الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأقوال التي تسمى العقليات غايتها أن (يجهد)(1) فيها (2) أصحابها عقولهم وآراءهم (3).
و
القول باجتهاد الرأي، وإن اعتقد صاحبه أنه عقلي، مقطوع به لا يحتمل النقيض، فإنه قد يكون غير مقطوع به
، وإن اعتقد هو أنه مقطوع به، فإن هذا من أكثر ما يوجد بينهم من أقوال يقول أصحابها: إنه مقطوع بها في العقل، وتكون بخلاف ذلك، حتى إن الواحد منهم هو الذي يقول في القول: إنه مقطوع به، ويقول فيه تارة أخرى: إنه باطل.
وإذا لم يكن مقطوعًا به، فقد يكون مظنونًا غير معلوم الصحة والفساد، وقد يكون خطأ معلوم الفساد أو مظنونه، وقد يكون مشكوكًا فيه.
فعامة هذه الأقوال المتنازع فيها التي يقول قائلها: إنها مقطوع بها تعتورها (4) هذه الاحتمالات: عدم (5) القطع بها، بل ظنها والشك فيها وظن نقيضها، والقطع بنقيضها، ثم غاية ما يقدر أن يكون (6) صوابًا معلومًا أنها صواب عند صاحبها، فليس كل ما كان كذلك يجب على جميع المسلمين (7) اعتقاده، إذ (8) طرق العلم بذلك قد تكون خفية مشتبهة، فلا يجب التكليف بموجبها لجميع المؤمنين، ولو كانت عقلية (9) ظاهرة معلومة بأدنى نظر، لم يجب في كل ما كان كذلك أن
(1) في الأصل، س:"يجتهد"، وقد أثبت ما رأيته الصواب من: ط.
(2)
في س: "منها".
(3)
في ط: "وآرائهم".
(4)
في الأصل: "تواترها"، وأثبت ما رأيته الصواب من: س، ط. والمعنى: تتداولها.
(5)
في ط: "وعدم".
(6)
في س، ط:"أن يكون".
(7)
في س، ط:"المؤمنين".
(8)
في الأصل: "إذا"، وأثبت المناسب من: س، ط.
(9)
في س: "عقيله" وهو خطأ.
يكون اعتقاده واجبًا على كل المؤمنين، مثل كثير من مسائل الطب (1) والهيئة وغير ذلك، فهذه ثلاث مقدمات عظيمة:
أحدها: أنه ليس ما اعتقد قائله: أنه حق مقطوع به معلوم بالعقل أو بالشرع يكون كذلك.
والثانية: أنه ليس ما علم الواحد أنه حق مقطوع به عنده، يجب اعتقاده على جميع الناس.
الثالثة (2): أنه ليس ما كان معلومًا مقطوعًا به بأدنى نظر يجب اعتقاده، وإذا كان كذلك فغاية ما يبين من يوجب هذه المقالات أنها حق مقطوع به عقلي معلوم بأدنى نظر، وإذا كان مع هذا لا يجب اعتقاد ذلك على المكلفين حتى يعلم وجوب ذلك بالأدلة الشرعية التي يعلم بها الوجوب، لم يكن له أن يوجب على الناس هذا الاعتقاد، ويعاقب تاركيه حتى يبين أن الشارع أوجب ذلك على الناس على هذا الوجه، وهذا مما لم يذكروه ولا سبيل إليه، فكيف والأمر بالعكس عند من يبين أن ما قالوه خطأ، مخالف للعقل الصريح وللنقل الصحيح معلوم الفساد بضرورة العقل، ونظره مخالف للكتاب وللسنة (3) وإجماع سلف الأمة، وإن الشارع أخبر بنقيضه وأوجب اعتقاد ضده.
الوجه التاسع:
أنه لا ريب أن من لقي الله بالإيمان بجميع ما جاء به الرسول مجملًا مقرًا بما بلغه من تفصيل الجملة، غير جاحد لشيء من تفاصيلها، أنه يكون بذلك من المؤمنين، إذ الإيمان بكل فرد من تفصيل ما أخبر به الرسول وأمر به غير مقدور للعباد، إذ لا يوجد أحد إلّا وقد خفي عليه
(1) في س: "الطلب".
(2)
في س، ط:"الثالث".
(3)
في ط: "الكتاب والسنة".
بعض ما قاله الرسول، ولهذا يسع الإنسان في مقالات كثيرة ألّا (1) يقر فيها بأحد النقيضين، لا (2) ينفيها ولا يثبتها إذا لم يبلغه أن الرسول نفاها، أو أثبتها، ويسع الإنسان (3) السكوت عن النقيضين في أقوال كثيرة، إذا لم يقم دليل شرعي بوجوب قول أحدهما.
أما إذا كان أحد القولين هو الذي قاله الرسول دون الآخر، فهنا يكون السكوت عن هذا (4) وكتمانه من باب كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب، ومن باب كتمان شهادة عند (5) العبد من الله، وفي كتمان العلم النبوي من الذم واللعنة لكاتمه ما يضيق عنه هذا الموضع (6).
وكذلك إذا كان أحد القولين متضمنًا لنقيض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والآخر لا يتضمن مناقضة الرسول، لم يجز السكوت عنهما جميعًا، بل يجب نفي القول المتضمن لمناقضة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا أنكر الأئمة على الواقفة (7) في مواضع كثيرة حين تنازع الناس، فقال قوم بموجب السنة،
(1) في س، ط:"لا".
(2)
في الأصل: "إلا"، وقد أثبت الأقرب لفهم المعنى من: س، ط.
(3)
"الإنسان" ساقطة من: س.
(4)
في س، ط:"ذلك".
(5)
"عند": ساقطة من: س، ط.
(6)
تقدم في ص: 153، 154 ذكر بعض الآيات والأحاديث التي تدل على ما ذكره الشيخ رحمه الله فليرجع إليه.
(7)
الواقفة: أطلق أبو سعيد الدارمي، هذا الاسم على ناس -ممن كتبوا العلم بزعمهم، وادعوا معرفته- وقفوا في القرآن، فقالوا: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، ونسبوا إلى البدعة من خالفهم. وقد رد عليهم رحمهم الله قولهم هذا، وبين بطلانه وبعده عن الصواب في باب أفرده ذلك، فقال:"باب الاحتجاج على الواقفة".
راجع: الرد على الجهمية ص: 102.
وشيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله يطلق هذا الاسم على من توقف في =
وقال قوم بخلاف السنة، وتوقف قوم فأنكروا على الواقفة، كالواقفة الذين قالوا: لا نقول القرآن مخلوق، ولا نقول: إنه غير مخلوق، هذا مع أن كثيرًا من الواقفة يكون في الباطن مضمرًا للقول المخالف للسنة، ولكن يظهر الوقف نفاقًا ومصانعة، فمثل هذا موجود.
أما القول الذي لا يوجد في كلام الله ورسوله، لا منصوصًا ولا مستنبطًا، بل يوجد في الكتاب والسنة مما يناقضه ما لا يحصيه إلّا الله، فكيف يجب على المؤمنين -عامة أو خاصة- اعتقاده، ويجعل ذلك محنة لهم؟
ومن المعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة ولا في كلام أحد من سلف الأمة ما يدل -نصًّا ولا استنباطًا- على أن الله ليس فوق العرش، وأنه ليس فوق (1) المخلوقات، وأنه ما فوق العالم رب يعبد، ولا على العرش إله يدعى ويقصد، وما هناك إلّا العلم المحض، وسواء سمى ثبوت هذا المعنى قولًا بالجهة والتحيز (2) أو لم يسم، فتنوع العبارات لا يضر إذا عرف المعنى المقصود، وإذا كان هذا المعنى ليس مما جاء به
= الحكم على الشيء، لا نفيًا ولا إثباثًا، وقد أشار إليهم، فذكر أنهم الذين يجوزون إثبات صفات زائدة، لكنهم يقولون: لم يقم الدليل عندنا على نفي ذلك ولا إثباته، ثم بين رحمه الله أن هذه طريقة محققي من لم يثبت الصفات الخبرية، وهذا اختيار الرازي والآمدي وغيرهما.
راجع: درء تعارض العقل والنقل- 3/ 383.
وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل، أن أباه سئل عن الواقفة فقال:"من كان منهم يخاصم ويعرف بالكلام، فهو جهمي، ومن لم يكن يعرف بالكلام، يجانب حتى يرجع، ومن لم يكن له علم يسأل يتعلم".
راجع: كتاب السنة -لعبد الله بن أحمد بن حنبل- ص: 43.
(1)
في الأصل: "في" وهو خطأ، والمثبت من: س، ط.
(2)
تقدم أن الشيخ رحمه الله بين أن إطلاق هذا اللفظ نفيا وإثباتًا بدعة، وأنه ليس في كلامه إثباته.
الرسول، كان الإعراض عنه -ولو كان حقًّا- جائزًا، بحيث لو لم يعتقد الرجل فيه نفيًا ولا إثباتًا، لم يؤمر بأحدهما.
وقد بسطنا الكلام فيما يذكر لهذا القول من الدلائل السمعية والعقلية في مواضع منها الكلام على ما ذكره أبو عبد الله الرازي (1)، في كتابه الذي سماه:"تأسيس التقديس"(2)، وكتابه "نهاية العقول في دراية الأصول"(3)، وغير ذلك، إذا كان قد جمع في ذلك غاية ما يقوله
(1) هو: أبو عبد الله محمَّد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميمي البكري الطبرستاني الرازي، الملقب بفخر الدين الرازي المعروف بابن الخطيب الشافعي، فيه تجهم قوي، لكن يقال: إنه رجع في آخر عمره، له تصانيف كثيرة في فنون مختلفة منها في علم الكلام "المطالب العالية" و"الأربعين" و"المحصل" وغيرها، ولد سنة 544 هـ، وتوفي سنة 606 هـ.
راجع: وفيات الأعيان -لابن خلكان 4/ 248 - 252. وسير أعلام النبلاء -للذهبي 21/ 500 - 501. والوافي بالوفيات -للصفدي 4/ 248 - 259.
وشذرات الذهب -لابن العماد 5/ 21 - 22.
(2)
ألفه الرازي للملك العادل سيف الدين أبي بكر أيوب، وأرسله إليه هدية.
راجع: أساس التقديس - للرازي ص: 3. وكشف الظنون -لحاجي خليفة - 1/ 333. وبيان تلبيس الجهمية -لابن تيمية 1/ 3.
والكتاب جمع فيه مؤلفه عامة حجج الجهمية، وتكلم فيه على تأسيس أصولهم، يقول عنهم شيخ الإِسلام:"لم أر لهم مثله. . . ". وقد نقض الشيخ رحمه الله هذه الحجج، ودحض شبههم العقلية، وأبطل تأويلاتهم للأدلة السمعية راجع: مجموع الفتاوى 6/ 289.
ونقض تأسيس الجهمية، أو بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية / ط- مطبعة الحكومة 1391 هـ في مجلدين كبيرين بتعليق: محمد بن عبد الرحمن القاسم.
(3)
ذكره حاجي خليفة، فقال:"نهاية العقول في الكلام في دراية الأصول" يعني أصول الدين. . . ورتبة على عشرين أصلًا.
راجع: كشف الظنون -لحاجي خليفة- 2/ 1988.
والكتاب لا زال مخطوطًا -في دار الكتب بمصر- تحت رقم 748 - توحيد- =
الأولون والآخرون من حجج النفاة، (1) الذين يقولون: إن الله ليس في جهة ولا حيز، فليس هو (2) على العرش ولا فوق العالم.
الوجه العاشر:
أن قولهم: الذي نطلب (3) منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز، لا يخلو: إما أن يتضمن هذا نفي كون الله على العرش، وكونه فوق العالم، بحيث يقال: إنه ما فوق العالم رب ولا إله، أو ما هناك (4) شيء موجود، وما هناك (5) إلّا العدم الذي ليس بشيء، أو لا يتضمن هذا الكلام نفي ذلك، فإن كان هذا الكلام لم يتضمن نفي ذلك كان النزاع لفظيًّا، وأنا ليس في شيء من كلامي -قط- إثبات الجهة والتحيز لله مطلقا حتى يقال: نطلب منه نفي ما قاله أو أطلقه من اللفظ، بل كلامي فيه ألفاظ القرآن والحديث وألفاظ سلف الأمة، ومن نقل مذاهبهم، أو التعبير عن ذلك تارة بالمعنى المطابق الذي يعلم المستمع أنه موافق لمعناهم
= ولم يطبع فيما أعلم، ولم يذكره سزكين في تاريخ التراث العربي.
وقد ذكر شيخ الإِسلام أن هذا الكتاب من أجل كتب الرازي الكلامية، وأن مؤلفه ذكر أنه أورد فيه من الحقائق والدقائق ما لا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين، والسابقين واللاحقين، من الموافقين والمخالفين ووصفه بصفات تطول.
ثم بين الشيخ رحمه الله أن الرازي غالب مادته في كلام المعتزلة والفلاسفة والأشاعرة ما يجده في كتبهم، فكتبه تدل على أنه لم يكن يعرف ما فيها.
راجع: درء تعارض العقل والنقل 2/ 157 - 159.
(1)
في ط: "الثقات" وهو خطأ.
(2)
في س، ط:"هذا".
(3)
في س: "يطلب".
(4)
في س، ط:"هنالك".
(5)
في س: "هنالك".
وما يذكرون (1) من الألفاظ المجملة، فإني أبينه وأفصله؛ لأن أهل الأهواء، كما قال الإِمام أحمد (2) فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية (3) فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولت غير تأويله، قال:
"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح (4) أثر الناس عليهم.
ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان (5) الفتنة، فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب (6)، مجتمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من (7) الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين (8).
فقد أخبر أن أهل البدع والأهواء يتكلمون بالمتشابه من الكلام،
(1) في الأصل، ط:"بذكر" والمثبت من: س.
(2)
راجع: الرد على الجهمية والزنادقة -للإمام أحمد ص: 85.
(3)
تقدم الكلام على هذا الكتاب الجليل للإمام أحمد الذي يرد فيه على القائلين بخلق القرآن، ويجادلون في رؤية الله، ويشككون في أفعال العباد.
(4)
في الرد على الجهمية والزنادقة: "وأقبح".
(5)
في الرد على الجهمية: "عقال".
(6)
في الرد على الجهمية: "فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون. . . ".
(7)
في الأصل: "في" والمثبت من: س، ط، والرد على الجهمية.
(8)
في الرد على الجهمية: "الضالين".
وهو نهاية كلام الإِمام أحمد رضي الله عنه.
ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، وذلك مثل قولهم: ليس بمتحيز ولا في جهة، ولا كذا ولا كذا، فإن هذه ألفاظ مجملة متشابهة يمكن تفسيرها بوجه حق، ويمكن تفسيرها بوجه باطل، فالمطلقون لها يوهمون عامة المسلمين أن مقصودهم تنزيه الله عن أن يكون محصورًا في بعض المخلوقات، ويفترون الكذب على أهل الإثبات، إنهم يقولون ذلك يقول بعض قضاتهم (1) لبعض الأمراء: إنهم يقولون: إن الله في هذه الزاوية. وقول آخر من طواغيتهم: إنهم يقولون: إن الله في حشو السموات، ولهذا سموا حشوية (2)، إلى أمثال هذه الأكاذيب التي
(1) لعل الشيخ رحمه الله يشير إلى القاضي ابن دؤاد.
يقول الشيخ رحمه الله مشيرًا إلى هذا المعنى: "فإن كثيرًا من النفاة وإن كان مشهورًا عند الناس بعلم أو مشيخة أو قضاء أو تصنيف، قد يظن أن قول من قال: إنه في السماء أو في جهة، معناه أن السموات تحيط به وتحوزه، وكذلك إذا قال: متحيز. يظن أن معناه التحيز اللغوي، وهو كونه تحيز في بعض مخلوقاته، حتى ينقلون ذلك عن منازعهم، إما عمدًا، أو خطأ، وربما صغروا الحيز حتى يقولوا: إن الله في هذه البقعة، أو هذا الموضع، أو نحو ذلك من الأكاذيب".
راجع:
بيان تلبيس الجهمية 2/ 13.
(2)
الحشو من الكلام: الفضل الذي لا يعتمد عليه، وكذلك هو من الناس، وحشوة الناس: رُذالَتُهم.
انظر: لسان العرب -لابن منظور- 14/ 180 (حشا).
وهذه التسمية أول من ابتدعها المعتزلة، فإنهم يسمون الجماعة والسواد الأعظم: الحشو، كما تسميهم الرافضة: الجمهور، ولفظ "حشوية" -كما يقول شيخ الإِسلام- ليس له مسمى معروف لا في الشرع، ولا في اللغة، ولا في العرف العام، ولكن يذكر أن أول من تكلم بهذا اللفظ: عمرو بن عبيد -رئيس المعتزلة- فإنه ذكر له عن ابن عمر شيء يخالف قوله، فقال: كان ابن عمر حشويا، نسبة إلى الحشو، وهم العامة والجمهور، وأصل ذلك أن كل طائفة قالت قولًا تخالف به الجمهور والعامة ينسب إلى أنه قول "الحشوية" =
يفترونها على أهل الإثبات، ثم يأتون بلفظ مجمل متشابه يصلح لنفي هذا المعنى الباطل، ولنفي ما هو حق، فيطلقونه فيخدعون بذلك جهال الناس، فإذا وقع الاستفصال والاستفسار، انكشفت الأسرار، وتبين الليل من النهار، وتميز أهل الإيمان واليقين من أهل النفاق المدلسين، الذين لبسوا الحق بالباطل، وكتموا الحق وهم يعلمون.
فالمقصود أن قائل هذا القول إن لم يرد به نفي علو الله على عرشه وأنه فوق خلقه (1)، لم ينازع من المعنى الذي أراده، ولكن لفظه ليس بدال على ذلك، بل هو مفهم أو موهم لنفي ذلك، فعليه أن يقول: لست أقصد بنفي الجهة والتحيز نفي (2) أن يكون الله فوق عرشه، وفوق خلقه، وحينئذ فيوافقه أهل الإثبات على نفي الجهة والتحيز بهذا التفسير بعد استفصاله وتقييد كلامه بما يزيل الالتباس.
أما إن تضمن هذا الكلام أن الله ليس على العرش ولا فوق العالم، فليصرح بذلك تصريحًا بينًا حتى يفهم المؤمنون قوله وكلامه، ويعلموا مقصوده ومرامه، فإذا كشف للمسلمين حقيقة هذا القول، وأن مضمونه: أنه ليس فوق السماوات (3) رب، ولا على العرش إله، وأن
= أي: الذين هم حشو في الناس ليسوا من المتأهلين عندهم.
فالمعتزلة تسمي من أثبت القدر حشويا، والجهمية تسمي مثبتة الصفات حشوية والقرامطة الباطنية تسمي من أوجب الصلاة والزكاة والصيام والحج حشويًّا، والفلاسفة تسمي من أقر بالمعاد الجسمي والنعيم الحسي حشويًّا، فعند هذه الطوائف الإِمام أحمد رحمه الله وأتباعه من أهل السنة حشوية.
راجع: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام 12/ 176. وبيان تلبيس الجهمية -لابن تيمية 1/ 240 - 244. والعقود الدرية -لابن عبد الهادي ص: 238. ومختصر منهاج السنة النبوية -للذهبي ص: 93.
(1)
في الأصل: "عرشه" وقد أثبت ما رأيته مناسبًا من: س، ط.
(2)
في س: "والتحيز بهذا نفي".
(3)
في الأصل: "العرش"، والمثبت من: س، ط.
الملائكة لا تعرج إلى الله، ولا تصعد إليه، ولا تنزل من عنده، وأن عيسى لم يرفع إليه ومحمد لم يعرج (1) به إليه، وأن العباد لا يتوجهون بقلوبهم إلى إله هناك يدعونه ويقصدونه، ولا يرفعون أيديهم من دعائهم إليه، فحينئذ ينكشف للناس حقيقة هذا الكلام، ويظهر الضوء من الظلام.
ومن المعلوم أن قائل ذلك لا يجترئ أن يقوله في ملأ من المؤمنين، وإنما يقوله بين إخوانه من المنافقين (2)، الذين إذا اجتمعوا يتناجون، وإذا افترقوا يتهاجون، وهم وإن زعموا أنهم أهل المعرفة المحققين، فقد شابهوا من سبق من إخوانهم المنافقين، قال الله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} (3) إلى قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (4)، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} (5) إلى قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} .
(1) الكلام عن الإسراء والمعراج وتعريفهما وحقيقتهما: تقدم الكلام عليهما ص: 115.
(2)
المنافقون: جمع منافق، وفعله: نفاق.
والنفاق لغة: مصدر نفق، وهو مشتق من نافقاء اليربوع، موضع يرققه من جحره، فإذا أوذي من قبل القاصعاء وضرب النافقاء برأسه فخرج، فهو يظهر أحدهما ويخفي الآخر.
وعلى هذا عرف النفاق بأنه: إظهار الإيمان وكتمان الكفر، أو الدخول في الإِسلام من وجه، والخروج عنه من وجه آخر.
راجع: لسان العرب -لابن منظور- 10/ 358، 359 (نفق). وتاج العروس -للزبيدي- 7/ 79 (نفق). والتعريفات -للجرجاني- ص:245.
(3)
سورة البقرة، الآيات: 13 - 15.
(4)
في: س، ط:(ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالًا بعيدًا).
(5)
سورة النساء، الآيتان: 60 - 62.
ولا ريب أن كثيرًا من هؤلاء قد لا يعلم أنه منافق، بل يكون معه أصل الإيمان، لكن يلتبس عليه أمر المنافقين، حتى يصير لهم من السماعين، قال تعالى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (1)، وكان المعلوم أن كلام أهل الإفك (2) في عائشة (3)، كان مبدؤه من المنافقين، وتلطخ به طائفة
(1) سورة التوبة، الآية:47.
(2)
المنافقون لم تسترح نفوسهم من الكيد للإسلام والمسلمين، حتى استهدفوا صاحب الرسالة محمدًا عليه السلام فرموه في عرضه في عائشة أم المؤمنين بنت الصديق، وروجوا ارتكابها فاحشة الزنى التي هي من أقبح الجرائم وأشنعها، وكان الذي تولى كبر هذه التهمة وزعامتها، وأشاع الإفك المفترى، رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، والذي ما فتئ يكيد للإسلام وأهله حتى أهلكه الله.
وقد أنزل الله تعالى في شأن هذا المنافق وغيره من المنافقين قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، ليكون ذلك درسًا وعبرة للأمة الإِسلامية لتعرف من خلاله خطر النفاق والمنافقين وضررهم عليها، كما أنزل الله براءة أم المؤمنين مما رميت به.
والآيات الكريمة تبتدئ من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. . .} وتنتهي بقوله تعالى: {. . . أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سورة النور، الآيات: 11 - 26].
والقصة وتفاصيلها معروفة، رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما مطولة، ولذا أكتفي هنا بالإحالة عليهما:
البخاري: 6/ 5 - تفسير سورة النور- باب قوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا. . .} إلى قوله: {. . . لكَاذِبُونَ} .
مسلم: 4/ 2129 - كتاب التوبة- باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.
(3)
هي: أم عبد الله عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أفقه نساء المسلمين، وأعلمهن بالدين والأدب، روي عنها (2210) حديثًا فهي أكثر نساء النبي عليه السلام رواية للحديث عنه، توفيت بالمدينة سنة 58 هـ، رضي الله عنها.
راجع: الطبقات الكبرى -لابن سعد 8/ 58 - 81. والإصابة في تمييز الصحابة =
من المؤمنين، وهكذا كثير من البدع، كالرفض والتجهم مبدؤها من المنافقين، وتلوث ببعضها كثير من المؤمنين، لكن كان فيهم من نقص (1) الإيمان بقدر ما شاركوا فيه أهل النفاق والبهتان (2).
الوجه الحادي عشر:
أنهم (3) إذا بينوا مقصودهم -كما يصرح به أئمتهم وطواغيتهم- من أنه ليس فوق العرش رب، ولا فوق العالم موجود، فضلًا عن أن يكون فوقه واجب الوجود.
فيقال لهم: هذا معلوم الفساد بالضرورة، بالفطرة (4) العقلية، وبالأدلة النظرية العقلية، وبالضرورة الإيمانية السمعية الشرعية، وبالنقول المتواترة المعنوية عن خير البرية، وبدلالة القرآن على ذلك من آيات تبلغ "مئين"(5)، وبالأحاديث المتلقاة بالقبول من علماء الأئمة في جميع القرون وبما اتفق عليه سلف الأمة، وأهل الهدى من أئمتها، وبما اتفق عليه الأمم بجبلتها وفطرتها، وما يذكر في خلاف ذلك من الشبه،
= -لابن حجر 4/ 359 - 361. وأعلام النساء - عمر رضا كحالة 3/ 9 - 131.
(1)
في ط: "نقض" وهو خطأ.
والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، هذا هو مذهب السلف الصالح -رضوان الله عليهم- وسوف نتحدث عن هذه المسألة، ونبين الرأي المخالف عند الكلام علي حقيقة الإيمان.
(2)
في س: "والبهتان أنهم" وهو تصحيف.
(3)
في الأصل: "أنه"، والمثبت من: س، ط، ولعله المناسب.
(4)
في جميع النسخ: "الفطرة" ولعل ما أثبت يكون مناسبًا للكلام.
(5)
في الأصل: س "مائتين" ولعل الصواب ما أثبته من (ط).
يقول شيخ الإِسلام: "قال بعض كبار أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد، تدل على أن الله عال على الخلق، وأنه فوق عباده".
وقال غيره: فيه ثلاثمائة دليل تدل على ذلك. .
راجع: مجموع فتاوى ابن تيمية 5/ 226.