الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول حياته
اسمه ومولده:
هو شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد العليم (1) بن عبد السلام (2) بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية (3) الحراني (4) الدّمشقيُّ (5).
ولد رحمه الله بحران يوم الإثنين العاشر (6) من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة من الهجرة النبوية.
نشأته وذكر بعض صفاته:
بقي رحمه الله بحران إلى أن بلغ سبع سنين، ثم انتقل والده به
(1) أبو المحاسن شهاب الدين -الإمام العلامة- (ت: 682 هـ).
(2)
أبو البركات مجد الدين -الإمام العلامة- (ت: 652 هـ).
(3)
اختلف في علة تسمية الأسرة بـ "تيمية":
فقيل: إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيماء، فرأى هناك طفلة، فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتًا فقال: يا تيمية يا تيمية، فلقب بذلك.
وقيل: إن جده محمدًا كانت أمه تسمى تيمية، وكانت واعظة، فنسب إليها، وعرف بها.
راجع: الكواكب الدرية -للإمام مرعي الحنبلي- ص: 52.
(4)
نسبة إلى بلدة حران، موطن أسرته الأولى، شمال سوريا، وهي مدينة في تركيا اليوم.
(5)
انظر: العقود الدرية لابن عبد الهادي- ص: 2.
والبداية والنهاية -لابن كثير- 14/ 117. وجاء فيه: "ابن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر".
(6)
وقيل: الثَّاني عشر، لكن أكثر الروايات تعضد ما أثبته.
وبإخوته إلى الشام -عند ظهور التتار- فقدموا دمشق، ونشأ بها نشأة صالحة، وأنبته الله نباتًا حسنًا، وكانت ملامح النجابة ظاهرة عليه في صغره، وختم القرآن الكريم صغيرًا، ثم اشتغل بحفظ الحديث والفقه والعربية، حتَّى برع في ذلك، مع ملازمته لمجالس الذكر وسماع الأحاديث والآثار، فسمع دواوين الإسلام الكبار، كصحيح البُخاريّ ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنَّسائيُّ وابن ماجه والدارقطني، ومسند الإمام أحمد مرات عدة، وأول كتاب حفظه في الحديث "الجمع بين الصحيحين" للإمام الحميدي (1).
يقول ابن عبد الهادي -بعد ذكره لعناية الشَّيخ رحمه الله بالحديث والفقه والعربية: "وأنه تأمل كتاب سيبويه حتَّى فهم النحو، وأقبل على التفسير إقبالًا كليًّا حتَّى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك.
"وهذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه"(2).
ونقل ابن عبد الهادي عن الحافظ أبي عبد الله الذهبي أنَّه قال: "نشأ -يعني الشَّيخ تقي الدين رحمه الله في تصون تام، وعفاف وتأله وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، ويناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، فأفتى وله تسع عشرة سنة، بل أقل، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكب على الاشتغال، ومات والده -وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم- فدرس بعده بوظائفه، وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز في الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد المجلس ولا يتلعثم، وكذا كان الدرس بتؤدة وصوت جهوري فصيح"(3).
ولم يزل في ازدياد من العلوم والاشتغال بها، وبث العلم ونشره،
(1) انظر: الأعلام العلية -لأبي حفص البزار- ص: 21، 22.
(2)
انظر: العقود الدرية -لابن عبد الهادي- ص: 3.
(3)
راجع: العقود الدرية -لابن عبد الهادي- ص: 4، 5.
والاجتهاد في سبل الخير، حتَّى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم والتواضع والحلم والجلالة والمهابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد، مع الصدق والعفة وحسن القصد، ومراقبة الله والخوف منه.
وقد عقد أبو حفص البزار فصولًا في مآثره الحميدة وصفاته النبيلة.
فممَّا قاله في تعبده:
". . . قطع جل وقته وزمانه فيه، حتَّى إنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى، وما يراد له لا من أهل ولا مال، وكان في ليله منفردًا عن النَّاس كلهم، خاليًا بربه عز وجل ضارعًا مواظبًا على تلاوة القرآن العظيم، مكررًا لأنواع التعبدات الليلية والنهارية. . . "(1).
ومما قاله في ورعه:
". . . كان رضي الله عنه في الغاية التي ينتهى إليها في الورع، لأنَّ الله تعالى أجراه مدة عمره كلها عليه، فإنَّه ما خالط النَّاس في بيع ولا شراء ولا معاملة ولا تجارة ولا مشاركة ولا زراعة ولا عمارة. . . ولا كان مدخرًا دينارًا ولا درهمًا ولا متاعًا ولا طعامًا، وإنَّما كانت بضاعته مدة حياته، وميراثه بعد وفاته رضي الله عنه العلم، اقتداء بسيد المرسلين، وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. . . "(2).
ومما قاله في زهده:
". . . لقد اتفق كل من رآه، خصوصًا من أطال ملازمته أنَّه ما رأى مثله في الزهد في الدُّنيا، حتَّى لقد صار ذلك مشهورًا بحيث قد استقر في قلب القريب والبعيد من كل من سمع بصفاته على وجهها، بل لو سئل عامي من
(1) راجع: الأعلام العلية- ص: 37.
وانظر: الكواكب الدرية- للشيخ مرعي الحنبلي- ص: 83.
(2)
راجع: الأعلام العلية ص: 41.
وانظر: الكواكب الدرية -للشيخ مرعي الحنبلي- ص: 83، 84.
أهل بلد بعيد: من كان أزهد أهل هذا العصر وأكملهم في رفض فضول الدُّنيا، وأحرصهم على طلب الآخرة؟ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية. . . " (1).
ومما قاله في إيثاره، مع فقره:
". . . كان رضي الله عنه مع شدة تركه للدنيا ورفضه لها، وفقره فيها، وتقلله منها، مؤثرًا بما عساه يجده منها قليلًا كان أو كثيرًا. . . لا يحتقر القليل فيمنعه ذلك عن التصدق به، ولا الكثير فيصرفه النظر إليه عن الإسعاف به، فقد كان يتصدق، حتَّى إذا لم يجد شيئًا نزع بعض ثيابه، ممَّا يحتاج إليه، فيصل به الفقير، وكان يستفضل من قوته القليل الرغيف والرغيفين، فيؤثر بذلك على نفسه. . . "(2).
وقال في تواضعه:
"ما رأيت ولا سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للصغير والكبير. . . والغني والفقير، وكان يدني الفقير الصالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحديثه المستحلى زيادة على مثله من الأغنياء، حتَّى إنه ربما خدمه بنفسه، وأعانه بحمل حاجته، جبرًا لقلبه، وتقربًا بذلك إلى ربه.
وكان لا يسأم من يستفتيه أو يسأله، بل يقبل عليه ببشاشة وجه، ولين عريكة، ويقف معه حتَّى يكون هو الذي يفارقه. . . ولا يحرجه ولا ينفره بكلام يوحشه، بل يجيبه ويفهمه ويعرفه الخطأ من الصواب بلطف وانبساط. . . " (3).
وقال في لباسه وهيئته:
"كان رضي الله عنه متوسطًا في لباسه وهيئته، لا يلبس فاخر الثياب
(1) راجع: الأعلام العلية- ص: 44، 45.
وانظر: الكواكب الدرية -للشيخ مرعي الحنبلي- ص: 84.
(2)
راجع: الأعلام العلية- ص: 47.
وانظر: الكواكب الدرية -للشيخ مرعي الحنبلي- ص: 85.
(3)
راجع: الأعلام العلية- ص: 48، 49.
وانظر: الكواكب الدرية -للشيخ مرعي الحنبلي- ص: 88.
بحيث يرمق ويمد إليه النظر فيها، ولا أطمارًا (1)، ولا غليظة تشهر حال لابسها ويميز من عامة النَّاس بصفة خاصة يراه النَّاس فيها، بل كان لباسه وهيئته كغالب النَّاس ومتوسطهم، ولم يكن يلزم نوعًا واحدًا من اللباس فلا يلبس غيره. كان يلبس ما اتفق وحصل، ويأكل ما حضر، وكانت بذاذة (2) الإيمان عليه ظاهرة، لا يرى متصنعًا في عمامة، ولا لباس، ولا مشية، ولا قيام، ولا جلوس، ولا يتهيأ لأحد يلقاه، ولا لمن يرد عليه من بلد. . . " (3).
وقال في كرمه:
"كان رضي الله عنه مجبولًا على الكرم، لا يتطبعه ولا يتصنعه، بل هو له سجية. . . وكان لا يرد من يسأله شيئًا يقدر عليه من دراهم ولا دنانير، ولا ثياب ولا كتب ولا غير ذلك، بل ربما كان يسأله بعض الفقراء شيئًا من النفقة، فإن كان حينئذ متعذرًا لا يدعه يذهب بلا شيء، بل كان يعمد إلى شيء من لباسه فيدفعه إليه، وكان ذلك المشهور عند النَّاس من حاله. . . "(4).
ومما قاله في شجاعته وجهاده:
"كان من أشجع النَّاس، وأقواهم قلبًا، ما رأيت أحدًا أثبت جأشًا منه، ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه، كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم.
أخبر غير واحد أن الشَّيخ رضي الله عنه كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم أوقفهم، وقطب ثباتهم، إن رأى من بعضهم
(1) الأطمار: جمع طمر- بالكسر، وهو الثوب الخلق.
انظر: مختار الصحاح -لابن أبي بكر الرازي- ص: 397 (طمر).
(2)
قال ابن الأثير في "النهاية" 1/ 110: "البذاذة رثاثة الهيئة، يقال: بذّ الهيئة وباذ الهيئة: أي رث اللبسة. أراد التواضع في اللباس وترك التبجح به".
(3)
الأعلام العلية- ص: 51.
وانظر: الكواكب الدرية لمرعي الحنبلي- 87.
(4)
الأعلام العلية- ص: 59.
وانظر: الكواكب الدرية -لمرعي الحنبلي- ص: 86.
هلعًا أو رقة وجبانة شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر والظفر والغنمية، وبين له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة، وكان إذا ركب الخيل يتحنك ويجول في العدو كأعظم الشجعان ويقوم كأثبت الفرسان، ويكبر تكبيرًا أنكى في العدو من كثير من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت. . . " (1).
* * *
(1) الأعلام العلية- ص: 63.
وانظر: الكواكب الدرية -لمرعي الحنبلي- ص: 91، 92.