائي (3) عن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: "سمعت أبي يقول: أول من أتى بخلق القرآن جعد بن درهم، وقاله سنة نيف وعشرين ومائة".
ولما اشتهر أمره في المسلمين طلبه خالد بن عبد الله القسري (4) -وكان أميرًا على العراق- حتى ظفر به، فخطب الناس يوم الأضحى وقال في خطبته: "أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن
(1) انظر: ص: 271 من هذا الكتاب- قسم التحقيق. ومجموع الفتاوى- 12/ 350.
(2)
ستأتي ترجمته في قسم التحقيق من هذا الكتاب.
(3)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة- 3/ 382.
(4)
ستأتي ترجمته في قسم التحقيق من هذا الكتاب.
درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلًا تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا كبيرًا" ثم نزل فذبحه (1).
فسكن الأمر، وانطفأت هذه البدعة.
ثم حمل لواءها الجهم بن صفوان (2)(ت 128 هـ).
يقول الشيخ (3) رحمه الله: "وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان، فأنكر أن الله يتكلم، ثم نافق المسلمين، فأقر بلفظ الكلام، وقال: "كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر".
وقد سلط الله على الجهم مسلم بن أحوز فقتله.
لكن أظهر هذه البدعة من بعدهما بشر بن غياث المريسي (4)(ت 219 هـ) فجدد القول بخلق القرآن، وكان صباغًا يهوديًّا (5).
يقول عثمان بن سعيد الدارمي (6): "لم يزل الأمر طامسًا دارسًا حتى درج العلماء، وقَلَّت الفقهاء، ونشأ نشءٌ من أبناء اليهود والنصارى مثل بشر بن غياث المريسي، ونظرائه، فخاضوا في شيء منه، وأظهروا طرفًا منه، وجانبهم أهل الدين والورع، وشهدوا عليهم بالكفر حتى هم بهم وبعقوبتهم قاضي القضاة يومئذ أبو يوسف، حتى فر منه المريسي (7). . .
(1) انظر: ص: 249 من هذا الكتاب- قسم التحقيق.
ومجموع الفتاوى لابن تيمية- 12/ 26، 27، 119.
ومختصر الصواعق المرسلة -لابن القيم- اختصار الموصلي- 1/ 227.
(2)
ستأتي ترجمته في الكتاب المحقق.
(3)
في مجموع الفتاوى- 12/ 27.
(4)
ستأتي ترجمته في الكتاب المحقق.
(5)
انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -للالكائي- ص: / 382.
(6)
في كتابه الذي ألفه في الرد على بشر المريسي- ص: 108.
(7)
أخرج ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص: 385 عن محمد بن نوح قال:
"سمعت هارون الرشيد أمير المؤمنين يقول: بلغني أن بشرًا المريسي زعم أن القرآن مخلوق، علي إن أظفر به لأقتلنه قتلة ما قتلتها أحدًا قط".
وقال أحمد فيما نقله عنه ابن الجوزي في المصدر السابق نفس الصفحة:
"كان بشر متواريًا أيام هارون نحوًا من عشرين سنة حتى مات هارون، فظهر =
ولحق بالبصرة، فلم يزالوا أذلة مقموعين، لا يقبل لهم قول، ولا يلتفت لهم إلى رأي، حتى ركنوا إلى بعض السلاطين الذين لم يجالسوا العلماء ولم يزاحموا الفقهاء. . . ".
فاستغل المعتزلة (المأمون) الخليفة العباسي أبا جعفر عبد الله بن هارون الرشيد (1)، واتخذوه أداة لنشر ضلالتهم، وترويج بدعتهم، فزينوا له القول بخلق القرآن، فصار إلى مقالتهم، وحمل الناس عليها، وأكرههم على اعتناقها، وكان قبل ذلك مترددًا في الدعوة إلى إظهار هذه البدعة، وحمل الناس عليها، ربما كان ذلك لأنه يراقب بقايا الشيوخ الذين لهم مكانة في نفوس الناس (2)، لكنه في آخر أيامه عزم على إظهار هذا القول وإكراه الناس عليه.
فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم (3) كتابًا (4) يأمره فيه بامتحان القضاة والعلماء بالقول بخلق القرآن، وأن يرسل إليه جماعة منهم عينهم بكتابه (5).
= ودعا إلى الضلالة، وكان من المحنة ما كان".
قال ابن الجوزي: "لما توفي الرشيد كان الأمر كذلك في زمن الأمين، فلما ولي المأمون خالطه قوم من المعتزلة فحسنوا له القول بخلق القرآن. . . ".
مناقب الإمام أحمد- ص: 386.
(1)
ستأتي ترجمته في الكتاب المحقق.
(2)
انظر: مناقب الإمام أحمد -لابن الجوزي- ص: 386.
(3)
هو: أبو الحسن إسحاق بن إبراهيم بن مصعب الخزاعي، صاحب الشرطة ببغداد أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، كان مقربًا من الخلفاء ذا رأي وشجاعة، توفي سنة 235 هـ.
انظر: الكامل -لابن الأثير- 7/ 52.
والأعلام -للزركلي- 1/ 283، 384.
(4)
انظر نصه في تاريخ الطبري 8/ 631، 632.
(5)
وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي، وإسماعيل بن داود.
فبعث بهم إسحاق إلى المأمون بالرقة (1)، فامتحنهم بخلق القرآن، فأجابوه إلى ذلك، وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد، وأمر بإشهار ذلك بين الفقهاء، وقد فعل نائبه ونفذ أمره (2).
ثم كتب المأمون إلى إسحاق -أيضًا- بكتاب ثان (3) يستدل به -كما يقول ابن كثير- على القول بخلق القرآن بشبه من الدلائل لا تحقيق تحتها ولا حاصل لها، بل هي من المتشابه، وأورد من القرآن آيات هي حجّة عليه، وأمر نائبه أن يقرأ الكتاب على الناس، ويدعوهم إليه، وإلى القول بخلق القرآن.
فأحضر إسحاق جماعة من الأئمة منهم الإمام أحمد بن حنبل (4) رحمه الله وقرأ عليهم الكتاب، ثم بدأ يمتحنهم رجلًا رجلًا، إلى أن وصلت النوبة إلى الإمام أحمد:
فقال له: أتقول أن القرآن مخلوق؟
فقال: القرآن كلام الله لا أزيد على هذا.
فقال له: ما تقول في هذه الرقعة (5)؟
فقال: أقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6).
فقال رجل من المعتزلة (7): إنه يقول: سميع بأذن، بصير بعين.
(1) الرقة: مدينة مشهورة على الفرات من الجانب الشرقي بالعراق.
انظر: معجم البلدان -للحموي- 3/ 59.
(2)
انظر (بتصرف): محنة الإمام أحمد بن حنبل -لأبي عبد الله حنبل بن إسحاق ص: 34، 35.
والبداية والنهاية -لابن كثير- 10/ 308، 309.
(3)
أورده ابن جرير الطبري في تاريخه 8/ 634 - 637.
(4)
ترجمت له مختصرًا في هذا الكتاب- قسم التحقيق.
(5)
هذه الرقعة هي التي وافق عليها بشر بن الوليد الكندي -أحد الممتحنين- من أنه يقال: لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه.
وكان إسحاق إذا امتنع الرجل من القول بخلق القرآن امتحنه بهذه الرقعة فيقول: نعم، كما قال بشر.
(6)
سورة الشورى. الآية 11.
(7)
ذكر ابن الأثير في الكامل 6/ 426: أنه ابن البكّاء الأصغر.
فقال له إسحاق: ما أردت بقولك: سميع بصير؟
فقال: أردت منها ما أراده الله منها، وهو كما وصف نفسه، ولا أزيد على ذلك.
فكتب أجوبة القوم، وبعث بها إلى المأمون، وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرهًا (1).
ثم ورد كتاب (2) المأمون إلى نائبه أن يمتحنهم -أيضًا- فمن أجاب منهم شهر أمره في الناس، ومن لم يجب منهم يبعث إليه مقيدًا محتفظًا به.
فأحضرهم إسحاق، وأخبرهم بما أمر به الخليفة، فأجاب القوم كلهم إلّا أربعة هم: أحمد بن حنبل، وسجادة (3)، والقواريري (4) ومحمد بن نوح (5)، فأمر بهم إسحاق فشدوا في الحديد.
(1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 10/ 309، 310، وجاء فيه أن سبب مصانعة بعض الحاضرين:"أنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه، وإن كان له رزق على بيت المال قطع، وإن كان مفتيًا منع من الإفتاء، وإن كان شيخ حديث ردع عن الإسماع والأداء".
(2)
ذكره ابن جرير مفصلًا في تاريخه 8/ 640 - 644: وقد ورد في المدح والثناء لنائبه على ما فعله، والرد على كل فرد ممن لم يجب بالقول بخلق القرآن مصرحًا باسمه، فذمهم وأعابهم، ووقع فيهم بأشياء ذكرها في هذا الكتاب.
(3)
هو: أبو الحسن بن حماد الحضرمي البغدادي المعروف بسجادة، كان ثقة صاحب سنة، وله حلقة وأصحاب، توفي سنة 241 هـ.
انظر: العبر في خبر من غبر -للذهبي- 1/ 342.
وشذرات الذهب -لابن العماد- 2/ 99.
(4)
هو: أبو سعيد عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي القواريري، كان ثقة صدوقًا حدث عنه البخاري ومسلم وغيرهما، توفي سنة 235 هـ.
انظر: تاريخ بغداد -للخطيب البغدادي- 10/ 320 - 323.
وسير أعلام النبلاء -للذهبي- 11/ 442 - 446.
(5)
محمد بن نوح بن ميمون بن عبد الحميد العجلي، يعرف والده بالمضروب كان أحد المشهورين بالسنة، مات سنة 218 هـ وصلى عليه الإمام أحمد.
قال فيه الإمام أحمد رحمه الله فيما نقله عنه حنبل بن إسحاق: "ما رأيت أحدًا على حداثة سنه، وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو =
فلما كان من الغد دعاهم وهم مقيدون، فامتحنهم، فأجاب سجادة والقواريري، فأطلقهما، وأصر الإمام أحمد، ومحمد بن نوح على قولهما، فشدا بالحديد ووجها إلى طرسوس (1)، وكتب كتابًا بإرسالهما إليه (2).
يقول الإمام أحمد رحمه الله: "وكنت أدعو الله ألّا يريني وجهه -يعني المأمون- وذلك أنه بلغني أنه كان يقول: لئن وقعت عيني على أحمد لأقطعنه إربًا إربًا"(3).
فاستجاب الله دعاءه ومات المأمون وهما في طريقهما إليه سنة 218 هـ فأما محمد بن نوح فمات في الطريق، وصلى عليه الإمام أحمد ودفنه (4).
وأما الإمام أحمد فرد مقيدًا إلى بغداد -بعد خبر وفاة المأمون وتولي المعتصم- (5) في سفينة مع بعض الأسرى، وكان في أمر عظيم من الأذى، ثم أودع السجن نحوًا من ثمانية وعشرين شهرًا، وقيل: نيفًا وثلاثين شهرًا، ثم أخرج للضرب بين يدي المعتصم، وكان ذلك بعد مناظرات مع المعتزلة (6)
= أن يكون الله قد ختم له بخير. قال لي ذات يوم وأنا معه خلوين: يا أبا عبد الله: الله الله إنك لست مثلي. أنت رجل يقتدى بك، وقد مد هذا الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتق الله، واثبت لأمر الله". قال أبو عبد الله:"فعجبت من تقويته لي وموعظته إياي. . . ".
انظر: تاريخ بغداد -للخطيب البغدادي- 3/ 322، 323.
ومحنة الإمام أحمد بن حنبل -لابن إسحاق- ص: 39.
(1)
طرسوس مدينة بالشام وهي الآن مرفأ على الساحل السوري، وفيها دفن المأمون.
انظر الروض المعطار في خبر الأقطار -للحميري- ص: 388.
(2)
انظر: الكامل -لابن الأثير- 6/ 427.
وسيرة الإمام أحمد -لابنه صالح- ص: 49، 50.
(3)
انظر: محنة الإمام أحمد بن حنبل -لابن إسحاق- ص: 39.
(4)
في "عانة" وهي بلد مشهور بين الرقة وهيت على نهر الفرات.
(5)
ترجمته في قسم التحقيق من هذا الكتاب.
(6)
انظر تفصيل هذه المناظرات، وما دار فيها، وما حصل للإمام أحمد بعدها من الضرب وأصناف التعذيب في:
سيرة الإمام أحمد -لابن صالح- ص: 55 - 66.
ومحنة الإمام أحمد -لحنبل بن إسحاق- ص: 43 - 61. =
: ابن أبي دؤاد (1) وجمع من أصحابه، بحضور الخليفة، وقد أثبت خلالها رحمه الله تغلبه عليهم، ودمغهم بالحجج المدعمة بنصوص الكتاب والسنة، التي تهاوت أمامها جميع إلزاماتهم، فلم تقم لهم معه حجة، مما جعلهم -ومن خلال هذه المناظرات- يلجؤون إلى أسلوب آخر، أسلوب العجز، الذي ينتهجه عادة أعداء الإسلام عندما تتساقط أدلتهم أثناء النقاش فلجؤوا إلى تحريف قوله، وتحريض الخليفة عليه، ونسبته إلى الضلال والابتداع، وأنه حلال الدم.
ويظهر ذلك من قولهم فيما بينهم- أثناء المناظرة: "يا أمير المؤمنين: أكفرنا وأكفرك".
وقول الإمام أحمد رحمه الله: "يا أمير المؤمنين ما أعطوني شيئًا من كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقول به".
وقول ابن أبي دؤاد: "هو -والله- يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع".
وبعد ما لاقاه أبو عبد الله من صنوف الأذى وأنواع التعذيب، وخيبة أمل بطانة الخليفة، أعيد رحمه الله إلى منزله.
يقول حنبل بن إسحاق: "فلم يزل أبو عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه بعد أن أطلقه المعتصم، وانقضاء أمر المحنة، وبرأ من ضربه، يحضر الجمعة والجماعة، ويفتي ويحدث أصحابه، حتى مات أبو إسحاق، وولي هارون ابنه (2)، وهو الذي يدعى الواثق. . . "(3).
فحسَّن له ابن أبي دؤاد امتحان الناس بخلق القرآن، ففعل ذلك (4) ولم
= والبداية والنهاية -لابن كثير- 10/ 377 - 380.
(1)
ترجمته في قسم التحقيق من هذا الكتاب.
(2)
وكان ذلك سنة سبع وعشرين ومائتين من الهجرة.
انظر ترجمته بقسم التحقيق من هذا الكتاب.
(3)
انظر: محنة الإمام أحمد بن حنبل -لحنبل بن إسحاق- ص: 69.
(4)
كان ممن امتحن بالقول بخلق القرآن في عهده أحمد بن نصر الخزاعي، أحد أئمة السنة القائلين: إن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وكان نتيجة هذا الامتحان قتله رحمه الله على يد الواثق، بتحريض من ابن أبي دؤاد وأصحابه =
يتعرض للإمام أحمد (1)، لكنه أرسل له بأن لا يساكنه بأرض، ولا يأتيه ولا يجتمع به أحد، فاختفى رحمه الله بقية حياة الواثق (2).
ورغم ما ناله رحمه الله كما مر في أيام المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق، وما أصابه من الحبس الطويل، والضرب الشديد، والتهديد والوعيد بالقتل، إلا أنه قابل ذلك كله بالصبر ورجاء الثواب من عند الله والتمسك بالكتاب والسنة وما عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان.
إلى أن تولى المتوكل (3)، فأظهر الله به السنة وأعز أهلها، وقمع البدعة وأذل أهلها، فكتب إلى الآفاق بالمنع من الكلام في القول بخلق القرآن ووجه الفقهاء والمحدثين بالجلوس للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأرسل إلى نائبه ببغداد أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه، فاستدعاه وأكرمه وأجله لما يعلمه من مكانته عند الخليفة المتوكل،
= سنة 231 هـ.
(1)
ذكر ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص: 429 أن عدم تعرض الواثق للإمام أحمد إما لما علمه من صبره، أو لما خاف من تأثير عقوبته.
(2)
انظر: محنة الإمام أحمد بن حنبل -لحنبل بن إسحاق- ص: 72.
(3)
سنة اثنين وثلاثين ومائتين من الهجرة.
انظر: ترجمته بقسم التحقيق من هذا الكتاب، وليعلم القارئ أن الوشاة والناقمين وأعداء الإسلام لا يهدأ لهم بال، ولا يهنأ لهم عيش ولا يقر لهم قرار إلا بالكيد والدس ومحاولة إخفاء الحقائق، واختلاق الدعاوي الباطلة ودعمها بالأكاذيب، وتزيينها بالباطل، وهذا ما ظهر بين فترة وأخرى في ولاية المتوكل، إذ تحدثنا كتب التاريخ والسير أن هؤلاء الأعداء ينقلون إلى الخليفة الأخبار الكاذبة، والتهم الباطلة محاولة منهم في تحريض الخليفة على الإمام أحمد رحمه الله لكن الخليفة استفاد من دروس سابقيه، فكان لا يتسرع في إصدار الأحكام إلا بعد ترو، ومتابعة يقف من خلالها على الحقيقة، فكان في كل مرة يكتشف براءة ساحة الإمام أحمد، وأنه لا يهدف إلى شيء سوى إظهار العقيدة السلفية النقية من غير مجاملة ولا مداهنة.
ويمكن للقارئ الاطلاع على المجلد العاشر من البداية والنهاية -لابن كثير- ص: 382، 385 ليرى بعض مكائد أعداء السلف الصالح في ظل ولاية المتوكل.
وأخبره بطلب الخليفة، فاعتل الإمام أحمد بضعفه وكبره، ولكن المتوكل أكد على حضوره إليه، وبعث إليه بكتاب مفاده أنه يريد الإنس به وبقربه.
فخرج الإمام أحمد من بغداد إلى الخليفة المتوكل (1)، وعند وصوله أكرمه إكرامًا عظيمًا -يستحقه- يرحمه الله- لكنه اعتبر ذلك ابتلاء وامتحانًا له -أيضًا- فكان لا يقبل ما يغدق به الخليفة عليه، ويقول:"سلمت منهم طول عمري، ثم ابتليت بهم في آخره".
فلما رأوا منه عدم قبول الترف وملاذ الدنيا، أذنوا له بالرجوع إلى بغداد، وكان الخليفة يوفد إليه في أمور تقع له يشاوره فيها، ويسأل عنه ويطمئن عليه، إلى أن توفي (2) رحمه الله رحمة واسعة.
وقد كتب المتوكل إلى الإمام أحمد يسأله عن القول بالقرآن، سؤال المسترشد المستفيد، لا سؤال المتعنت الممتحن، فكتب -إليه الإمام أحمد- رسالة حسنة (3)، أبان فيها ما يجب اعتقاده في هذه المسألة، وضمنها بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان (4).
وبعد هذا العرض لقضية الفتنة المتعلقة ببدعة القول بخلق القرآن نتعرف على موقف شيخ الإسلام في هذا الكتاب من هذه القضية، ويتمثل ذلك فيما يلي:
1 -
نظر شيخ الإسلام إلى موقف الخلفاء ومن تبعهم الذين أرادوا أن يلزموا الناس بأمر لم يرد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحكم على موقفهم بأنه لا يجوز منهم هذا الإلزام للناس، واستدل على ذلك بمواقف لسلف هذه الأمة من أمور لها الصفة نفسها في عدم وجودها في كتاب الله أو سنة رسوله، وكان فعلهم منسجمًا مع هذا الحكم، فقال رحمه الله في ذلك:
"ليس لأحد من الناس أن يلزم الناس ويوجب عليهم إلّا ما أوجبه الله
(1) كان ذلك سنة سبع وثلاثين ومائتين من الهجرة.
(2)
سنة إحدى وأربعين ومائتين من الهجرة.
(3)
أوردها ابنه أبو الفضل صالح بن أحمد في سيرة الإمام أحمد ص: 124 - 130.
(4)
انظر (بتصرف): مناقب الإمام أحمد -لابن الجوزي- ص: 438 - 462.
والبداية والنهاية -لابن كثير- 10/ 382 - 385.
ورسوله، ولا يحظر عليهم إلّا ما حظره الله ورسوله، فمن أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله، وحرم ما لم يحرمه الله ورسوله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وهو مضاء لما ذمه الله في كتابه من حال المشركين وأهل الكتاب الذين اتخذوا دينًا لم يأمرهم الله به، وحرموا ما لم يحرمه الله عليهم، وقد بين ذلك في سورة الأنعام والأعراف وبراءة وغيرهن من السور، ولهذا كان من شعار أهل البدع إحداث قول أو فعل، وإلزام الناس به وإكراههم عليه أو الموالاة عليه والمعاداة على تركه، كما ابتدعت الخوارج رأيها وألزمت الناس به، ووالت وعادت عليه، وابتدعت الرافضة رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه، وابتدعت الجهمية رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه، لما كانت لهم قوة في دولة الخلفاء الثلاثة الذين امتحن في زمانهم الأئمة ليوافقهم على رأي جهم الذي مبدؤه أن القرآن مخلوق، وعاقبوا من لم يوافقهم على ذلك.
ومن المعلوم أن هذا من المنكرات المحرمة بالعمل الضروري من دين المسلمين، فإن العقاب لا يجوز أن يكون إلا على ترك الواجب أو فعل محرم، ولا يجوز إكراه أحد إلا على ذلك والإيجاب والتحريم ليس إلا لله ولرسوله، فمن عاقب على فعل أو ترك بغير أمر الله ورسوله وشرع ذلك دينًا فقد جعل لله ندًّا ولرسوله نظيرًا بمنزلة المشركين الذين جعلوا لله أندادًا، وبمنزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذاب، وهو ممن قيل فيه:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1)، ولهذا كان أئمة السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد، ولا يكرهون أحدًا عليه، ولهذا لما استشار هارون الرشيد مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه، قال له: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم، وإنما جمعت علم أهل بلدي، أو كما قال، وقال مالك -أيضًا-: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة.
(1) سورة الشورى. الآية 21.
وقال أبو حنيفة: هذا رأي فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه، وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وقال: إذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها.
وقال المزني في أول مختصره: هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبد الله الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه، مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء.
وقال الإمام أحمد: ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم. وقال: ولا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا.
فإذا كان هذا قولهم في الأمور العملية وفروع الدين، لا يستجيزون إلزام الناس بمذاهبهم مع استدلالهم عليها بالأدلة الشرعية فكيف بإلزام الناس وإكراههم على أقوال لا توجد في كتاب الله، ولا في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تؤثر عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد من أئمة المسلمين؟ ولهذا قال الإمام أحمد لابن أبي دؤاد الجهمي، الذي كان قاضي القضاة في عهد المعتصم لما دعا الناس إلى التجهم، وأن يقولوا القرآن مخلوق، وإكراههم عليه بالعقوبة، وأمر بعزل من لم يجبه وقطع رزقه، إلى غير ذلك مما فعله في محنته المشهورة، فقال له في مناظرته لما طلب منه الخليفة أن يوافقه على أن القرآن مخلوق: ائتوني بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أجيبكم به، فقال له ابن أبي داؤد: وأنت لا تقول إلا بما في كتاب الله أو سنة رسوله، فقال له: هب أنك تأولت تأويلًا فأنت أعلم وما تأولت، فكيف تستجيز أن تكره الناس عليه بالحبس والضرب؟
فبين أن العقوبة لا تجوز إلا على ترك ما أوجبه الله أو فعل ما حرمه الله، فإن كان القول ليس في كتاب الله وسنة رسوله لم يجب على الناس أن يقولوه، لأن الإيجاب إنما يتلقى من الشارع، وإن كان القول في نفسه حقًّا، أو اعتقد قائله أنه حق، فليس له أن يلزم الناس أن يقولوا ما لم يلزمهم الرسول أن يقولوه -لا نصًّا ولا استنباطًا - وإذا كان كذلك فقول القائل: المطلوب من
فلان أن يعتقد كذا وكذا، وأن لا يتعرض لكذا وكذا، إيجاب عليه لهذا الاعتقاد وتحريم عليه لهذا الفعل؟، وإذا كانوا لا يرون خروجه من السجن إلّا بالموافقة على ذلك فقد استحلوا عقوبته وحبسه حتى يطيعهم في ذلك، فإذا لم يكن ما أمروا به قد أمر الله به ورسوله، وما نهوا عنه قد نهى الله عنه ورسوله، كانوا بمنزلة من ذكر من الخوارج والروافض والجهمية المشابهين للمشركين والمرتدين ومعلوم أن هذا الذي قالوه لا يوجد في كلام الله ورسوله بحال، وهم -أيضًا- لم يبينوا أنه يوجد في كلام الله ورسوله، فلو كان هذا موجودًا في كلام الله ورسوله لكان عليهم بيان ذلك، لأن العقوبات لا تجوز إلّا بعد إقامة الحجة، كما قال الله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (1)، فإذا لم يقيموا حجة الله التي يعاقب من خالفها، بل لا يوجد ما ذكروه في حجة الله، وقد نهوا عن تبليغ حجة الله ورسوله، كان هذا من أعظم الأمور مماثلة لما ذكر من حال الخوارج، المارقين المضاهين للمشركين والمرتدين والمنافقين" (2).
2 -
أنه رحمه الله نظر إلى الفتنة على أنها أشد الفتن جرمًا، وأنه قد بذل في إذاعتها وإكراه الناس عليها ما لم يبذل في بدع أخرى، فقال رحمه الله:
"فإن مسألة القرآن وقع فيها بين السلف والخلف من الإضراب والنزاع ما لم يقع نظيره في مسألة العلو والارتفاع، إذ لم يكن على عهد السلف من يبوح بإنكار ذلك ونفيه، كما كان على عهدهم من باح بإظهار القول بخلق القرآن، ولا اجترأ الجهمية إذ ذاك على دعاء الناس إلى نفي علو الله على عرشه، بل ولا أظهرت ذلك، كما اجترؤوا على دعاء الناس إلى القول بخلق القرآن، وامتحانهم على ذلك، وعقوبة من لم يجبهم بالحبس، والضرب، والقتل، وقطع الرزق، والعزل عن الولايات، ومنع قبول الشهادة، وترك افتدائهم من أسر العدو، إلى غير ذلك من العقوبات التي إنما تصلح لمن خرج عن الإسلام، وبدلوا بذلك الدين نحو تبديل كثير من المرتدين، فأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في
(1) سورة الإسراء. الآية 15.
(2)
انظر: ص: 176 - 183 من هذا الكتاب- قسم التحقيق.
سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فجاهدوا في الله حق جهاده، متبعين سبيل الصدّيق وإخوانه الذين جاهدوا المرتدين، بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وسمه المسلمون بالإمامة، وبأنه الصديق الثاني، من كان أحق بهذا التحقيق عن فتور الواني.
فإن أولئك الجهمية جعلوا المؤمنين كفارًا مرتدين، وجعلوا ما هو من الكفر والتكذيب للرسول إيمانًا وعلمًا، ولبسوا على الأئمة والأمة الحق بالباطل، وكانت فتنتهم في الدين أعظم ضررًا من فتنة الخوارج المارقين، فإن أولئك -وإن كفّروا المؤمنين واستحلوا دماءهم وأموالهم- فلم تكن فتنتهم الجحود بكلام ربّ العالمين، وأسمائه، وصفاته، وما هو عليه في حقيقة ذاته، بل كانت فيما دون ذلك من الخروج عن السنة المشروعة وإن كان أهل المقالات قد نقلوا أن قول الخوارج في التوحيد هو قول الجهمية والمعتزلة، فهذا شر للجهمية، لكن يشبه -والله أعلم- أن يكون ذلك قد قاله من بقايا الخوارج من كان موجودًا حين حدوث مقالات جهم في أوائل المائة الثانية، فأما قبل ذلك فلم يكن قد حدث في الإسلام قول جهم في نفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وإنكار أن يكون الله على عرشه، ونحو ذلك، فلا يصح إضافة هذا القول إلى أحد من المسلمين قبل المائة الثانية، لا من الخوارج، ولا من غيرهم، فإن لم يكن في الإسلام إذ ذاك من يتكلم بشيء من هذه السلوب الجهمية، ولا نقل أحد عن الخوارج المعروفين -إذ ذاك- ولا عن غيرهم شيئًا من هذه المقالات الجهمية" (1).
3 -
كشف الشيخ رحمه الله موقف الذين خاضوا في فتنة القائلين بخلق القرآن عن تخبطهم وضلالهم في زعمهم الإيمان بما جاءت به الرسل، وهم ينكرون في الوقت نفسه مضمون ما جاءت به الرسل، فحقيقة قولهم إنكار صفات الله -تعالى-، ومنها كونه -سبحانه- متكلمًا بكلام قائم به، فقال:
"إن الجهمية لما أحدثت القول بأن القرآن مخلوق، ومعناه أن الله لم
(1) انظر ص: 230 - 232 من هذا الكتاب- قسم التحقيق.
يصف نفسه بالكلام أصلًا، بل حقيقته أن الله لم يتكلم ولا يتكلم كما أفصح به رأسهم الأول الجعد بن درهم، حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، لأن الخلة إنما تكون من المحبة، وعنده أن الله لا يحب شيئًا في الحقيقة، ولا يحبه شيء في الحقيقة، فلا يتخذ شيئًا خليلًا، وكذلك الكلام يمتنع عنده على الرب تعالى.
وكذلك نفت الجهمية من المعتزلة وغيرهم أن يكون لله كلام قائم به، أو إرادة قائمة به، وادعوا ما باهتوا به صريح العقل المعلوم بالضرورة أن المتكلم يكون متكلمًا بكلام يكون في غيره، وقالوا: -أيضًا- يكون مريدًا بإرادة ليست فيه ولا في غيره، أو الإرادة وصف عدمي، أو ليست غير الإرادات المخلوقة، وغير الأمر وهو الصوت المخلوق في غيره.
فكان حقيقة قولهم: التكذيب بحقيقة ما أخبرت به الرسل من كلام الله ومحبته ومشيئته، وإن كانوا قد يقرون بإطلاق الألفاظ التي أطلقتها الرسل، وهذا حال الزنادقة المنافقين، من الصابئين والمشركين، من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم، فيما أخبرت به الرسل في باب الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، بل وفيما أمرت به -أيضًا- وهم مع ذلك يقرون بكثير مما أخبرت به الرسل وتعظيم أقدارهم، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض" (1).
4 -
أنه رحمه الله أدلى بدلوه في الرد على من تولى كبر فتنة القول بخلق القرآن، فرد عليهم ردًّا منطقيًّا بإيراده لمجموعة من الأمثلة التي يستحيل معها أن المتكلم بكلام يكون قائمًا بغيره ولا يقوم به، فقال رحمه الله:
"فلما ابتدعت الجهمية هذه المقالات في أثناء المائة الثانية أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها، ثم استفحل أمرهم في أوائل المائة الثالثة بسبب ما أدخلوه في شركهم وفريتهم من ولاة الأمور، وجرت المحنة المشهودة، وكانت أئمة الهدى على ما جاءت به الرسل عن الله من أن القرآن كلام الله تكلم به هو سبحانه، وهو منه قائم به، وما كان كذلك لم يكن مخلوقًا، إنما
(1) انظر ص: 271 - 272 من هذا الكتاب- قسم التحقيق.
المخلوق ما يخلقه من الأعيان المحدثة وصفاتها، وكثير منهم يرد قول الجهمية بإطلاق القول: بأن القرآن كلام الله، لأن حقيقة قولهم: إنه ليس كلامه ولا تكلم به ولا بغيره، فإن المستقر في فطر الناس وعقولهم ولغاتهم، أن المتكلم بالكلام لا بد أن يكون به الكلام، فلا يكون متكلمًا بشيء لم يقم به بل هو قائم بغيره، كما لا يكون عالمًا بعلم قائمًا بغيره، ولا حيًّا بحياة قائمة بغيره، ولا مريدًا بإرادة قائمة بغيره، ولا محبًا ومبغضًا ولا راضيًا وساخطًا بحب وبغض ورضى وسخط قائم بغيره، ولا متألمًا ولا متنعمًا وفرحًا وضاحكًا بتألم وتنعم وفرح وضحك قائم بغيره، فكل ذلك عند الناس من العلوم الضرورية البدهية الفطرية التي لا ينازعهم فيها إلّا من أحيلت فطرته، وكذلك عندهم لا يكون آمرًا وناهيًا بأمر ونهي لا يقوم به بل يقوم بغيره، ولا يكون مخبرًا ومحدثًا ومنبئًا بخبر وحديث ونبأ لا يقوم به بل بغيره، ولا يكون حامدًا وذامًا ومادحًا ومثنيًا بحمد وذم ومدح وثناء لا يقوم به بل بغيره، ولا يكون مناجيًا ومناديًا وداعيًا بنجاء ودعاء ونداء لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره، ولا يكون واعدًا وموعدًا بوعد ووعيد لا يقوم به بل لا يقوم إلّا بغيره، ولا يكون مصدقًا ومكذبًا بتصديق وتكذيب لا يقوم به بل لا يقوم إلّا بغيره، ولا يكون حالفًا ومقسمًا وموليًا بحلف وقسم ويمين لا يقوم به إلا بغيره، بل من أظهر العلوم الفطرية الضرورية التي علمها بنو آدم وجوب قيام هذه الأمور بالموصوف بها وامتناع أنها لا تقوم به بل لا تقوم إلا بغيره، فمن قال: إن الحمد والثناء والأمر والنهي والنبأ والخبر والوعد والوعيد والحلف واليمين والمناداة والمناجاة وسائر ما يسمى ويوصف به أنواع الكلام يمتنع أن تكون قائمة بالآمر الناهي المناجي المنادي المنبيء المخبر الواعد المتواعد الحامد المثني الذي هو الله تعالى، ويجب أن تكون قائمة بغيره، فقد خالف الفطرة الضرورية المتفق عليها بين الآدميين، وبدّل لغات الخلق أجمعين ثم مع مخالفته للمعقولات واللغات فقد كذب المرسلين أجمعين، ونسبهم إلى غاية التدليس والتلبيس على المخاطبين، لأن الرسل أجمعين أخبروا أن الله أمر ونهى وقال ويقول، وقد علم بالاضطرار أن مقصودهم أن الله هو نفسه الذي