المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأصل الذي تفرع منه نزاع الناس في مسألة الكلام - التسعينية - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد

- ‌الباب الأول المؤلف حياته وعصره

- ‌الفصل الأول حياته

- ‌اسمه ومولده:

- ‌نشأته وذكر بعض صفاته:

- ‌الفصل الثَّاني عصره

- ‌الناحية السياسية

- ‌الناحية الاجتماعية:

- ‌الناحية العلمية:

- ‌الفصل الثالث‌‌ محنته

- ‌ محنته

- ‌وفاته:

- ‌الباب الثاني كتابه التسعينية ودراسة بعض مسائله

- ‌الفصل الأول التعريف بالكتاب

- ‌سبب تأليفه:

- ‌تسميته:

- ‌سبب التسمية:

- ‌نسبته إلى المؤلف:

- ‌تاريخ تأليفه:

- ‌منهج المؤلف في الكتاب:

- ‌نسخ الكتاب:

- ‌النسخة الأولى:

- ‌النسخة الثانية:

- ‌النسخة الثالثة:

- ‌عملي في الكتاب، وبيان المنهج الذي سلكته في تحقيقه:

- ‌الفصل الثاني دراسة بعض مسائله

- ‌فتنة القول بخلق القرآن:

- ‌مسألة كلام الله تعالى:

- ‌الأصل الذي تفرع منه نزاع الناس في مسألة الكلام

- ‌نماذج مصورة من النسخ المخطوطة

- ‌ خطبة الحاجة

- ‌الوجه الثامن:إن هذا خلاف إجماع سلف الأمة وأئمتها

- ‌الوجه الخامس عشر:إن القول الذي قالوه إن لم يكن حقًّا يجب اعتقاده لم يجز الإلزام به

- ‌الوجه الثاني:أن الله نزه نفسه في كتابه عن النقائص، تارة بنفيها، وتارة بإثبات أضدادها

- ‌الوجه السادس:أنه لو فرض جواز التقليد أو وجوبه في مثل هذا، لكان لمن يسوغ تقليده في الدين كالأئمة المشهورين

- ‌الوجه السابع:أن هذا القول لو فرض أنه حق معلوم بالعقل لم يجب اعتقاده بمجرد ذلك

- ‌القول باجتهاد الرأي، وإن اعتقد صاحبه أنه عقلي، مقطوع به لا يحتمل النقيض، فإنه قد يكون غير مقطوع به

- ‌الوجه الثاني عشر:أن لفظ الجهة عند من قاله، إما أن يكون معناه وجوديًّا أو عدميًّا

- ‌ التحيز الذي يعنيه المتكلمون

- ‌ قول القائل: إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة، وقوله: إنه معنى قائم به بدعة

- ‌ مسألة القرآن وقع فيها بين السلف والخلف من الاضطراب والنزاع ما لم يقع نظيره في مسألة العلو والارتفاع

- ‌من أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية وغيرهم، قصورهم في مناظرة الكفار والمشركين

- ‌ الأصل الذي ضل به جهم وشيعته

- ‌ النزاع في مسألة الحرف والصوت

- ‌ قول عبد الله بن كلاب

الفصل: ‌الأصل الذي تفرع منه نزاع الناس في مسألة الكلام

‌الأصل الذي تفرع منه نزاع الناس في مسألة الكلام

الشيخ رحمه الله بين في هذا الكتاب وفي غيره من مؤلفاته أن الأصل الذي تفرع منه نزاع الناس في هذه المسألة "هو الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، وهو الكلام في المشتبه المشتمل على حق وباطل، فيه ما يوافق العقل والسمع، وفيه ما يخالف العقل والسمع، فيأخذ هؤلاء جانب النفي المشتمل على نفي الحق والباطل، وهؤلاء جانب الإثبات المشتمل على إثبات حق وباطل، وجماعه هو الكلام المخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف، فكل كلام خالف ذلك فهو باطل، ولا يخالف ذلك إلا كلام مخالف للعقل والسمع.

وذلك أنه لما تناظروا في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع، استدلت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف أهل الكلام على ذلك بأن ما يخلو عن الحوادث فهو حادث.

ثم إن المستدلين بذلك على حدوث الأجسام، قالوا: إن الأجسام لا تخلوا عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.

ثم تنوعت طرقهم في المقدمة الأولى:

فتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون، وهما حادثان.

وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الاجتماع والافتراق، وهما حادثان.

وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الأكوان الأربعة: الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون، وهي حادثة.

وهذه طرق المعتزلة ومن وافقهم على أن الأجسام لا تخلو عن بعض الأعراض.

ص: 90

وتارة يثبتونها بأن الجسم لا يخلو من كل جنس من الأعراض عن عرض منه، ويقولون: القابل للشيء لا يخلو منه وعن ضده.

ويقولون: إن الأعراض يمتنع بقاؤها، لأن العرض لا يبقى زمانين، وهذه الطريقة هي التي اختارها الآمدي (1)، وزيف ما سواها، وذكر أن جمهور أصحابه اعتمدوا عليها (2).

وقد وافقهم عليها طائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة، كالقاضي أبي يعلى (3)، وأبي المعالي الجويني (4)، وأبي الوليد الباجي (5)، وأمثالهم (6).

وقد تكلم أبو المعالي الجويني على هذا الأصل في موضعين من كتابه الإرشاد:

الموضع الأول (7):

في مسألة حدوث العالم، حيث استدل بدليل الأعراض المشهور، وهو أن الجسم لا يخلو من الأعراض، وما لا يخلو عنها فهو حادث، وهو الدليل الذي اعتمدت عليه المعتزلة قبله، وذمه الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر (8)، وبين أنه ليس من طرق الأنبياء وأتباعهم.

وهذ الدليل الذي استدل به الجويني مبني على إثبات أربع مقدمات:

(1) له ترجمة في قسم التحقيق.

(2)

انظر: اختيار الآمدي لهذه الطريقة، وزيفه لما سواها في أبكار الأفكار -مخطوط- اللوحة 170، 171.

(3)

له ترجمة في قسم التحقيق.

(4)

له ترجمة في قسم التحقيق.

(5)

له ترجمة في قسم التحقيق.

(6)

مجموع الفتاوى -لابن تيمية- 12/ 140، 141.

وانظر: قسم التحقيق- ص: 483.

(7)

انظر كلامه عن هذا الموضع في ص: 127 - 139 من قسم التحقيق.

(8)

انظر: أصول أهل السنة والجماعة المسماة برسالة أهل الثغر -لأبي الحسن الأشعري- ص: 54 - 58.

ص: 91

- إثبات الأعراض.

- إثبات حدوثها.

- إثبات استحالة تعري الجواهر عن الأعراض.

- إثبات استحالة حوادث لا أول لها.

والشيخ رحمه الله كثيرًا ما يتعرض لهذه المقدمات بالنقد والمناقشة في هذا الكتاب (1).

الموضع الثاني (2):

فقد قرر فيه أن مما يخالف الجوهر فيه حكم الإله: قبول الأعراض، وصحة الاتصاف بالحوادث، والرب يتقدس عن قبول الحوادث.

وقد بين الشيخ رحمه الله ما في كلام الجويني هذا من مجانبة للصواب (3).

أما "الهشامية" و"الكرامية" وغيرهم من الطوائف الذين يقولون بحدوث كل جسم، ويقولون: إن القديم تقوم به الحوادث، فهؤلاء إذا قالوا بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، كما هو قول الكرامية وغيرهم موافقة للمعتزلة في هذا الأصل، فإنهم يقولون: إن الجسم القديم لا يخلو عن الحوادث، بخلاف الأجسام المحدثة، فإنها لا تخلو عن الحوادث.

والناس متنازعون في السكون، هل هو أمر وجودي أو عدمي؟

فمن قال: إنه وجودي، قال: إن الجسم الذي لا يخلو عن الحركة والسكون إذا انتفت عنه الحركة قام به السكون الوجودي، وهذا قول من يحتج بتعاقب الحركة والسكون على حدوث المتصف بذلك.

(1) انظر قسم التحقيق ص: 720 - 726.

ودرء التعارض العقل والنقل -لابن تيمية- 2/ 188 - 193.

(2)

انظر: الإرشاد للجويني- ص: 44 وما بعدها.

(3)

انظر: قسم التحقيق ص: 603 فما بعدها.

ودرء تعارض العقل والنقل -لابن تيمية- 2/ 193 - 197.

ص: 92

ومن قال: إنه عدمي: لم يلزم من عدم الحركة عن المحل ثبوت سكون وجودي.

فمن قال: إنه تقوم به الحركة أو الحوادث بعد أن لم تكن، مع قوله بامتناع تعاقب الحوادث، كما هو قول الكرامية وغيرهم، يقولون: إذا قامت به الحركة لم يعدم بقيامها سكون وجودي، بل ذلك عندهم بمنزلة قولهم مع المعتزلة والأشعرية وغيرهم إنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلًا ولا يقولون: إن عدم الفعل أمر وجودي، كذلك الحركة عند هؤلاء.

وكان كثير من أهل الكلام يقولون: ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، بناء على أن هذه مقدمة ظاهرة، فإن ما لا يسبق الحادث فلا بد أن يقارنه أو يكون بعده وما قارن الحادث فهو حادث، وما كان بعده فهو حادث (1).

وهذا الكلام كما يقول الشيخ رحمه الله مجمل.

فإن أريد به ما لا يخلو عن الحادث المعين، أو ما لا يسبق الحادث المعين، فهو حق بلا ريب، ولا نزاع فيه، وكذلك إذا أريد بالحادث جملة ما له أول، أو ما كان بعد العدم ونحو ذلك.

وأما إذا أريد بالحوادث الأمور التي تكون شيئًا بعد شيء لا إلى أول وقيل: إنه ما لا يخلو عنها، وما لم يخل عنها فهو حادث، لم يكن ذلك ظاهرًا ولا بينًا، بل هذا المقام حار فيه كثير من الأفهام، وكثر فيه النزاع والخصام، ولهذا صار المستدلون بقولهم: ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث يعلمون أن هذا الدليل لا يتم إلا إذا أثبتوا امتناع حوادث لا أول لها.

وهذا الدليل الذي اعتمد عليه كثير من أهل الجدل في إثبات حدوث العالم، وبنوا عليه نفي الصفات عن الله (2)، واعتقدوا أن لا دليل سواه، بل

(1) مجموع الفتاوى -لابن تيمية- 12/ 141، 142.

(2)

ولذا نجدهم يبرهنون على نفي الصفات عن الله تعالى بقولهم: الأعراض -التي هي الصفات- تدل على حدوث الموصوف الحامل لهذه الأعراض، فالتزموا نفيها عن الله، لأن إثباتها يستلزم حدوثها- عندهم.

ص: 93

ربما اعتقدوا أنه لا يصح إيمان أحد إلا به، بطلانه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام (1).

والشيخ رحمه الله تصدى لهذا الدليل الباطل، وبين وجه تناقضه، وأن الاستدلال على حدوث العالم لا يحتاج إلى الطريقة التي سلكها أولئك المتكلمون، بل يمكن إثبات حدوثه بطرق أخرى عقلية صحيحة، لا يعارضها عقل صريح ولا نقل صحيح. في مواضع من هذا الكتاب أحيل عليها (2) اكتفاء بذكرها هنا.

وإذا عرف الأصل الذي تفرع منه النزاع في مسألة الكلام، فلا بد أن نعرف النزاع الحاصل في المسألة نفسها، وذلك على ضوء ما عرضه الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب.

إلزامات:

ألزم السلف المعطلة النفاة لصفة الكلام بإلزامات أذكر منها:

1 -

مشابهة قولهم لقول النصارى قالوا: إن عيسى نفس كلمة الله فجعلوا الكلام الذي هو من قبيل الأعراض جوهرًا قائمًا بنفسه، ولذا اتخذوه إلهًا، فقالوا: إن اللاهوت -ويعنون الكلمة- اتحدت بالناسوت -ويعنون جسد عيسى-.

فعندهم أن عيسى مركب من جزئين:

جزء إلهي قديم، وهو الكلمة.

وجزء حادث مخلوق، وهو الجسد، لكنهما اتحدا وصارا شيئًا واحدًا هو المسيح.

وهذا القول من جنس قول الكلابية والأشعرية الذين جعلوا القرآن نصفين:

قديم: وهو المعنى القائم بالنفس.

(1) انظر مجموع الفتاوى -لابن تيمية- 12/ 142، 143، 213، 229.

(2)

انظر ما يتعلق بهذه المسألة ومناقشة الشيخ لها في قسم التحقيق ص: 483 - 496، 621، 622، وص 747 - 803.

ص: 94

ومحدث: وهو المصحف.

يقول الشيخ رحمه الله: "والجهمية الغلاط يضاهئونهم مضاهاة عظيمة، لكن المقصود هنا ذكر مضاهاة هؤلاء الذين يقولون الكلام معنى واحد قائم بذات الرب، فيقال: أنتم قلتم: الكلام معنى واحد لا ينقسم ولا يختلف، وهذا المعنى الواحد هو بعينه أمر ونهي وخبر، فجعلتم الواحد ثلاثة، وجعلتم الواحد الذي لا اختلاف فيه ثلاث حقائق مختلفة، وهذا مضاهاة قوية لقول النصارى: الرب إله واحد جوهر واحد، وهو مع ذلك ثلاثة جواهر، فجعلوه واحدًا، وجعلوه ثلاثة، ثم قلتم: هذا الكلام الذي هو واحد، وهو أمر ونهي وخبر، ينزل تارة فيكون أمرًا، وتارة فيكون خبرًا، وتارة فيكون نهيًا، وإذا نزل فكان أمرًا لم يكن خبرًا، وإذا نزل فكان خبرًا لم يكن أمرًا، فإنه إذا أنزله الله فكان آية الكرسي، وهي خبر، لم يكن آية الدين التي هي أمر، وهذا لعله من أعظم المضاهاة لقول النصارى أن الجوهر الواحد الذي هو ثلاثة جواهر ثلاثة أقانيم، إذا اتحد فإنما يكون كلمة وابنًا، لا يكون أبًا ولا روح قدس، فإن هؤلاء، كما جعلوا الشيء الذي هو واحد يتحد ولا يتحد، يتحد من كونه كلمة، ولا يتحد من كونه وجودًا، جعل أولئك الذي هو كلام واحد، ينزل لا ينزل، ينزل من جهة كونه أمرًا، لا ينزل من جهة كونه خبرًا.

وأيضًا -فإنهم ضاهوا النصارى في تحريف مسمى الكلمة والكلام، فإن المسيح سمي كلمة الله، لأن الله خلقه بكلمته. . . لكن هذه الكلمة تارة يجعلونها صفة لله، ويقولون: هي العلم، وتارة يجعلونها جوهرًا قائمًا بنفسه، وهي المتحد بالمسيح، وهؤلاء حرفوا مسمى الكلام، فزعموا أنه ليس إلا مجرد المعنى، وأن ذلك المعنى ليس هو العلم، ولا الإرادة، ولا ما هو من جنس ذلك، ولكن هو شيء واحد، وهو حقائق مختلفة. . . ".

وأيضًا -فهم في لفظ القرآن الذي هو حروف واشتماله على المعنى، لهم مضاهاة قوية بالنصارى في جسد المسيح الذي هو متدرع للاهوت، فإن هؤلاء متفقون على أن حروف القرآن ليست من كلام الله، بل هي مخلوقة،

ص: 95

كما أن النصارى متفقون على أن جسد المسيح لم يكن من اللاهوت، بل هو مخلوق، ثم يقولون: المعنى القديم لما أنزل بهذه الحروف المخلوقة، فمنهم من يسمي الحروف كلام الله حقيقة، كما يسمي المعنى كلام الله حقيقة، ومنهم من يقول: بل هي كلام الله مجازًا، كما أن النصارى منهم من يجعل لاهوتًا حقيقة لاتحاده باللاهوت واختلاطه به، ومنهم من يقول: هو محل اللاهوت ودعاؤه، ثم النصارى تقول: هذا الجسد إنما عبد لكونه مظهر اللاهوت وإن لم يكن هو إياه، ولكن صار هو إياه بطريق الاتحاد، وهو محله بطريق الحلول، فعظم ذلك، وهم لا يقولون: هذه الحروف ليست من كلام الله ولا يجوز أن يتكلم الله بها، ولا يكلم بها، بل لا يدخل في ذرته أن يتكلم بها، ولكن خلقها فأظهر بها المعنى القديم ودل بها عليه، فاستحقت الإكرام والتحريم لذلك. . . (1).

وإلى هذا الإلزام أشار ابن القيم رحمه الله بقوله:

يا قوم قد غلط النصارى قبل في

معنى الكلام وما اهتدوا لبيان

ولأجل ذا جعلوا المسيح إلههم

إذ قيل كلمة خالق رحمن

ولأجل ذا جعلوه ناسوتًا ولا

هوتًا قديمًا بعد متحدان

ونظير هذا من يقول كلامه

معنى قديم غير ذي حدثان

والشطر مخلوق وتلك حروفه

ناسوته لكن هما غيران

فانظر إلى ذي الاتفاق فإنه

عجب وطالع سنة الرحمن (2)

2 -

يلزم من قول المخالف أن يكون هناك قرآنان.

هذا المصحف الذي بأيدي المسلمين، المقروء بالألسنة المحفوظ بالصدور، وهو -بزعمهم- ليس بكلام الله، وإنما هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، وتسميته قرآنًا أو كلامًا مجازٌ، وهذا مخلوق عندهم.

والمعنى القديم القائم بالنفس، وهذا هو الكلام الحقيقي عندهم ولا يكون بحروف وأصوات مسموعة، وهو معنى واحد في الأزل لا انقسام

(1) انظر: قسم التحقيق- ص: 863 - 865.

(2)

القصيدة النونية -لابن القيم- المسماة بالكافية الشافية- ص: 34.

ص: 96

فيه ولا تبعض، فالتوراة عين الإنجيل، والإنجيل عين القرآن، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلًا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة.

وقد ذكر الشيخ رحمه الله أنه يحكى عن الكلابية والأشاعرة "أنه ليس لله في الأرض كلام، وأن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله، وأنه ليس لله في الأرض كلام، وإنما هذا حكاية أو عبارة عن كلام الله"(1).

وقالت هذه الطائفة: "كلام الله ليس إلا مجرد معنى قائم بالنفس، وحروف القرآن ليس من كلام الله، ولا تكلم الله بها، ولا يتكلم الله بحرف ولا صوت. . . "(2).

وقال رحمه الله في موضع آخر:

"-وأيضًا- فجعلت هذه الطائفة معنى واحدًا قائمًا بذات الرب هو أمر ونهي وخبر واستخبار، وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن. . . "(3).

وإلى هذا الإلزام أشار ابن القيم بقوله:

زعموا القرآن عبارة وحكاية

قلنا كما زعموه قرآنان

هذا الذي نتلوه مخلوق كما

قال الوليد وبعده الفئتان

والآخر المعنى القديم فقائم

بالنفس لم يسمع من الديان

والأمر عين النهي واستفهامه

هو عين إخبار وذو وحدان

وهو الزبور وعين توراة وإنـ

جيل وعين الذكر والفرقان

الكل شيء واحد في نفسه

لا يقبل التبعيض في الأذهان (4)

3 -

إذا لم يكن الله تعالى متكلمًا كما يزعمه المعطلة والنفاة ولا موصوفًا بالكلام -الذي هو صفة مدح- لزم من ذلك مشابهته -سبحانه- للجمادات التي لا تتكلم، بل يكون الحيوان الذي يتكلم أكمل منه- تعالى الله عما يقوله هؤلاء علوًا كبيرًا.

(1) انظر: قسم التحقيق ص: 438.

(2)

انظر: قسم التحقيق ص: 432.

(3)

انظر: قسم التحقيق ص: 434.

(4)

القصيدة النونية -لابن القيم- ص: 34.

ص: 97

يقول الشيخ رحمه الله:

"وهؤلاء (1) عندهم أن الملائكة تعبر عن المعنى القائم بذات الله وأن الله نفسه لا يعبر بنفسه عن نفسه، وذلك يشبه من بعض الوجوه الأخرس الذي يقوم بنفسه معان، فيعبر غيره عنه بعبارته، وهم في ذلك مشاركون للجهمية الذين جعلوا غير الله يعبر عنه من غير أن يكون الله يتكلم، لكن هؤلاء يقولون: قام بنفسه معنى، فتجعله كالأخرس، والجهمية تجعله بمنزلة الصنم الذي لا يقوم به معنى ولا لفظ"(2).

وإلى هذا أشار ابن القيم بقوله:

وإذا انتفت صفة الكلام فضدها

خرس وذلك غاية النقصان

فلئن زعمتم أن ذلك في الذي

هو قابل من أمة الحيوان

الرب ليس بقابل صفة الكـ

ـلام فنفيها ما فيه من نقصان

فيقال سلب كلامه وقبوله

صفة الكلام أتم للنقصان

إذ أخرس الإنسان أكمل حالة

من ذا الجماد بأوضح البرهان

فجحدت أوصاف الكمال مخافة التشـ

ـبيه والتجسيم بالإنسان

ووقعت في تشبيهه بالناقصات

الجامدات وذا من الخذلان (3)

4 -

يلزم هؤلاء النفاة الذين نفوا صفة الكلام عن الله، وقالوا: إن كلامه هو ما يخلقه في غيره منفصلًا عنه، وإن إضافته إلى الله إضافة تشريف وتعظيم، كما يقال: بيت الله، وناقة الله، أن يكون جميع كلام الخلق حقه وباطله، جده وهزله عين كلام الله -سبحانه- وهذا ما صرح به الاتحادية.

يقول الشيخ رحمه الله:

"ومن قال: إن المتكلم من فعل الكلام لزمه أن يكون كل كلام خلقه الله في محل كلامًا له، فيكون إنطاقه للجلود كلامًا له، بل يكون إنطاقه لكل ناطق كلامًا له، وإلى هذا ذهب الاتحادية من الجهمية الحلولية الذين يقولون: إن

(1) وهم الكلابية، والأشعرية ومن وافقهما.

(2)

راجع: قسم التحقيق- ص: 434.

(3)

القصيدة النونية -لابن القيم- ص: 40.

ص: 98

وجوده عين الموجودات، فيقول قائلهم:

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه (1)

يقول ابن القيم مشيرًا إلى هذا الإلزام:

أو ليس قد قام الدليل بأن أفعـ

ـال العباد خليقة الرحمن

من ألف وجه أو قريب الألف يحصيـ

ـها الذي يعنى بهذا الشان

فيكون كل كلام هذا الخلق

عين كلامه سبحانه ذي السلطان

إذ كان منسوبًا إليه كلامه

خلقًا كبيت الله ذي الأركان

هذا ولازم قولكم قد قاله

ذو الاتحاد مصرحًا ببيان

حذر التناقض إذا تناقضتهم ولكـ

ـن طرده في غاية الكفران (2)

هذه بعض الإلزامات التي لا محيد للمعطل النافي لهذه الصفة عنها، وهي -بحق- تبرز رأي السلف في هذه المسألة المستمد من كتاب الله، وسنة رسوله عليه السلام وأقوال الصحابة ومن تبعهم بإحسان، والمدعم بصريح المعقول الموافق لصحيح المنقول، وأنه الرأي الذي يجب على المسلم أن يعتقده، ويدين ربه عز وجل به.

(1) انظر قسم التحقيق - ص: 962، 963.

(2)

القصيدة النونية -لابن القيم- ص: 40.

ص: 99