الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه
أى الجناية على الجنين أو الإجهاض
395-
يعبر الحنفية عن هذه الجناية بالجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه؛ لأن الجنين يعتبر نفسًا من وجه، ولا يعتبر كذلك من وجه آخر، فيعتبر نفسًا من وجه لأنه آدمى، ولا يعتبر كذلك لأنه لم ينفصل عن أمه، ويعللون ذلك بأن الجنين ما دام مختبئًا فى بطن أمه فليس له ذمة صالحة أو كاملة ولا يعتبر أهلاً لوجوب الحق عليه لكونه فى حكم جزء من الأم، لكنه لما كان منفردًا بالحياة فهو نفس وله ذمة وباعتبار هذا الوجه يكون أهلاً بوجوب الحق له من إرث ونسب ووصية
…
إلخ (1) .
ولذلك اعتبر نفسًا من وجه إذا نظرنا إلى أنه أهل لوجوب الحق له، ولم يعتبر كذلك من وجه آخر إذا نظرنا إلى أنه ليس أهلاً لوجوب الحق عليه وصار نفسًا من كل وجه؛ فإذا انقلب على مال إنسان فأتلفه ضمنه، وإذا زوجه وليه لزمه مهر امرأته فى ماله.
396-
ويعبر المالكية والشافعية والحنابلة عن هذه الجناية بالجناية على الجنسين، ولكن اختلاف الفقهاء فى التعبير عن الجناية ليس له أية أهمية لأن ما يقصده هؤلاء من تعبيرهم هو ما يقصده الآخرون بالذات، ومحل الجناية عندهم جميعًا هو إجهاض الحامل والاعتداء على حياة الجنين، أو هو كل ما يؤدى إلى انفصال الجنين عن أمه (2) .
(1) البحر الرائق ج8 ص389.
(2)
أسنى المطالب ج4 ص89 ، حاشية ابن عابدين ج5 ص517 ، شرح الزرقانى ج8 ص33 ، الإقناع ج4 ص209.
397-
ما يجهض الحامل: تقع هذه الجناية كلما وجد ما يوجب انفصال الجنين عن أمه، وقد ينفصل الجنين حيًا وقد ينفصل ميتًا، وتعتبر الجناية تامة بحدوث الانفصال بغض النظر عن حياة الجنين أو موته، وإن كان لكل حالة عقوبتها الخاصة؛ إذ العقوبة فى هذه الجناية تختلف باختلاف نتائج الفعل كما سنبين ذلك عند الكلام على العقوبة.
ولا يشترط فى الفعل المكون للجناية أن يكون من نوع خاص، فيصح أن يكون عملاً ويصح أن يكون قولاً، ويصح أن يكون الفعل ماديًا ويصح أن يكون معنويًا.
ومن الأمثلة على الفعل المادى: الضرب، والجرح، والضغط على البطن، وتناول دواء أو مواد تؤدى للإجهاض، وإدخال مواد غريبة فى الرحم، أو حَمل حمْل ثقيل (1) .
398-
ومن الأمثلة على الأقوال والأفعال المعنوية: التهديد، والإفزاع، والترويع كتخويف الحامل بالضرب أو القتل، والصياح عليها فجأة، وطلب ذى شوكة لها أو لغيرها أو دخول ذى شوكة عليها (2) . ومن الوقائع المشهورة فى هذا الباب أن عمر رضى الله عنه بعث إلى امرأة كان يدخل عليها فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر، فبينما هى فى الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولدًا فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فأشار بعهم أن ليس عليك شئ، إنما أنت والِ ومؤدب، وصمت على فأقبل عليه عمر فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا فى هواك فلم ينصحوا لك إن ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته، فقال عمر: أقسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك (3) .
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص516 ، 519.
(2)
شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج5 ص31 ، حاشية ابن عابدين ج5 ص516 ، 519 ، نهاية المحتاج ج7 ص360 ، المغنى ج9 ص552 ، 557 ، الإقناع ج3 ص209.
(3)
المغنى ج9 ص579.
ومن الأمثلة على الأفعال المعنوية: تجويع المرأة أو صيامها، فلو صامت فأدى الصوم إلى الإجهاض كانت مسئولة عن الجناية، ومثل ذلك شم ريح ضار بالحامل (1) .
ويرى بعض الفقهاء أن من يشتم امرأة شتمًا مؤلمًا يسأل جنائيًا إذا أدى شتمه إلى إجهاض المرأة (2) .
ويصح أن يقع الفعل المكون للجناية من الأب أو الأم أو من غيرهما، وأيًا كان الجانى فهو مسئول عن جنايته ولا أثر لصفته على العقوبة المقررة للجريمة.
399-
انفصال الجنين: ولا تعتبر الجناية على الجنين قائمة ما لم ينفصل الجنين عن أمه، فمن ضرب امرأة على بطنها أو أعطاها دواء فأزال ما ببطنها من انتفاخ أو أسكن حركة كانت تشعر بها فى بطنها لا يعتبر أنه جنى على الجنين لأن حكم الولد لا يثبت إلا بخروجه ولأن الحركة يجوز أن تكون لريح فى البطن سكنت، فهناك شك فى وجود أو موت الجنين، ولا يجب العقاب بالشك، وهذا هو رأى الفقهاء الأربعة وأساسه عدم اليقين من وجود الجنين أو موته (3) .
ولكن الزهرى يرى أن على الجانى العقوبة لأن الظاهر أنه قتل الجنين.
والرأى الذى يجب العمل به اليوم بعد تقدم الوسائل الطبية أنه إذا أمكن طبيًا القطع بوجود الجنين وموته بفعل الجانى فإن العقوبة تجب على الجانى، وهذا الرأى لا يخالف فى شئ رأى الأئمة الأربعة لأنهم منعوا العقاب للشك، فإذا زال الشك وأمكن القطع وجبت العقوبة، ولا يكفى انفصال الجنين لمسئولية الجانى بل يجب أن يثبت أن الانفصال جاء نتيجة لفعل الجانى، وأن علاقة السببية قائمة بين فعل الجانى وانفصال الجنين.
(1) نهاية المحتاج ج7 ص360 ، شرح الزرقانى ج8 ص31.
(2)
شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص31.
(3)
المغنى ج9 ص538 ، أسنى المطالب ج4 ص89 ، شرح الزرقانى ج8 ص33 ، حاشية ابن عابدين ج5 ص517.
400-
والجنين هو كل ما طرحته المرأة مما يعلم أنه ولد: ويرى مالك مسئولية الجانى عن كل ما ألقته المرأة مما يعلم أنه حمل سواء كان تام الخلقة أو كان مضغة أو علقة أو دمًا. ويرى أشهب من فقهاء المالكية أن لا مسئولية عن طرح الدم، وإنما المسئولية عن طرح العلقة والمضغة، بينما يرى ابن القاسم المالكى أيضًا مسئولية الجانى عن الدم المجتمع الذى إذا صب عليه الماء الحار لا يذوب، لا الدم المجتمع الذى إذا صب عليه الماء الحار يذوب لأن هذا لا شئ فيه (1) .
401-
ويرى أبو حنيفة والشافعى مسئولية الجانى عما تطرحه المرأة إذا استبان بعض خلقه، فإذا ألقت مضغة لم يتبين فيها شئ من خلقه فشهد ثقات بأنه مبدأ خلق آدمى لو بقى لتصور فالجانى مسئول أيضًا (2) .
402-
ويرى الحنابلة مسئولية الجانى إن أسقطت المرأة ما فيه صورة آدمى، فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمى فلا مسئولية حيث لا دليل على أنه جنين، وإذا ألقت مضغة فشهد ثقات أن فيه صورة خفية كان الجانى مسئولاً جنائيًا. وإن شهدوا أنه مبدأ خلق آدمى لو بقى لتصور ففيه وجهان: أصحهما: لا مسئولية عنه لأنه لم يتصور فهو فى حكم العلقة ولأن الأصل البراءة فلا مسئولية بالشك، والثانى: يسأل لأنه مبتدأ خلق آدمى أشبه ما لو تصور (3) .
والجنين قد ينفصل عن أمه حيًا وقد ينفصل ميتًا، وللتفرقة بين الحالتين أهمية كبرى لأن العقوبة تختلف باختلاف الحالين.
وتثبت الحياة للجنين بكل ما يدل على الحياة من الاستهلال - أى الصياح - والرضاع والتنفس والعطاس وغير ذلك، ومجرد الحركة لا يعتبر دليلاً قاطعًا على الحياة لأن الحركة قد تكون من اختلاج الجسم إثر خروجه من ضيق فوجب أن تكون الحركة بحيث تقطع بحياة الجنين، أو أن يكون هناك دليل آخر على الحياة (4) .
(1) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص31 ، بداية المجتهد ج2 ص348.
(2)
حاشية ابن عابدين ج5 ص519 ، نهاية المحتاج ج7 ص362.
(3)
المغنى ج9 ص539.
(4)
شرح الزرقانى ج8 ص33 ، أسنى المطالب ج4 ص89 ، حاشية ابن عابدين ج5 ص537.
403-
ويشترط الحنابلة لاعتبار الجنين منفصلاً حيًا أن تكون الحياة مستقرة فيه، فلا يكون فى حالة نزع أو فى الرمق الأخير، وأن يكون سقوطه أو انفصاله لوقت يعيش لمثله أى أن يكون لستة أشهر فصاعدًا، فإن كان لدون ذلك اعتبر أنه انفصل ميتًا ولو انفصل والحياة فيه لأنها حياة لا يتصور بقاؤها، ولأن الجنين لا يعيش غالبًا إذا انفصل لأقل من ستة أشهر وبهذا الرأى قال المزنى من أصحاب الشافعى (1) .
404-
ويعتبر المالكية والحنفية والشافعى الجنين منفصلاً حيًا عن أمه ولو انفصل لأقل من ستة أشهر ما دام قد انفصل وفيه الحياة، ولا يعتبرونه منفصلاً ميتًا إلا إذا انفصل فاقد الحياة. وإذا علمت حياته قبل تمام الانفصال كما لو خرج رأسه فصرخ مرارًا ثم تم انفصاله ميتًا فيعتبر أنه انفصل ميتًا لا حيًا لأن العبرة بحالة الجنين عند تمام الانفصال (2) .
405-
ويشترط مالك وأبو حنيفة لمسئولية الجانى عن قتل الجنين أن يكون انفصال الجنين قد حدث فى حياة الأم، فإن انفصل عنها بعد وفاتها فلا يسأل الجانى عن قتله إذا انفصل ميتًا لأن موت الأم سبب ظاهر لموته إذ حياته بحياتها وتنفسه بتنفسها فتحقق موته بموتها فضلاً عن أنه يجرى مجرى أعضائها وموتها يسقط حكم أعضائها، وعلى هذا فمن المشكوك فيه أن تكون وفاة الجنين نتيجة لفعل الجانى، ولا ضمان ولا عقاب بالشك.
أما إذا انفصل الجنين حيًا بعد موت الأم فالجانى مسئول عن قتله وعليه ديته إذا مات بفعله، فإن لم يمت فعليه التعزير، وإذا انفصل بعضه ميتًا فى حياتها ثم انفصل كله بعد موتها فحكمه حكم انفصاله كله ميتًا بعد موتها (3) .
406-
ويرى الشافعى وأحمد مسئولية الجانى سواء انفصل الجنين بعد
(1) المغنى ج9 ص550 ، 552.
(2)
نهاية المحتاج ج7 ص361.
(3)
شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص33 ، حاشية ابن عابدين ج5 ص518.
وفاة الأم أو فى حياتها، وسواء انفصل حيًا أو ميتًا؛ لأن الجنين تلف بجناية الجانى وعلم ذلك بخروجه فوجبت المسئولية كما لو سقط فى حياتها، ولأنه لو سقط حيًا ضمنه فكذلك إذا سقط ميتًا، وليس صحيحًا أن حكمه حكم أعضاء الأم لأنه لو كان كذلك لكان إذا سقط ميتًا ثم ماتت لم يضمنه كأعضائها، وفضلاً عن ذلك فهو آدمى موروث فلا يدخل فى ضمان أمه، وكذلك الحكم لو انفصل بعضه من بطن أمه وخرج باقية أو لم يخرج حيث تيقن وجود الجنين أولاً وتيقن قتله ثانيًا (1) .
407-
ونستطيع أن نقول بعد تقدم الوسائل الطبية أن الرأى الذى يجب العمل به هو مسئولية الجانى إذا تبين بصفة قاطعن أن الانفصال ناشئ عن فعل الجانى سواء انفصل الجنين فى حياة أمه أو بعد وفاتها، وسواء انفصل كله أو بعضه. وهذا الرأى يتفق مع كل المذاهب لأن الذين يمنعون المسئولية يمنعونها للشك وعدم التيقن فإذا زال الشك بالوسائل الطبية الحديثة وجبت المسئولية.
408-
قصد الجانى: مذهب مالك على أن الجناية على الجنين قد تكون عمدية وقد تكون خطأ، فهى عمدية إذا تعمد الجانى الفعل، وهى غير عمدية إذا أخطأ الجانى بالفعل. ويتفق مذهب مالك مع الرأى المرجوح فى مذهب الشافعى (2) .
409-
والقائلون بأن الجناية عمدية يختلفون فى وجوب القصاص من الفاعل إذا انفصل الجنين حيًا ثم مات بسبب الجناية، فبعض المالكية يوجب القصاص والبعض يوجب الدية، وأصحاب الرأى الراجح فى المذهب يوجبون القصاص إذا كان الفعل فى الغالب مؤديًا لنتيجة كالضرب على الظهر والبطن، ويوجبون الدية إذا لم يكن الفعل مؤديًا لنتيجة غالبًا كالضرب على اليد والرجل (3) .
(1) المغنى ج9 ص538 ، أسنى المطالب ج4 ص90.
(2)
شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص33 ، بداية المجتهد ج2 ص438 ، نهاية المحتاج ج7 ص363.
(3)
شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص33.
410-
وأصحاب الرأى الراجح فى مذهب الشافعى يرون مع الحنفية والحنابلة أن الجناية على الجنين لا تكون عمدًا محضًا وإنما هى شبه عمد أو خطأ، فهى شبه عمد إذا تعمد الجانى الفعل وهى خطأ إذا أخطأ به.
ولا تعتبر الجناية عمدية حال تعمد العمل لأن العمد المحض بعيد التصور لتوقفه على العلم بوجود الجنين وبحياته، كما يتوقف على قد قتله وهو بعيد التصور (1) .
ويحتج هذا الفريق لرأيه بما روى عن جابر بن عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم جعل فى الجنين غُرَّة على عاقلة الضارب، والعاقلة لا تحمل العمد، فلو اعتبر الرسول العمد فى هذه الجناية لَماَ جعل الغرة على العاقلة.
411-
وتظهر أهمية التفرقة بين العمد وغير العمد فى حالة انفصال الجنين حيًا، حيث يرى بعض القائلين بعمدية الجناية القصاص من الجانى بينما العقاب على غير العمد هو الدية، أما فى حالة انفصال الجنين ميتًا فلا فرق بين العمد وغير العمد فى نوع العقوبة؛ لأن العقوبة متفق عليها فى كل الأحوال وهى الغرة، وإنما يظهر الفرق فى صفة العقوبة حيث تغلظ الغرة فى حالة العمد وشبه العمد ولا تغلظ فى حالة الخطأ (2) ، كذلك يظهر الفرق فى تحمل العقوبة حيث تكون فى مال الجانى وحده فى حالة العمد، وتكون فى ماله أو مال العاقلة وحدها فى حالتى شبه العمد والخطأ، على حسب التفصيل الذى ذكرناه عند الكلام على تحمل الديات (3) .
412-
العقوبة المقررة للجناية على الجنين: تختلف العقوبة المقررة للجناية على الجنين باختلاف نتائج فعل الجانى، وهذه النتائج لا تخرج عن خمس:
الأولى: أن ينفصل الجنين عن أمه ميتًا، الثانية: أن ينفصل الجنين عن أمه حيًا ثم يموت بسبب الفعل، الثالثة: أن ينفصل الجنين عن أمه حيًا ثم يموت أو يعيش بسبب آخر غير الفعل، الرابعة: أن لا ينفصل الجنين عن أمه
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص619 ، البحر الرائق ج8 ص389 ، 390 ، المغنى ج9 ص544 ، نهاية المحتاج ج7 ص363.
(2)
أسنى المطالب ج4 ص94.
(3)
راجع الفقرة 389.
أو ينفصل بعد وفاتها، الخامسة: أن يترتب عل الفعل إيذاء الأم أو إصابتها بإصابات تشفى منها أو تؤدى لموتها. وسنتكلم عن هذه النتائج واحدة بعد أخرى والعقوبات المقررة لها.
413-
أولاً: انفصال الجنين عن أمه ميتًا: إذا انفصل الجنين عن أمه ميتًا فعقوبة الجانى هى دية الجنين، ودية الجنين غرة عبدًا أو أمَة قيمتها خمس من الإبل.
والأصل فى الغرة ما روى عن عمرو رضى الله عنه أنه استشار الناس فى إمْلاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبى صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغُرَّة عبد أو أمة، فقال: لتأتين بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما فى بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى الرسول أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولها ومن معهم " (1) .
والغرة فى اللغة الخيار، وسمى العبد والأمة غرة لأنهما من أنفس الأموال. ويشترط الفقهاء فى العبد أو الأمة شروطًا خاصًا لم نر داعيًا لذكرها بعد أن أبطل الرق فى العالم، وبعد أن أجمع الفقهاء على تقدير الغرة بخمس من الإبل.
414-
وتجب الغرة فى الجنين الذكر وفى الجنين الأنثى: ولا فرق فى قيمة ما يجب لكل منهما، ويقدر الفقهاء دية الجنين الذكر بنصف عشر الدية الكاملة، ودية الجنين الأنثى بعشر دية الأم، ولما كانت دية المرأة نصف دية الرجل فالنتيجة أن دية الجنين الأنثى تساوى نصف عشر الدية الكاملة (2) .
وتجب الغرة فى حالتى العمد والخطأ معًا، ولا فرق بين الحالتين إلا أن دية الجنين تغلظ فى حالة العمد وتخفف فى حالة الخطأ (3) ، وإلا أنها حالَّة فى مال الجانى
(1) المغنى ج9 ص535.
(2)
شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص32 ، حاشية ابن عابدين ج5 ص517 ، أسنى المطالب ج4 ص94 ، المغنى ج9 ص541.
(3)
أسنى المطالب ج4 ص94.
المتعمد لا تحمل العاقلة منها شيئًا، أما فى حالة الخطأ ويلحق بها شبه العمد فتحمل العاقلة الدية وحدها أو مع الجانى على حسب الآراء المختلفة التى فصلناها عند الكلام على الدية فى القتل.
والغرة تورث على الجنين على فرائض الله، وفى مذهب مالك رأى مرجوح بأنها للأم دون غيرها وهو مذهب الليث، ومن المتفق عليه أن القاتل لا يرث شيئًا من الغرة إذ لا ميراث للقاتل (1) .
وتتعدد الغرة بتعدد الأجنة، فلو ألقت الحامل جنينين حيين فعلى الجانى غرتان، وإذا ألقت ثلاثة فعلية ثلاثة، وهكذا (2) .
وإذا ماتت الأم بعد وجوب الغرة فلا تدخل الغرة فى دية الأم بل تجب الغرة للجنين والدية للأم (3) .
415-
ثانيًا: انفصال الجنين عن أمه حيًا وموته بسبب الفعل: إذا انفصل الجنين عن أمه حيًا ومات بسبب فعل الجانى فالعقوبة القصاص عند من يراه من القائلين بوجود العمد، أو هى الدية الكاملة عند غيرهم من القائلين بأن الفعل عمد أو القائلين بأنه شبه عمد، وكذلك العقوبة الدية باتفاق فى حال الخطأ، والفرق بين دية العمد وشبه العمد والخطأ ليس فى عدد الإبل وإنما فى صفاتها، أو هو الفرق بين التغليظ والتخفيف، كما أن دية العمد تكون فى مال الجانى وتكون حالَّة دائمًا، بينما دية شبه العمد والخطأ ليست حالة وتحمله العاقلة وحدها أو مع الجاني؛ على حسب مختلف الآراء.
والدية الكاملة للجنين يختلف مقدارها باختلاف نوع الجنين، فدية الذكر دية رجل ودية الأنثى دية امرأة؛ أى نصف دية الرجل.
(1) المغنى ج9 ص542 ، أسنى المطالب ج4 ص93 ، حاشية ابن عابدين ج5 ص518 ، شرح الزرقانى ج8 ص33 ، بداية المجتهد ج2 ص348.
(2)
أسنى المطالب ج4 ص90 ، المغنى ج9 ص543 ، حاشية ابن عابدين ج5 ص517 ، شرح الزرقانى ج8 ص33.
(3)
نفس المراجع السابقة.
وتتعدد الديات بتعدد الأجنة، فلو ألقت المرأة جنينين ذكرين أو ثلاثة كان على الجانى ثلاث ديات كاملة.
وإذا ماتت الأم بسبب الجناية فلا تدخل دية الجنين فى ديتها، ولا تدخل ديتها فى ديات الأجنة ولو تعددت.
416-
ثالثًا: انفصال الجنين حيًا ولم يمت: إذا انفصل الجنين حيًا وعاش أو مات بسبب آخر غير الجناية كأن قتله آخر أو امتنعت الأم عن إرضاعه حتى مات فعقوبة الجناية على الجنين هى التعزير لا غير؛ لأن موت الجنين حدث بسبب غير فعله، أما العقوبة على قتل الجنين بعد انفصاله فهى عقوبة القتل العادى لأن الجريمة ليست إلا إزهاق روح إنسان حى.
والعقوبة التعزيرية التى توقع على الجانى يقدرها القاضى ويعينها من بين مجموعة العقوبات التعزيرية ما لم يكن ولى الأمر قد عين هذه العقوبة وقدرها.
417-
رابعًا: انفصال الجنين بعد وفاة الأم أو عدم انفصاله: إذا لم يترتب على الجناية انفصال الجنين أو ماتت الأم قبل انفصاله أو انفصل عنها بعد وفاتها فالعقوبة على الجناية فى هذه الحالات جميعًا هى التعزير ما دام لم يقم دليل قاطع على أن الجناية أدت لموت الجنين أو انفصاله وأن موت الأم لا دخل له فى ذلك (1) .
418-
خامسًا: أن يترتب على الجناية إيذاء الأم أو جرحها أو موتها: إذا ترتب على الجناية إيذاء الأم أو جرحها أو قطع طرف من أطرافها أو موتها فعلى الجانى عقوبة هذه الأفعال بغض النظر عن العقوبات المقررة للجناية على الجنين؛ لأن العقوبات الأخيرة خاصة بالجنين وليست خاصة بما يصيب أمه، فإذا أعطى رجل امرأة دواء بقصد إجهاضها فماتت بعد أن انفصل ولدها ميتًا فعليه دية المرأة باعتبار أنه قتلها قتلاً شبه عمد وعليه غرة دية الجنين، وإذا ماتت بسبب الفعل بعد انفصال ولدها حيًا فعلى الجانى ديتان: دية المرأة ودية الجنين.
(1) راجع ما كتبناه عن انفصال الجنين.
وإذا ضرب شخص امرأة بالسيف فى بطنها قاصدًا قتلها فاسقط منها جنينين أحدهما أصابه السيف فنزل ميتًا والثانى نزل حيًا ثم مات وماتت المرأة؛ فعلى الجانى القصاص فى قتل المرأة وعليه دية كاملة للجنين الذى نزل حيًا، وغرة للجنين الذى نزل ميتًا،
وإذا ضربها فقطع ذراعها فألقت ولدها ميتًا فعليه القصاص فيما فعل بالمرأة وعليه غرة دية الجنين.
وإذا ضربها ضربًا لم يترك أثرًا فأجهضت جنينًا انفصل عنها ميتًا فعليه التعزير فى ضرب المرأة وعليه غرة دية الجنين.
419-
الكفارة: وهناك عقوبة أخرى للجناية على الجنين هى عقوبة الكفارة (1) ، ويعاقب الجانى بها كلما ألقت الأم جنينها سواء ألقته حيًا أو ميتًا، وسواء كان الجانى هو الأم أو أجنبى عنها، وإن ألقت الأم أجنة ففى كل جنين كفارة، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد (2) .
وإذا اشترك جماعة فى الجناية فألقت المرأة جنينًا فديته عليهم بالحصص وعلى كل منهم كفارة.
ويجعل مالك الكفارة مندوبًا إليها فى الجناية على الجنين وليست واجبة (3) .
أما أبو حنيفة فيفرق بين انفصال الجنين ميتًا وانفصاله حيًا ويوجب الكفارة فى الحال الثانية دون الأولى (4) .
* * *
(1) راجع ما كتب عن الكفارة فهو متمم لما يقال هنا.
(2)
أسنى المطالب ج4 ص95 ، المغنى ج9 ص556 وما بعدها.
(3)
شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص39.
(4)
حاشية ابن عابدين ج5 ص518 ، 519.
إثبات الجناية على النفس وعلى ما دونها وعلى الجنين
420-
اختلف الفقهاء فى تحديد الأدلة التى تثبت عن طريقها الجناية على النفس وعلى ما دونها وعلى الجنين، فرأى جمهور الفقهاء أن هذه الجنايات لا تثبت إلا عن طرق ثلاث هى:
(1)
الإقرار.
…
... (2) الشهادة.
…
... (3) القسامة.
ورأى بعض الفقهاء أنها تثبت أيضًا عن طريق قرائن الأحوال، وعلى هذا تكون طرق إثبات هذه الجناية أربع طرق هى:
(1)
الإقرار.
…
(2) الشهادة.
…
(3) القسامة.
…
(4) قرائن الأحوال.
وسنتكلم عن هذه الطرق واحدة بعد أخرى.
الإقرار
421-
الإقرار لغة: هو الإثبات، من قر الشئ يقر قرارًا إذا ثبت. وشرعًا: الإخبار عن حق أو الاعتراف به. والأصل فى الإقرار: الكتاب، والسنة، والإجماع.
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء: 135]، وفسرت شهادة المرء على نفسه بالإقرار وقوله تعالى:{وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الحَقُّ} إلى قوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] أى: فليقر بالحق، وقوله تعالى:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة:102]، وقوله:{ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ، إلى آيات أخرى.
وأما السنة: فما روى أن ماعزًا أقر بالزنا فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الغامدية، وفى قضية العسيف قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"اغْدُ يا أُنَيْس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها".
وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على صحة الإقرار لأنه إخبار ينفى التهمة والريبة عن المقر، ولأن العاقل لا يكذب على نفسه كذبًا يضر بها، ولهذا كان الإقرار أكد من الشهادة وكان حجة فى حق المقر يوجب عليه الحد والقصاص والتعزير كما يوجب عليه الحقوق المالية.
422-
والإقرار على قوته حجة قاصرة على نفس المقر لا تتعداه إلى غير كما يرى جمهور الفقهاء، فإذا اعترف بكر بأنه قتل زيدًا وأن عليًا شاركه جريمة القتل، فإن هذا الاعتراف يكون حجة قاصرة على بكر فقط ما دام على ينكره، فإذا سلم به على فإنه يؤاخذ لا باعتراف بكر وإنما باعترافه هو، وعلى هذا جرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو داود عن سهل بن معد أن رجلاً جاء الرسول فأقر عنده أنه زنا بامرأة سماها له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها (1) . ولكن الإقرار يمكن أن يتعدى إلى غير المقدر عند من يرون الإثبات بقرائن الأحوال، إذا أمكن اعتبار إقرار المقر قرينة على غير المقر.
423-
ويشترط فى الإقرار المثبت للجناية أن يكون مبينًا مفصلاً قاطعًا فى ارتكاب الجانى الجناية، أما الاعتراف المجمل الذى يمكن أن يفسر على أكثر من وجه فلا تثبت به الجناية، فمن أقر مثلاً بقتل شخص لا يمكن اعتباره مسئولاً جنائيًا إذا فصل اعترافه عن كيفية القتل وأداته، فقد يكون المعترف طلب من القتيل أن يؤدى عملاً أو يذهب إلى مكان معين فقتل فيه، فاعتقد أنه تسبب فى قتله واعترف بالقتل على هذا الأساس، ويجب أن يبين إن كان القتل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ؛ لأن لكل نوع من أنواع القتل أركانًا وعقوبات خاصة، ويجب أن يبين ظروف التل وسببه فقد يكون القتل وقع استعمالاً لحق أو أداء لواجب ولا مسئولية فى مثل هذه الحالة، فالإقرار الذى يؤخذ به الجانى هو الإقرار المفصل المثبت لارتكاب الجريمة ثبوتًا لا شك فيه.
424-
والأصل فى الاستفصال والتبين هو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جاءه ماعز يعترف بالزنا ويكرر اعترافه، فسأل صلى الله عليه وسلم هل به جنون أو هو
(1) فتح القدير ج4 ص158 ، المغنى ج10 ص168.
شارب خمر وأمر من يشم رائحته، وجعل يستفسر عن الزنا فقال له:"لعلك قبلت أو غمزت" وفى رواية: "هل صاحبتها؟ قال: نعم، قال: فهل باشرتها؟ قال: نعم قال: هل جامعتها؟ قال: نعم" وفى حديث ابن عباس: "أنكتها؟ قال: نعم، قال: دخل ذلك منك فى ذلك منها؟ قال نعم. قال: كما يغيب المرود فى المُكْحُلة والرشاء فى البئر؟: نعم قال: تدرى ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حرامًا ما يأتى الرجل من امرأته حلالاً. قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرنى، فأمر به فرجم". فدل جميع ذلك على أنه يجب الاستفصال والتبين (1) .
ويشترط بعد تفصيل الإقرار أن يكون الإقرار صحيحًا، ولا يكون كذلك إلا إذا صدر من عاقل مختار.
425-
إقرار زائل العقل: إذا أقر بجريمة من فقد عقله لأى سبب كشرب دواء أو شرب مسكر أو نوم أو إغماء أو جنون، فإن إقراره لا يعتبر إقرارًا صحيحًا ولا يؤاخذ به ولكن لو أعاد المقر إقراره بعد زوال حالة الإغماء أو النوم وبعد زوال أثر السكر أو أثر الدواء وبعد زوال الجنون، فإنه يؤاخذ بإقراره الجديد لأنه صدر صحيحًا (2) .
ويتفق أبو حنيفة والشافعى مع مالك وأحمد فيما سبق إلا فى شرب الدواء والمسكر، فيرى أبو حنيفة أن إقرار السكران بطريق محظور هو إقرار صحيح، وأن السكران يؤخذ بإقراره إذا أقر وهو سكران إلا فى الحدود الخالصة حقًا لله، والقتل ليس منها، وكذلك الجناية على ما دون النفس وعلى الجنين (3) ؛ لأن عقوبتها القصاص أو الدية وهى من حقوق الأفراد. أما إذا كان السكر
(1) سبل السلام ج4 ص 7 ، 8.
(2)
المغنى ج5 ص271 وما بعدها وج10 ص170 ، 171 ، مواهب الجليل ج4 ص43.
(3)
حاشية الطهطاوى ج3 ص328 ، 346 ، حاشية ابن عابدين ج4 ص621.
بطريق غير محظور فلا يؤخذ السكران بإقراره فى كل الأحوال إلا إذا أعاد الإقرار بعد زوال سكره.
ويرى الشافعى أن من شرب دواء مزيلاً للعقل بغير حاجة ومن شرب مسكرًا عالمًا بأنه مسكر يؤخذ بإقراره فى كل الأحوال، لأنه شرب ما يعلم أنه يزيل عقله فوجب أن يتحمل نتيجة عمله تغليظًا عليه لينزجر (1) ، فإذا دعت الحاجة لشرب الدواء المزيل للعقل أو شرب المسكر وهو يعلم أنه مسكر، فإنه لا يؤخذ بإقراره إلا إذا أقر ثانية بعد زوال سكره.
426-
ومن المتفق عليه أن المسكر لا يشترط فيه أن يكون خمرًا، فيصح أن يكون أى مادة مسكرة أو مخدرة ما دامت تؤدى إلى غيبة العقل، ولهذا يعرف الفقهاء السكر بأنه غيبة العقل من تناول الخمر أو ما يشبه الخمر.
ويعتبر الإنسان سكران إذا فقد عقله فلم يعد يعقل قليلاً ولا كثيرًا ولا يميز الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة، وهذا هو رأى أبى حنيفة (2)، ويرى محمد وأبو يوسف أن السكران هو الذى يغلب على كلامه الهذيان وحجتهما قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، فمن لم يعلم ما يقول فهو سكران وهذا الرأى يتفق مع الرأى الراجح فى كل من المذهب المالكى والشافعى والحنبلى (3) .
427-
إقرار المكرَه: قبل أن نعرف حكم إقرار المكره ينبغى أن نعرف شيئًا عن الإكراه.
تعريف الإكراه: يعرف الإكراه بأنه فعل يفعله الإنسان بغيره
(1) أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص283 ، 284.
(2)
بدائع الصنائع ج5 ص118.
(3)
المغنى ج10 ص335 ، أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص284.
فيزول رضاه أو يفسد اختياره (1) . ويعرف بأنه ما يفعل بالإنسان مما يضر أو يؤلمه (2) .
ويرى البعض أن حد الإكراه هو أن يهدد المكرَه قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقاب يُؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أُكره عليه وغلبت على ظنه أنه يفعل به ما هدد به إذا امتنع مما أكرهه عليه (3) .
والإكراه فى الشريعة على نوعين: نوع يعدم الرضاء ويفسد الاختيار، وهو ما خفيف فيه تلف النفس، ويسمى إكراهًا تامًا أو إكراهًا ملجئًا. ونوع يعدم الرضاء أو يفسده ولكنه لا يؤثر على الاختيار، وهو ما لا يخاف فيه التلف عادة كالحبس والقيد والضرب الذى لا يخشى منه التلف ويسمى إكراهًا ناقصًا أو إكراهًا غير ملجئ (4) .
والإكراه التام يؤثر فيما يقتضى الرضاء والاختيار معًا كارتكاب الجرائم، فمن أكره على جريمة قتل مثلاً ينبغى أن يكون الإكراه الواقع عليه بحيث يعدم رضاه ويفسد اختياره، أما الإكراه الناقص فلا يؤثر إلا على التصرفات التى تحتاج إلى الرضاء كالإقرار والبيع والإجارة وما أشبه.
428-
ويرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد - ورأيهم مرجوح - أن الإكراه يقتضى شيئًا من العذاب مثل الضرب والخنق وعصر الساق وما أشبه وأن التوعد بالعذاب لا يكون إكراهًا.
ويستدلون على ذلك بقصة عمار بن ياسر حين أخذه الكفار فأرادوه على الشرك بالله فأبى عليهم فلما غطوه فى الماء حتى كادت روحه تزهق أجابهم إلى ما طلبوا، فانتهى إليه النبى صلى الله عليه وسلم وهو يبكى فجعل يسمح الدموع من عينيه ويقول: "أخذك المشركون فغطوك فى الماء وأمروك
(1) البحر الرائق ج8 ص79.
(2)
مواهب الجليل ج4 ص45.
(3)
أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص282.
(4)
البحر الرائق ج8 ص80.
أن تشرك بالله ففعلت، فإن أخذوك مرة أخرى فافعل ذلك بهم" ويستدلون بما قاله عمر رضى الله عنه: ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أجعته أو ضربته أو أوثقته فهؤلاء يرون أن الإكراه يستلزم فعلاً ماديًا يقع على المكرَه فيحمله على إتيان ما أكره عليه، فإن لم يكن الإكراه ماديًا وسابقًا على الفعل الذى يأتيه المكرَه فلا يعتبر الفاعل مكرهًا فى رأيهم (1) .
429-
ويرى أصحاب الرأى الراجح فى مذهب أحمد ما يراه مالك وأبو حنيفة والشافعى من أن الوعيد بمفرده إكراه، وأن الإكراه لا يكون غالبًا إلا بالوعيد بالتعذيب أو بالقتل أو بالضرب أو بغير ذلك، أما ما مضى من العقوبة فإنه لا يندفع بفعل ما أكره عليه، ولا يخشى منه شيئًا بعد وقوعه، إنما الخشية والخوف مما يهدد به، فإذا وقع الفعل المهدد به انتهت الخشية وذهب الخوف، فالذى يندفع إذن بإتيان الفعل المكرَه عليه وهو ما يتوعد به من العقوبة أو التعذيب لا ما وقع منها فعلاً (2) .
وعلى هذا فالإكراه يصح أن يكون ماديًا ويصح أن يكون معنويًا، والإكراه المادى هو ما كان التهديد والوعيد فيه واقعًا، أما الإكراه المعنوى فهو ما كان الوعيد والتهديد فيه منتظر الوقوع.
شروط الإكراه: يشترط لوجود الإكراه توفر الشروط الآتية، فإن لم تتوفر فلا يعتبر الإكراه قائمًا ولا يعتبر المقر مكرهًا:
430-
أولاً: أن يكون الوعيد مما يستضر به بحيث يعدم الرضاء أو يفسده: كالضرب والحبس والقيد والتجويع، فإذا لم يكن لتنفيذ الوعيد أثر على الرضاء انتفى وجود الإكراه، وتقدير الوعيد الذى يستضر به مسألة موضوعية تختلف باختلاف الأشخاص والأسباب المكره عليها، فقد يكون الشئ إكراهًا
(1) المغنى ج8 ص260 ، الشرح الكبير ج8 ص243.
(2)
المغنى ج8 ص261 ، البحر الرائق ج8 ص80 ، أسنى المطالب ج3 ص282 ، 283 ، مواهب الجليل ج3 ص45 ، 46.
فى حق شخص دون آخر وفى سبب دون آخر، فبعض الأشخاص قد لا يتضرر من الضرب عدة أسواط، والبعض قد يتضرر من ضربة سوط واحد، بل قد يتضرر من صفعة أو فرك أذن، والبعض قد يرحب بمكثه فى السجن أمدًا طويلاً والبعض قد يضره ضررًا كبيرًا بقاؤه فى السجن ليلة واحدة.
ويعتبر الوعيد إكراهًا إذا وجه لنفس المكره، وهذا متفق عليه، فإذا وجه لغيره فهناك اختلاف؛ فيرى المالكية أن الوعيد إكراه ولو وقع على أجنبى (1) . ويرى بعض الحنفية أن الوعيد ليس إكراهًا إذا وقع على غير المكره، ولكن بعضهم يرى أنه إكراه إذا وقع على الولد أو الوالد أو على ذى رحم محرم، وهذا يتفق مع رأى الشافعية (2) ، ويرى الحنابلة أن الوعيد إكراه إذا وقع على الابن أو الأب (3) .
وليس من الضرورى أن يكون الإكراه بالوعيد بالإيذاء المادى، بل يكفى لوجود الإكراه الوعيد بالمنع من استعمال الحقوق، فمن يمنع زوجته من زيارة أهلها إلا إذا أقرت بجريمة، ومن يمنع ابنته من الزفاف أو الذهاب إلى دار الزوجية إلا إذا اعترفت بجريمة فإنه يحملها على الإقرار كرهًا (4) .
كذلك من يمنع عن آخر طعامه أو شرابه حتى يقر بجريمة فإنه يعتبر مكرهًا فى إقراره. وأمر صاحب السلطان يعتبر فى ذاته إكراهًا دون حاجة إلى اقترانه بالوعيد أو التهديد، وأمر غيره إكراهًا إلا إذا كان المأمور يعلم أنه إن لم يطع وقعت عليه وسائل الإكراه (5) .
وأمر الزوج لزوجته فى حكم أمر السلطان إن كانت تخشى الأذى إذا لم
(1) مواهب الجليل ج4 ص45.
(2)
حاشية ابن عابدين ج5 ص110 ، أسنى المطالب وحاشية الشهاب ج3 ص283.
(3)
الإقناع ج4 ص4.
(4)
حاشية ابن عابدين ج5 ص120.
(5)
حاشية ابن عابدين ج5 ص112.
تطعه فإن أطاعته وهى لا تخشى أذى إذا لم تطعه فلا يعتبر الأمر إكراهًا (1) .
والوعيد بإتلاف المال إكراه عند مالك والشافعى إذا لم يكن المال يسيرًا، فإن كان المال يسيرًا فلا إكراه. وتقدير ما إذا كان المال يسيرًا أو غير يسير يرجع فيه إلى الشخص نفسه ومقدار ثروته، فقد يكون المال يسيرًا بالنسبة لشخص وغير يسير بالنسبة لآخر (2) .
والأصل فى مذهب أبى حنيفة أن الوعيد بإتلاف المال ليس إكراهًا ولو كان إتلاف المال يلحق ضررًا جسيمًا بصاحبه؛ لأن محل الإكراه الأشخاص لا الأموال. ولكن بعض فقهاء الحنفية يرون الوعيد بإتلاف المال إكراهًا، وأصحاب هذا الرأى يختلفون فيما بينهم، فيشترط بعضهم أن يكون الوعيد بإتلاف كل المال ليكون إكراهًا، والبعض لا يشترط إتلاف كل المال ويكفى لاعتبار الإكراه قائمًا أن يكون الوعيد بإتلاف جزء من المال يستضر بإتلافه (3) .
ويجب أن يكون الوعيد بفعل محذور أى غير مشروع، فإن كان الفعل المهدد به مشروعًا فلا يعتبر الإكراه قائمًا، فمن كان محكومًا عليه بالجلد أو الحبس فهدد بتنفيذ العقوبة عليه إن لم يرتكب جريمة فارتكبها فعليه عقوبتها ولا يعتبر أنه كان فى حالة إكراه لأن الفعل الذى هدد به مشروع (4) .
431-
ثانيًا: أن يكون الوعيد بأمر حال يوشك أن يقع إن لم يستجب المكره: فإن كان الوعيد بأمر غير حالًّ فليس ثمة إكراه لأن المكرَه لديه من الوقت ما يسمح له بحماية نفسه فيلجأ للسلطات العامة أو يهرب من المكره،
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص120.
(2)
مواهب الجليل ج4 ص45 ، أسنى المطالب ج3 ص283 ، الإقناع ج4 ص4.
(3)
البحر الرائق ج8 ص82 ، بدائع الصنائع ج7 ص176 وما بعدها ، حاشية ابن عابدين ج5 ص110 ، 121.
(4)
حاشية ابن عابدين ج5 ص120 ، أسنى المطلب ج3 ص282 ، المغنى ج8 ص260.
ولأنه ليس فى الوعيد غير الحال ما يحمله على المسارعة بتلبية طلب المكره ويرجع فى تقدير ما إذا كان الوعيد حالاً أو غير حالًّ إلى ظروف المكره وإلى ظنه الغالب المبنى على أسباب معقولة، ويعتبر الوعيد حالاً كلما عجز المكره عن الهرب والمقاومة والاستغاثة بغيره إلى غير ذلك من أنواع الدفع (1) .
وإذا كان الوعيد بأمر آجل فإنه لا يعتبر إكراهًا كقوله: لأضربنك غدًا إن لم تقر بكذا أو تفعل كذا. ولكن الأذرعى من فقهاء الشافعية يرى أن فى النفس من هذه المسالة شيئًا وأنه إذا غلب على ظن المقر إيقاع ما هدد به لو لم يفعل فإنه يعتبر مكرهًا ولاسيما إذا عرف أن من عادة المهدد إيقاع ذلك الوعيد (2) .
432-
ثالثًا: أن يكون المكره قادرًا على تحقيق وعيده: لأن الإكراه لا يتحقق إلا بالقدرة فإن لم يكن المكره قادرًا على فعل ما هدد به فلا إكراه، ولا يشترط فى المكره أن يكون ذا سلطان كحاكم أو موظف؛ لأن العبرة بالقدرة على الفعل المهدد به لا بصفة المكره (3) .
433-
رابعًا: أن يغلب على ظن المكرهَ أنه إذا لم يجب إلى ما دعى إليه تحقق ما أوعد به: فإن كان يعتقد أن المكره غير جاد فيما أوعد به أو كان يستطيع أن يتفادى الوعيد بأى طريقة كانت ثم أتى الفعل بعد ذلك فإنه لا يعتبر مكرهًا، ويجب أن يكون ظن المكره مبنيًا على أسباب معقولة (4) .
432-
حكم إقرار المكرَه: وإذا توفر الإكراه على الوجه السابق وأقر المكره على نفسه بجريمة فإن إقراره يكون باطلاً ولا يؤخذ به لقوله تعالى: {إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتى
(1) أسنى المطالب ج3 ص282 ، المغنى ج8 ص261 ، حاشية ابن عابدين ج5 ص109.
(2)
أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص283.
(3)
حاشية ابن عابدين ج5 ص109 ، المغنى ج8 ص261 ، أسنى المطالب ج3 ص282.
(4)
أسنى المطالب ج3 ص282 ، المغنى ج8 ص261 ، حاشية ابن عابدين ج5 ص109.
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ولأنه قول أكره عليه بغير حق، والأصل أن العاقل لا يتهم بقصد الإضرار بنفسه، فإذا أقر مختارًا قُبل إقراره لانتفاء التهمة ولوجود الداعى إلى الصدق، ولكن إذا اُكره الشخص على الإقرار فأقر فإنه يغلب على الظن أنه قصد بإقراره دفع ضرر الإكراه فانتفى ظن الصدق فلم يقبل إقراره، فإذا أقر بقتل أو قطع أو سرقة أو غير ذلك تحت تأثير الإكراه لم يجب عليه بإقراره عقاب (1) لاحتمال كذب الإقرار ومما يؤثر فى هذا الباب قول عمر رضى الله عنه: "ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أجعته أو ضربته أو أوثقته" أو على حسب ما يرويه البعض: "ليس الرجل على نفسه بأمين إن جوَّعت أو خوَّفت أو أوثقت"، ومما يؤثر عن شريح أنه كان يقول: "القيد كره، والسجن كره، والوعيد والضرب كره" (2)، ويؤثر عن ابن شهاب أنه قال فى رجل اعترف بعد جلده: ليس عليه حد (3) .
وإذا أقر فى حال الإكراه بغير ما أكره مثل أن يكره على الإقرار بجريمة ما فيقر بأخرى فإقراره فيما يتعلق بهذه الجريمة الأخرى صحيح لأنه أقر بما لم يكره عليه فصح كما لو أقر به ابتداء دون إكراه (4) .
أما إقراره بالجريمة التى أكره على الإقرار بها فهو إقرار باطل لا يؤخذ به، إلا أن يقر ثانية بالجريمة بعد إخلاء سبيله وهو مختار غير مكره فإنه يؤخذ بإقراره الجديد (5) .
435-
والإقرار الصادر تحت تأثير الإكراه باطل ولو قامت الدلائل على صحته، كأن يرشد السارق عن المسروقات أو القاتل عن جثة القتيل، فإذا
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 ، البحر الرائءق ج8 ص80 ، المغنى ج10 ص172 ، ج5 ص272 ، 373 ، أسنى المطالب ج2 ص290 وما بعدها ، مواهب الجليل ج4 ص44 ، 45.
(2)
المبسوط للسرسخى ج9 ص185.
(3)
المغنى ج10 ص172.
(4)
المغنى ج5 ص273.
(5)
حاشية ابن عابدين ج5 ص120 ، بدائع الصنائع ج7 ص189.
استمر على إقراره بعد أن أصبح فى أمن من الإكراه اعتبر استمراره إقرارًا جديدًا، وهذا متفق عليه إلا من القائلين فى مذهب مالك بصحة إقرار المكره، وما يؤثر فى هذا الباب أن الحسن بن زياد الفقيه الحنفى قال بجواز ضرب السارق حتى يقر، ضربًا لا يقطع اللحم ولا يبين العظم، وأفتى مرة بهذا ثم ندم وأتبع السائل إلى باب الأمير فوجده قد ضرب السارق حتى أقر بالمال المسروق وجاء به، ومع ذلك فقد خرج المحسن بن زياد وهو يقول: ما رأيت جورًا أشبه بالحق من هذا (1) .
436-
ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى أنه إذا ضرب ليقر فهذا إكراه، أما إذا ضرب ليصدق فى القضية فأقر حال الضرب أو بعده فإقراره صحيح ولا يعتبر مكرهًا، لأن المكره من أكره على شئ واحد وهو هنا إنما ضرب ليصدق ولا ينحصر الصدق فى الإقرار، ولكن أصحاب هذا الرأى يكرهون مع هذا أن يلزم المقر بإقراره إلا بعد أن يراجع ويقر ثانيًا من غير أن يضرب أو يهدد. ويؤخذ على أصحاب هذا الرأى تمسكهم بالإقرار الثانى مع أن هذا الإقرار الثانى فيه نظر إذا غلبت على ظنه أنه إذا أنكر أعيد ضربه، والرأى الراجح فى المذهب هو عدم قبول الإقرارين لأنهما صادران من مكره (2) .
437-
ومن ادعى الإكراه لا تقبل دعواه لمجرد ادعائه؛ لأن الأصل عدم الإكراه، إلا أن تكون هناك قرينة على صحة الادعاء، كالقيد والحبس والقبض والوضع تحت الحراسة، فى مثل هذه الحالات تقبل دعوى الإكراه ولمن يدعيه أن يثبته، ويستوى فى هذه الحال أن يكون القبض والحبس والقيد بحق أو بغير حق، كحالة الحبس الاحتياطى، وكحالة القبض بغير حق (3) .
(1) المبسوط للسرخسى ج9 ص180.
(2)
أسنى المطالب ج2 ص290 ، 291.
(3)
أسنى المطالب ج2 ص299 ، المغنى ج5 ص273.
وإذا أكره حاكم أو قاض شخصًا ليقر بجريمة عقوبتها القتل أو القطع كالقتل والسرقة فأقر بها وقتل أو قطعت يده اقتص ممن أكرهه (1) .
438-
رجوع المقر عن إقراره: وإذا كان الإقرار صادرًا من غير إكراه فعدل عنه المقر، قُبل منه الرجوع عن إقراره فيما كان حقًا لله تعالى يدرأ بالشبهات ويحتاط لإسقاطه، فأما حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى التى لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات فلا يقبل منه الرجوع عن إقراره بها، وهذه القاعدة متفق عليها، فإذا أقر بزنا ثم عدل عن إقراره لم يؤخذ بإقراره لأن الزنا متعلق بحقوق الله تعالى التى تدرأ بالشبهات ويحتاط لإسقاطها، أما إذا أقر بقتل أو جرح أو قطع أو إسقاط جنين، فإنه يؤاخذ بإقراره ولو عدل عنه لأن الجنايات الواقعة على النفس وما دونها وعلى الجنين كلها متعلقة بحقوق الآدميين ولو أن بعضها يعاقب عليه بالقصاص، ولو أن القصاص مما يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات (2) . لكن إذا ثبت أن الإقرار مكذوب فلا يؤاخذ المقر بإقراره سواء عدل عنه أو لم يعدل، وسواء كان متعلقًا بحقوق الله تعالى أو بحقوق الآدميين.
وعدول المقر عن إقراره لا أثر له أيًا كان نوع الجريمة التى أقر بها ما دامت الجريمة ثابتة قَبل المقر بغير الإقرار، كأن تكون ثابتة بشهادة الشهود.
* * *
الشهادة
439-
الشهادة هى الطريق المعتاد لإثبات الجرائم: وأغلب الجرائم تثبت عن طريق الشهادة وأقلها يثبت بغير الشهادة من طرق الإثبات، ولهذا كان للشهادة كطريق من طرق الإثبات أهمية كبرى فى إثبات الجرائم.
والأصل فى الشهادة الكتاب والسنة:
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 ، بدائع الصنائع ج7 ص189 ، 190.
(2)
شرح الزرقانى ج8 ص107 ، بدتئع الصنائع ج7 ص232 ، 233 ، حاشية الطهطاوى ج3 ص346 ، أسنى المطالب ج4 ص150 ، المغنى ج2 ص288.
الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق:2]، وقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] .
وأما السنة: فما روى وائل بن حجر قال: "جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمى: يا رسول الله هذا غلبنى على أرض لى، فقال الكندى: هى أرضى وفى يدى فليس له فيها حق، فقال النبى صلى الله عليه وسلم للحضرمى: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه"(1) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته"(2) .
ويفرق الفقهاء فى إثبات القتل والجراح بين الجرائم التى توجب عقوبة بدنية كالقصاص أو الجلد والحبس أو غيرهما من العقوبات البدنية التعزيرية وبين الجرائم التى توجب عقوبة مالية كالدية والغرامة.
440-
الجرائم التى توجب عقوبة بدنية: العقوبة البدنية إما أن تكون القصاص وإما أن تكون عقوبة تعزيرية.
إثبات الجرائم الموجبة للقصاص: يشترط الفقهاء فى إثبات الجرائم الموجبة للقصاص بالشهادة أن يشهد بالجريمة رجلان عدلان، ولا يقبل الفقهاء فى إثبات هذا النوع من الجرائم شهادة رجل وامرأتين ولا شهادة شاهد ويمين المجنى عليه، وذلك لأن القصاص إراقة دم عقوبة على جناية فيحتاط له لدرئه باشتراط الشاهدين العدلين كالحدود، وهذا هو رأى جمهور الفقهاء (3) .
ويرى الأوزاعى والزهرى أن الجريمة التى توجب القصاص تثبت بما تثبت به الأموال، فيكفى فى إثباتها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، ويؤيد الشوكانى هذا الرأى (4) .
(1) المغنى ج12 ص2.
(2)
نيل الأوطار ج6 ص310.
(3)
مواهب الجليل ج6 ص275 ، حاشية الطهطاوى ج3 ص220 ، أسنى المطالب ج4 ص105 ، المغنى ج7 ص41.
(4)
نيل الأوطار ج6 ص311.
441-
ومن يشترط الشاهدين فيما يوجب القصاص لا يفرق بين القصاص فى النفس والقصاص فيما دون النفس، ويوجب فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص مطلقًا شهادة رجلين عدلين، إلا مالكًا فإنه لا يوجب شهادة العدلين إلا فى القصاص فى النفس فقط، أما إذا كان القصاص فيما دون النفس فيجيز مالك إثبات الجريمة الموجبة للقصاص بشاهد واحد ويمين المجنى عليه، ولا يقيس مالك الجراح بالأموال وإنما هو مبدأ أخذ به لأنه استحسنه، وقد سئل ابن القاسم فى هذا فقيل له: لم قال مالك ذلك فى جراح العمد وليست بمال؟ قال: قد كلمت مالكًا فى ذلك فقال: إنه شئ استحسناه، وما سمعت فيه شئيًا (1) .
ويرى بعض الفقهاء فى مذهب مالك جواز شهادة المرأتين ويمين المدعى فى جراح العمد، ولا يرى البعض ذلك (2) .
والشاهدان اللذان تثبت بشهادتهما الجريمة الموجبة للقصاص ليس أحدهما المجنى عليه، فإذا كان شاهد واحد والمجنى عليه لم يكمل نصاب الشهادة لأن المجنى عليه يعتبر مدعيًا لا شاهدًا وأقواله تصلح لَوْثًا أى قرينة ولكنها لا تقوم مقام الشهادة.
أما فى حالة إثبات الجريمة الموجبة للقصاص فيما دون النفس بشاهد ويمين المجنى عليه تبعًا لرأى مالك فإن الجريمة تثبت بشهادة الشاهد الواحد ولا يعتبر المجنى عليه شاهدًا ثانيًا ولو أنه يؤدى اليمين لأنه لا يسأل كشاهد، وإنما يحلف اليمين على صحة شهادة الشاهد، فاليمين مقصود بها تقوية شهادة الشاهد.
وهناك من الفقهاء من لا يشترط نصابًا معينًا فى الشهود فيكفى عنده لإثبات الجريمة الموجبة للقصاص أن يشهد بها شاهد واحد إذا رجح القاضى صدق شهادته (3) ، والذين يشترطون شهادة رجلين فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص
(1) مواهب الجليل ج6 ص275 ، شرح الزرقانى ج8 ص59.
(2)
تبصرة الحكام ج1 ص241.
(3)
الطرق الحكمية ص66 - 78 ، طرق الإثبات الشرعية ص181.
لا يجيزون إثبات الجريمة بأقل من ذلك ولو عفا المجنى عليه أو وليه عن القصاص إلى الدية وهى مال، وما يوجب المال يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبشهادة رجل ويمين المدعي؛ على التفصيل الذى سنذكره فيما بعد، وحجتهم أن الواجب بالجناية أصلاً هو القصاص لا الدية وإنما وجبت الدية بالعفو أو الصلح والعفو والصلح كلاهما حق ثابت للمجنى عليه أو وليه، أما طريقة الإثبات فليست من حقه بل هى حق الجماعة، وهذا لا يؤدى العفو أو الصلح فى العمد إلى جواز الإثبات بما يثبت به المال، وفضلاً عن ذلك فإنه يجب أن يثبت للمجنى عليه حق القصاص قبل كل شئ حتى يثبت له العفو أو الصلح عن هذا الحق (1) .
442-
الجرائم التى توجب تعزيرا بدنيًا: إذا أوجبت الجريمة التعزير البدنى مع القصاص فيشترط فى إثباتها ما يشترط فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص، وقد بينا ما يشترطه الفقهاء على اختلاف وجهات نظرهم.
أما إذا أوجبت الجريمة التعزير البدنى دون القصاص فيرى الشافعى وأحمد أن الجريمة لا تثبت إلا بما تثبت به الجريمة الموجبة للقصاص أى بشهادة رجلين عدلين؛ لأن العقوبات البدنية خطيرة فيجب الاحتياط فيها بقدر الإمكان فلا تثبت بما تثبت به الأموال من شهادة رجل وامرأتين وشهادة رجل ويمين المجنى عليه (2) .
443-
والأصل عند مالك أن العقوبات البدنية لا تكون إلا بشهادة رجلين ولكنه أجاز فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص فيما دون النفس أن تثبت بشهادة رجل واحد ويمين المجنى عليه، وأوجب على الجانى فى الوقت نفسه عقوبة التعزير مع عقوبة القصاص (3) .
ومعنى هذا أن عقوبة التعزير البدنية تثبت والجريمة الموجبة لها بشاهد ويمين المدعى، ويمكن القول بأن القصاص أشد من التعزير فإذا تبتت الجريمة الموجبة
(1) أسنى المطالب ج4 ص105 ، المغنى ج10 ص42.
(2)
أسنى المطالب ج4 ص360 ، الإقناع ج4 ص445.
(3)
مواهب الجليل ج6 ص247.
للقصاص بشاهد ويمين فأولى أن تثبت بذلك الجريمة الموجبة للتعزير. كما يمكن القول بأنه إذا ثبتت الجريمة الموجبة للتعزير البدنى فى الجراح بشاهد ويمين فإن كل جريمة أخرى موجبة للتعزير البدنى يصح أن تثبت بشاهد ويمين قياسًا على هذا. ويرى بعض المالكية التعزير فى بعض الجرائم بشهادة شاهد واحد دون يمين (1) .
444-
والأصل فى مذهب أبى حنيفة أن العقوبات البدنية لا تثبت بأقل من شاهدين عدلين ولكنهم يجيزون فى التعزير أن يكون أحد الشاهدين هو المجنى عليه ويقبلون فيه شهادة رجل وامرأتين على خلاف بين أبى حنيفة وصاحبيه، بل يرون أنه يكفى للتعزير شهادة شاهد وأحد عدل (2) ، أو شهادة المدعى وحده مع نكول الجانى عن اليمين (3) ، والنكول ليس إلا قرينة تقوى شهادة المجنى عليه الذى لا يعتبر فى الأصل شاهدًا تبعًا لقواعد الشريعة كذلك يجيزون إثبات جرائم التعزير بالشهادة على الشهادة بل يكتفون فى التعزير بعلم القاضى (4) .
445-
إثبات الجرائم الموجبة لعقوبة مالية: تثبت الجرائم التى توجب عقوبة مالية كالدية أو الغرامة بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شهادة رجل واحد ويمين المدعى، وكل ما شرع فيه اليمين والشاهد يثبت بشهادة الشاهد ونكول المدعى عليه (5) ، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد، وحجتهما أنها شهادة عكس ما يقصد به المال والمال يثبت على هذا الوجه فوجب أن تقبل هذه الشهادة فى كل قتل أو جرح موجب للمال كما يقبل فى البيع والإجازة، ولا تقاس الشهادة فى الجناية الموجبة للمال بالشهادة فى الجناية الموجبة للقصاص؛ لأن القصاص عقوبة يحتاط لإسقاطها ودرئها فاحتيط فى الشهادة على أسبابها (6) .
(1) تبصرة الحكام ج1 ص260 ، 261.
(2)
حاشية ابن عابدين ج3 ص258 ، 259.
(3)
شرح فتح القدير ج3 ص213.
(4)
حاشية ابن عابدين ج3 ص258 ، 260.
(5)
المغنى ج12 ص12.
(6)
المغنى ج10 ص42 ، أسنى المطالب ج4 ص105 ، الإقناع ج4 ص246.
ويرى بعض الحنابلة أن الجناية سواء أوجبت القصاص أو غير القصاص لا تثبت بشهادة رجل وامرأتين ولا بشهادة رجل واحد ويمين المدعى، وإنما تثبت بشهادة رجلين كما يثبت القصاص والحدود، فلا معنى للتفرقة بين جنايتين ومن نوع تقعان على آدمى (1) .
ويرى المالكيون أن الجرائم التى توجب عقوبة مالية تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شهادة رجل واحد ويمين المدعى أو شهادة امرأتين ويمين المدعى (2) .
446-
ويختلف رأى الشافعى وأحمد عن رأى مالك فى أن مالكًا يجيز شهادة المرأتين واليمين ولا يجيزها الشافعى وأحمد. وحجة مالك أن المرأتين أقيمتا مقام الرجل فى الأموال فيقاما مقامه فيما يوجب المال من الجرائم. وحجة الشافعى وأحمد أن البينة على المال إذا خلت من رجل لم تقبل كما لو شهد أربع نسوة، وأن شهادة المرأتين ضعيفة فقويت بشهادة الرجل معهما، واليمين ضعيفة فلو شهدت المرأتان مع اليمين لضم ضعيف إلى ضعيف (3) .
447-
ويرى أبو حنيفة وأصحابه أن ما يوجب المال يثبت بشهادة رجلين أو بشهادة رجل وامرأتين ولا يثبت بشاهد ويمين ولا بامرأتين ويمين (4)، وحجتهم أن الله تعالى قال:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] فمن زاد على ذلك فقد زاد على النص والزيادة فى النص نسخ، ولأن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"البينة على المدعى واليمين على من أنكر" فحصر اليمين فى جانب المدعى عليه كما حصر البينة فى جانب المدعى. ويرد على الحنفيين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد الواحد واليمين وأن الزيادة فى النص ليست نسخًا وإنما هى تعزير له، وأن الحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه وأن الآية واردة فى شهادة التحمل لا فى شهادة الأداء ولذا قال تعالى:
(1) المغنى ج10 ص42 ، المغنى ج12 ص9.
(2)
تبصرة الحكام ج1 ص241.
(3)
المغنى ج12 ص13.
(4)
حاشية ابن عابدين ج4 ص515 ، 516 ، حاشية الطهطاوى ج3 ص221.
{أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] فالنزاع فى الأداء لا فى التحمل.
والحديث الذى يتمسك به الحنفية ضعيف وليس هو للحصر، بدليل أن اليمين تشرع فى حق المودع إذا ادعى رد الوديعة وتلفها، وفى حق الأمناء لظهور خياناتهم، وفى حق الملاعن، وفى القسامة وغير ذلك (1) .
ولقد شرعت اليمين من جانب المدعى عليه حيث لم يترجح جانب المدعى بشئ إلا مجرد الادعاء، ففى هذه الحالة يكون جانب المدعى عليه أولى باليمين لقوته بأصل براءة الذمة فكان هو أقوى المتداعين باستصحاب هذا الأصل، فإذا ترجع جانب المدعى بلَوْث أو نكول أو شهادة شاهد كان أولى باليمين لقوة جانبه بذلك، فاليمين مشروعة إذن فى جانب أقوى المتداعين (2) .
ويلاحظ أن الجرائم التى توجب عقوبة تعزيرية مالية تثبت عند الحنفية بما تثبت به الجرائم التى توجب عقوبة تعزيرية بدنية، فلا فرق فى إثبات الجرائم التعزيرية ولو تنوعت عقوباتها واختلفت.
ويلاحظ أيضًا أن الحنفيين يتشددون فى إثبات الجرائم الموجبة للحدود والقصاص والعقوبات المالية غير التعزيرية بينما يتساهلون فى إثبات الجرائم الموجبة لعقوبة تعزيرية، بل إنهم يتساهلون فى إثبات هذا النوع من الجرائم أكثر مما يتساهلون فى إثبات العقود المالية المحضة، ولعل مرجع ذلك التساهل إلى أن الجرائم التعزيرية هى أكثر الجرائم وقوعًا والعقوبات التعزيرية هى أكثر العقوبات تطبيقًا، فوجب التساهل فى إثبات هذه الجرائم حرصًا على مصلحة الجماعة وصيانة لنظامها.
448-
ويرى ابن القيم أن الجرائم الموجبة للعقوبات المالية تثبت بشهادة شاهد واحد دون يمين كلما وثق به القاضى (3) .
ويجيز الفقهاء عامة شهادة الرجل الواحد أو المرأة الواحدة للضرورة ويقبلون مثل
(1) المغنى ج12 ص10 ، 11.
(2)
الطرق الحكمية ص66 ، 75.
(3)
الطرق الحكيمة ص66 ، 88.
هذه الشهادة فى إثبات نفس الجريمة كشهادة المعلم على الجرائم التى تقع بين الصبيان وكشهادة المرأة على جريمة وقعت فى حمام ويقبلون شهادة الرجل الواحد والمرأة الواحدة كذلك فى إثبات أثر الجريمة ونتائجها كشهادة الطبيب أو الداية على أن الضرب أحدث جرحًا داخليًا بالرحم، وكشهادة الطبيب بأن الضرب أو الجرح نشأ عنه فقد منفعة عضو من الأعضاء.
ويقبل الفقهاء شهادة الرجل الواحد والمرأة الواحدة للضرورة سواء كانت الجريمة مما يوجب عقوبة بدنية كالقصاص أو عقوبة مالية كالدية (1) .
449-
ولا تثبت الجريمة بالشهادة إلا مع زوال الشبهة وانتفاء الشك: فيجب أن تكون الشهادة مثبتة للجريمة بصفة قاطعة، فإذا لم تكن كذلك بطلت الشهادة ما لم يكن بعض الشهادة متيقنًا ففى هذه الحالة يثبت القدر المتيقن، فمن شهد بأنه رأى جماعة يضربون شخصًا قطع ذراعه أثناء الحادث ولم يشهد بمن قطع الذراع فلا يثبت قطع الذراع ضد أحدهم ولكن يثبت الضرب عليهم لأنه القدر المتيقن أى المقطوع به فى أقوال الشاهد. ومما يؤثر فى هذا الباب أن شريحًا شهد عنده رجل بالقتل فقال: أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه فمات، فقال له شريح: فمات منه؟ فأعاد الرجل قوله الأول فقال له شريح: قم فلا شهادة لك (2) .
القسامة
450-
معنى القسامة: القسامة معناها لغة: القَسَم أى اليمين، وهى تعنى أيضًا الوسامة، فيقال: فلان قسيم أى وسيم، ويذهب أهل اللغة إلى أنها القوم الذين يحلفون سُمُّوا باسم المصدر، كما يقال: رجل رضًى ورجل عَدْل.
ومعنى القسامة فى اصطلاح الفقهاء: الأيمان المكررة فى دعوى القتل، يقسم
(1) تبصرة الحكام ج1 ص258 ، 262 ، حاشية الطهطاوى ج3 ص221 ، 235 ، أسنى المطالب ج4 ص360 ، 363 ، المغنى ج10 ص15 ، 18.
(2)
المغنى ج10 ص43 ، أسنى المطالب ج4 ص105.
بها أولياء القتيل لإثبات القتل على المتهم، أو يقسم بها المتهم على نفى القتل عنه (1) .
مصدر القسامة التشريعى: كانت القسامة طريقًا من طرق الإثبات فى الجاهلية فأقرها الإسلام، فقد روى أحمد ومسلم والنسائى عن أبى سلمة بن عبر الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أنه أقر القسامة على ما كانت عليه فى الجاهلية.
وعن سهل بن أبى حَثْمَة قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومُحيِّصة بن مسعود إلى خيبر وهى يومئذ صلح فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط فى دمه قتيلاً فدفنه ثم قدم إلى المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومُحيِّصة وحوُيِّصة ابنا مسعود إلى النبى صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: كَبِّرْ كَبِّرْ، وهو أحدث القوم فسكت، فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم؟ فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد شيئًا ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟ فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبى صلى الله عليه وسلم من عنده" رواه الجماعة. وفى رواية متفق عليها: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته. فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم. قالوا: يا رسول الله قوم كفار
…
" وذكر الحديث بنحوه، وهو حجة لمن قال: لا يقسمون على أكثر من واحد، وفى لفظ لأحمد: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينًا ثم نسلمه".
وفى رواية متفق عليها: "فقال لهم: تأتون بالبنية على من قتله. فقالوا ما لنا من بينة. قال: فيحلفون. قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة"(2) . وروى الإمام أحمد عن
(1) بدائع الصنائع ج7 ص286 ، أسنى المطالب ج4 ص98 ، المغنى ج10 ص2 ، طرق الغثبات الشرعية ص484 ، نيل الأوطار ج6 ص311.
(2)
نيل الأوطار ج6 ص311 ، 312.
أبى سعيد الخدرى قال: وجُد قتيل بين قريتين فأمر النبى صلى الله عليه وسلم فذرع بينهما فوُجد إلى أحدهما أقرب فألقاه إلى أقربهما؛ أى حملهم ديته. وكذلك روى عن عمر رضى الله عنه فى قتيل وُجد بين وازعة وأرحب وكتب إليه عامله بذلك، فكتب إليه عمر أن قس بين القريتين فأيهما كان أقرب فألزمهم، فوجد القتيل إلى وازعة أقرب فأُلزموا القسامة والدية (1) . وأخرج عبد الرزاق وابن أبى شيبة والبيهقى عن الشعبى أن قتيلاً وُجد بين وادعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب فأحلفهم عمر خمسين يمينًا كل رجل ما قتلته ولا علمت له قاتلاً ثم أغرمهم الدية، فقالوا: يا أمير المؤمنين لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا، فقال عمر: كذلك الحق. وأخرج نحوه الدارقطنى والبيهقى عن سعيد بن المسيب، وفيه أن عمر قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم (2) . وفى رواية أخرى أنهم قالوا: أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال عمر: أما أيمانكم فلحقن دمائكم وأما أموالكم فلوجود القتيل بين أظهركم (3) .
وأخرج البخارى والنسائى عن ابن عباس أن أول قسامة كانت فى الجاهلية فى بنى هاشم، كان رجل من بنى هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه فى إبله، فمر به رجل من بنى هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثنى بعقال أشد به عروة جوالقى لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالاً فشد به عروة جوالقة فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرًا واحدًا، فقال الذى استأجره: ما بال هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؟ فحذفه بعصًا كان فيه أجله، فمر به رجل من أهل اليمين فقال: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهده وربما شهدته، قال: هل أنت مبلغ عنى رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم، قال: فإذا شهدت فناد يا قريش، فإذا أجابوك فناد ى آل بنى هاشم، فإن أجابوك فسل عن أبى
(1) بدائع الصنائع ج7 ص292 ، طرق الغثبات الشرعية ص448.
(2)
نيل الأوطار ج6 ص214.
(3)
بدائع الصنائع ج7 ص291.
طالب فأخبره أن فلانًا قتلنى فى عقال، ومات المستأجر، فلما قدم الذى استأجره أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه ووليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك. فمكث حينًا ثم إن الرجل الذى أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم فقال: يا قريش، قالوا: هذه قريش، قال: يا آل بنى هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرنى فلان أن أبلغك رسالة أن فلانًا قتله فى عقال. فأتاه أبو طالب فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدى مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به، فأتى قومه فأخبرهم فقالوا نحلف، فأتته امرأة من بنى هاشم كانت تحت رجل منهم كانت قد ولدت منه فقالت: يا أبا طالب أحب أن تجير ابنى هذا برجل من الخمسين ولا تصير يمينه حيث تصير الأيمان، ففعل فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان مائة من الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران، هذان البعيران فاقبلهما منى ولا تصير يمينى حيث تصير الأيمان، فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا.
قال ابن عباس: فوالذى نفسى بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف (1) .
451-
اختلاف الفقهاء فى شرعية القسامة: وبالرغم من النصوص السابقة فإن الفقهاء اختلفوا فى القسامة، فرأى الجمهور أن يعتبر القسامة كطريق من طرق الإثبات فى جريمة القتل وعلى الأخص فقهاء المذاهب الأربعة والمذهب الظاهرى والمذهب الشيعى، وأنكر بعض الفقهاء القسامة ومنهم سالم بن عبد الله وأبو قلابة وعمر بن عبد العزيز وابن علّية ويرى هؤلاء أنه لا يجوز الحكم بمقتضى القسامة لأنها مخالفة لأصول التشريع الإسلامى، إذ الأصل فى الشريعة أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعًا أو شاهد حسًا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتيل بل قد
(1) نيل الأوطار ج6 ص312 ، 313 ، طرق الإثبات الشرعية ص478.
يكونون فى بلد والقتيل فى بلد آخر (1)
ومن حجتهم أن الأيمان ليس لها تأثير فى إشاطة الدماء وأن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، ولا يرى أصحاب هذا الرأى فى الأحاديث التى يستند إليها القائلون بالقسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالقسامة وإنما كانت القسامة حكمًا جاهليًا فتلطف لهم رسول الله ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام، ولذلك قال لهم: أتحلفون خمسين يمينًا - أعنى لولاة الدم وهم الأنصار - قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: فيحلف لكم اليهود، قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشهدوا لقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هى السنة، وإذا كانت هذه الآثار غير نص فى القسامة بالقسامة والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى (2) .
ويرد الفريق الآخر على هذه الحجج بأن القسامة سنة مقررة بنفسها مخصصة للأصول كسائر السنن المخصصة، وأنه يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال للأنصار:"تحلفون وتستحقون دم صاحبكم" وكانوا بالمدينة والقتيل بخيبر ولأن للإنسان أن يحلف على غالب ظنه كما أن من اشترى من إنسان شيئًا فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه لأن الظاهر أنه ملك الذى باعه، وكذلك
(1) لذلك روى البخارى عن أبى قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوماً للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه ، فقال: ما تقولون فى القسامة؟ فأضب القوم ، وقالوا: نقول إن القسامة القود بها حق ، قد اقاد بها الخلفاء ، فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونَصيَنَى للناس ، فقلت: يا أمير المؤمنين عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد أرأيت لو أن خمسين رجلاً شهدوا عندك على رجل أنه زنا بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا ، قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلاً شهدوا عندك على رجل أنه سرق بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟ قال: لا. وفى بعض الروايات: = =قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أقدت بشهاتهم؟ قال: فكتب عمر بن عبد العزيز فى القسامة أنهم إن أقاموا شاهدى عدل أن فلاناً فأقده ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا (بداية المجتهد ج2 ص357 ، طرق الإثبات الشرعية ص490) ..
(2)
بداية المجتهد ج2 ص358.
إذا وجد شيئًا بخطه أو بخط أبيه جاز أن يحلف ولو أنه لا يعلمه أو لا يذكره، وكذلك إذا باع شيئًا لم يعلم فيه عيبًا فادعى عليه المشترى أنه معيب وأراد رده كان له أن يحلف أنه باعه بريئًا من العيب، ولكن الحالف على كل حال لا يحلف إلا بعد الإثبات وغلبه ظن يقارب اليقين (1) .
452-
وليس ثمة ما يمنع من أن تكون الأيمان سبيلاً لإشاطة الدماء - أى إهدارها - ما دامت الأيمان تؤدى إلى إثبات الجريمة على الجانى لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته" وفى رواية مسلم: "يسلم إليكم" وفى لفظ: "وتستحقون دم صاحبكم" وأراد دم القاتل لأن دم القتيل ثابت لهم قبل اليمين. وإذا كانت القسامة طريق الإثبات العمد فقد وجب بها القصاص وهو عقوبة العامد كالبينة سواء بسواء، وقد روى الأثرم بإسناده عن عامر الأحوال أن النبى صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة فى الطائف، وهذا نص ولأن الشارع جعل القول قول المدعى مع يمينه احتياطًا للدم فإن لم يجب القود سقط هذا المعنى (2) . على أن أغلب القائلين بالقسامة لا يرون أن القسامة تؤدى للقصاص بل يرون أنها توجب الدية فقط، فالقسامة على رأى هؤلاء لا تؤدى لإشاطة الدماء.
453-
وأما أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر فإن بعض القائلين بالقسامة لا يخرجون على هذا الأصل كالحنفيين، فإنهم يرون اليمين دائمًا فى جانب المنكر حتى فى القسامة فيحلفون المدعى عليه، وأما القائلين بتحليف المدعى فالقاعدة عندهم أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعين، فأى الخصمين ترجح جانبه جعلت اليمين من جهته، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عرض القسامة أولاً على المدعين فلما أبوا جعلها فى جانب المدعى عليهم، وقد جعلت فى جانب المدعين لأن جانبهم ترجح باللوث (3) ، واليمين تكون
(1) الشرح الكبير ج10 ص5.
(2)
الشرح الكبير ج10 ص39 ، 40.
(3)
أعلام الموقعين ج1 ص118 ، الشرح الكبير ج10 ص28 وما بعدها.
فى جانب المدعى عليه إذا لم يترجح المدعى بشئ غير الدعوى، فيكون جانب المدعى عليه أولى باليمين لقوله بأصل براءة الذمة فكان هو أقوى المتداعين باستصحاب الأصل فكانت اليمين من جهته، فإذا ترجح المدعى بلوث أو بنكول أو شاهد كان أولى باليمين لقوة جانبه بذلك، فاليمين مشروعة فى جانب أقوى المتداعين فأيهما قوى جانبه شرعت اليمين فى حقه (1) .
وفضلاً عما سبق فإن حديث البينة على من ادعى واليمين على من أنكر روى عن ابن عبد البر بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بالصيغة الآتية: "البينة على المدعى واليمين على من أنكر إلا فى القسامة" فاستثنى الحديث القسامة وهذا الاستثناء زيادة فى الحديث يتعين العمل بها لأن الزيادة من الثقة مقبولة (2) .
454-
لماذا شرعت القسامة؟: الأصل فى القسامة أنها شرعت لحفظ الدماء وصيانتها، فالشريعة الإسلامية تحرص أشد الحرص على حفظ الدماء وصيانتها وعدم إهدارها، ولما كان القتل يكثر بينما تقل الشهادة عليه لأن القاتل يتحرى بالقتل مواضع الخلوات جعلت القسامة حتى لا يفلت المجرمون من العقاب وحتى تحفظ الدماء وتصان (3) .
ولقد كان من حرص الشريعة على حياطة الدماء ما دعا أحمد إلى القول بأن من مات من زحام الجمعة أو فى الطواف فديته فى بيت المال وبمثل هذا قال إسحاق، وقال به عمر وعلي؛ فإن سعيدًا يروى عن إبراهيم أن رجلاً قتل فى زحام الناس بعرفة، فجاء أهله إلى عمر فقال: بينتكم على من قتله، فقال على: يا أمير المؤمنين لا يُطَلُّ دم امرئ مسلم، إن علمتَ قاتله وإلا فأعطه ديته من بيت المال. وقال الحسن والزهرى فيمن مات من الزحام: ديته على من حضر لأن قتله حصل منهم (4) .
(1) الطرق الحكيمة ص74.
(2)
الشرح الكبير ج10 ص31.
(3)
بداية المجتهد ج2 ص358.
(4)
المغنى ج10 ص9 ، 10.
ولعل فى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذى قرر القسامة ما يؤيد هذا النظر، ففى رواية متفق عليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:"تأتون بالبينة على من قتله؟ فقالوا: ما لنا من بينة قال: فتحلفون؟ قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُطَلَّ دمه فوداه بمائه من إبل الصدقة"(1) ، وهذا ما جعل الحنابلة يرون أنه إذا لم يحلف المدعون ولم يرضوا يمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال، وما جعلهم يرون إلزام المدعى عليه الدية إذا نكل عن الحلف.
455-
والقسامة عند أبى حنيفة شرعت فوق ما سبق لعلاج التقصير فى النصرة وحفظ الموضع الذى وجد فيه القتيل ممن وجب عليه النصرة والحفظ لأن إذا وجب عليه الحفظ فلم يحفظ مع القدرة على الحفظ صار مقصرًا بترك الحفظ الواجب فيؤاخذ بالتقصير، زجرًا عن ذلك وحملاً على تحصيل الواجب وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان أولى بتحمل القسامة والدية؛ لأنه أولى بالحفظ فكان التقصير منه أبلغ. ولهذا يرى أبو حنيفة أن القتيل إذا وجد فى موضع اختص به واحد أو جمعة إما بالملك أو باليد ويتهمون أنهم قتلوه فعليهم شرعًا القسامة دفعًا للتهمة، والدية لوجود القتيل بين أظهرهم (2) .
456-
هل شرعت القسامة للإثبات أم لنفى؟: يرى مالك والشافعى وأحمد أن القسامة شرعت لإثبات الجريمة ضد الجانى كلما انعدمت أدلة الإثبات الأخرى أو لم تكن كافية بذاتها لإثبات الجريمة على الجانى، فإذا لم يكن مثلاً إلا شاهد واحد على القاتل أو لم يكن هناك شهود ولكن وجدت قرينة على أن القتل حصل من المتهم كان لولاة القتيل أن يثبتوا الجريمة على المتهم بطريق القسامة (3) .
ويرى أبو حنيفة أن القسامة دليلاً مثبتًا للفعل المحرم وإنما هى دليل
(1) نيل الأوطار ج6 ص312.
(2)
بدائع الصنائع ج7 ص290.
(3)
شرح الزرقانى ج8 ص59 ، نهاية المحتاج ج7 ص376 ، المغنى ج10 ص7.
نفى لأهل المحلة التى وجد فيها القتيل؛ لأن المدعين - طبقًا لرأيه - لا يحلفون وإنما يحلف أهل المحلة بالله ما قتلوه ليدرءوا عن أنفسهم القصاص، وفى الوقت ذاته تجب عليهم الدية لوجود القتيل بين أظهرهم ويأخذ أبو حنيفة بهذا الرأى لأنه يرى أن البينة دائمًا على من ادعى واليمين على من أنكر، فإذا لم يعترف أحد أهل المحلة بالقتل وأنكروا كانت عليهم القسامة لأنهم مدعى عليهم وهم يدفعون بالقسامة التهمة الموجهة إليهم فتكون القسامة دليل نفى لهم (1) .
457-
الجرائم التى تجوز فيها القسامة: من المتفق عليه أن القسامة لا تكون إلا فى جريمة القتل فقط، فلا قسامة فى جرح ولا فى قطع عضو أو فقد منفعة ولا قسامة فى ضرب أو إيذاء أو اعتداء أيًا كان نوعه ما لم يؤد للموت، ويستوى أن يكون القتل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ، ففى كل قتل أيًا كان نوعه القاسمة (2) .
متى تكون القسامة؟: لا محل للقسامة عند أبى حنيفة إلا إذا كان القاتل مجهولاً، فإن كان معلومًا فلا قسامة ويتبع فى إثبات الجريمة ونفيها طرق الإثبات العادية (3) .
458-
أما مالك والشافعى وأحمد فمحل القسامة عندهم أن يكون القاتل معينًا وأن يكون هناك لَوْث، فإن كان القاتل مجهولاً فلا قسامة عند الأئمة الثلاثة، ولكن الغزالى وهو من الفقهاء الشافعيين يرى أن لا بأس من أن يكون القاتل مجهولاً بين معينين فإن حكمه حكم المعين كما إذا اتهم ولى القتيل عشرة وقال: القاتل أحدهم (4) .
(1) بدائع الصنائع ج7 ص289 ، 291.
(2)
شرح الزرقانى ج8 ص50 ، بدائع الصنائع ج7 ص286 ، نهاية المحتاج ج7 ص372 ، الشرح الكبير ج10 ص3.
(3)
بدائع الصنائع ج7 ص288.
(4)
شرح الزرقانى ج8 ص50 ، أسنى المطالب ج4 ص99 ، نهاية المحتاج ج7 ص368 ، المغنى ج10 ص4.
واللوث عند مالك والشافعى هو أمر ينشأ عن غلبة الظن بصدق المدعى (1) ، أو هو قرينة توقع فى القلب صدق المدعى (2) ، كوجود جثة القتيل فى محلة أعدائه، أو تفرق جماعة عن قتيل، أو رؤية المتهم على رأس القتيل ومعه سكين، وقول واحد ممن تقبل شهادته لوث.
وهناك خلاف بين المالكية والشافعية على ما يعتبر لوثًا، فالمالكية يعتبرون ادعاء المجنى عليه على المتهم قبل وفاته لوثًا ولا يعتبره الشافعيون كذلك، والإشاعة المتواترة لوث عند الشافعيين وليست كذلك عند المالكيين (3) .
واللوث عند أحمد على الرواية المرجوحة هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وما بين أهل العدل وما بين الشرطة واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغْنٌ يغلب على الظن أنه قتله.
واللوث على الرواية الراجحة هو ما يغلب على الظن صدق المدعى كالعداوة المذكورة سابقًا، وكأن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثًا فى حق كل واحد منهم، وكأن يزدحم الناس فى مضيق فيوجد فيهم قتيل، وكأن يوجد قتيل ولا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن أنه قتله، وهذا الرأى الثانى موافق لما يراه مالك والشافعى (4) ، وتعدد اللوث لا يمنع من القسامة كما لو قال المجنى عليه قبل موته قتلنى فلان، وكان هناك شاهد عدل يشهد بأنه رأى المتهم يقتل المجنى عليه فالقسامة واجبة مع تعدد اللوث ولا ينفى تعدد اللوث عنها إلا عند من يأخذون بالقرائن ويرونها كافية وحدها لإثبات الجريمة (5) ، وإذا وجد قتيل ولم يكن لوث فلا قسامة عند مالك والشافعى وأحمد وإن عين أولياء القاتل، والدعوى فى هذه الحالة كسائر الدعاوى إن كانت بينة
(1) شرح الزرقانى ج8 ص50.
(2)
أسنى المطالب ج4 ص98.
(3)
نهاية المحتاج ج7 ص69 ، 371 ، شرح الزرقانى ج8 ص50 ، 55.
(4)
المغنى ج10 ص7 ، 12.
(5)
شرح الزرقانى ج8 ص94.
حكم للمدعين بها وإن كان إقرار حكم به وإلا فالقول قول المنكر، وهذا يخالف مذهب أبى حنيفة الذى يرى القسامة بوجود الجثة وبها أثر القتل.
459-
وإذا أدعى أولياء القتيل القتل ولم توجد الجثة فى محل المدعى عليهم ولم تكن عداوة ولا لوث فلا قسامة عند الجميع. ويرى البعض فى هذه الحالة أن لا يحلف المدعى عليه. وحجة القائلين بهذا أن الدعوى لا يقضى فيها بالنكول فلا يستحلف فيها كالحدود، ويرى البعض أنه يستحلف والقائلون بهذا يحتجون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" ويرون أن النص يوجب اليمين لعمومه وأن النص صريح فى انطباقه على دعوى القتل حيث يقول: "لادعى قوم دماء رجال وأموالهم" وادعاء الدماء هو ادعاء القتل. والقائلون بهذا يختلفون، فبعضهم يرى أن يحلف المدعى عليه يمنًا واحدة وهو الرأى الراجح، والبعض يرى أن يحلف خمسين يمينًا وهو الرأى المرجوح. فإن نكل المدعى عليه عن اليمين فيرى البعض أنه لا يجب عليه شئ بنكوله، ويرى البعض أن النكول لا يجب به غير الدية، ويرى البعض أن ترد اليمين على المدعى إذا نكل المدعى عليه فتكون قسامة ويحلف المدعون خمسين يمينًا؛ لأن النكول يعتبر لوثًا فى هذه الحالة فتتوفر شروط القسامة (1) .
460-
وظاهر مما سبق أن القسامة تكون عند مالك والشافعى إذا علم القاتل وانعدمت البينة المثبتة للقتل وكان لوث، فإن كانت بينة تثبت القتل أو كان إقرار فلا قسامة، ومعنى هذا أن القسامة عندهم دليل خاص مثبت للقتل إذا انعدم دليله الأصيل.
ويختص مالك بنوع من القسامة يوجبه مع توفر الدليل على القتل، وذلك فى حالة ما إذا أصيب المجنى عليه فى جريمة القتل فلم يمت فى الحال واستمر وقتًا ما يأكل ويشرب ويتكلم ثم مات بعدها فتجب القسامة على أولياء القتيل يحلفون
(1) المغنى ج 10 ص3 ، 7.
بالله أن القتيل مات من إصابته. وهذا النوع من القسامة ليس إلا دليلاً من نوع خاص على أن الوفاة نشأت عن الإصابة، وليس له معنى فى عصرنا الحاضر بعد أن أصبح الأطباء قادرين على تعيين سبب الوفاة.
أما القسامة عند أبى حنيفة فلا تكون إلا إذا وجدت جثة القتيل فى محلة وكان القاتل مجهولاً، وهى ليست دليلاً على القتل وإنما هى دليل نفى لأهل المحلة التى وجد فيها القتيل، فهم يحلفون بالله ما قتلوه ليدرءوا عن أنفسهم القصاص، وتجب عليهم الدية فى الوقت ذاته لوجود القتيل بين أظهرهم.
والقسامة عند ابن حزم تجب متى وجد قتيل لا يعرف من قتله أينما وجد فادعى ولاة الدم على رجل وحلف منهم خمسون رجلاً خمسين يمينًا، فإن هم حلفوا على العمد فالقود، وإن حلفوا على الخطأ فالدية، وليس يحلف عنده أقل من خمسين رجلاً (1) .
فالقسامة عند ابن حزم تجمع بين مذهب أبى حنيفة ومذهب مالك والشافعى وأحمد، فيأخذ من مذهب أبى حنيفة سبب وجوب القسامة، ويأخذ من مذهب الأئمة الثلاثة كيفية القسامة.
461-
والقسامة عند أبى حنيفة أشبه ما تكون بما تفعله جيوش الاحتلال فى البلاد المحتلة فى عصرنا الحاضر فى حالة الاعتداء على رجال الجيش المحتل وفى حالة الثورات إذ تفرض غرامة على كل قرية قتل فيها جندى لم يعلن قاتله أو ارتكبت فيها جريمة هامة لم يعلم مرتكبها، وتحصل الغرامة من جميع سكان القرية على السواء.
والواقع أن القسامة عند أبى حنيفة تعتبر بحق وسيلة طيبة لإظهار الفاعلين فى حوادث القتل؛ لأن أهل القرية إذا علموا أنهم سيلزمون دية القتيل الذى لا يظهر قاتله اجتهدوا فى منع المشبوهين من الإقامة بين ظهرانيهم وأخذوا على أيدى سفهائهم ومجرميهم، كما أن كل من كان لديه معلومات عن القتل سابقة أو
(1) بداية المجتهد ج2 ص360.
لاحقة لن يتأخر فى الغالب عن تبليغها للجهات المختصة، بل إنهم قد يحملون القاتل على أن يقدم نفسه ويعترف بجرمه.
462-
كيفية القسامة: القسامة عند مالك والشافعى وأحمد على أولياء القتيل، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"يحلف خمسون رجلاً منكم وتستحقون دم صاحبكم"، وعلى هذا أن يحلف أولياء القتيل ابتداء خمسين يمينًا.
ويستحب أن يستظهر فى ألفاظ اليمين فى القسامة تأكيدًا فيقول الحالف: والله الذى لا إله إلا هو عالم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فإن اقتصر على لفظ والله كفى، ويصح أن يقول والله أو بالله وتالله وكل ما زاد على هذا تأكيدًا، ويشترط فى اليمين أن تكون على البت وأن تكون قاطعة فى ارتكاب المتهم الجريمة بنفسه أو بالاشتراك مع غيره، وعلى الحالف أن يبين ما إذا كان الجانى تعمد الفعل أم لم يتعمد فيقول مثلاً:"والله إن فلان ابن فلان قتل فلانًا منفردًا بقتله ما شركه غيره" وإن كانا اثنين قال: "منفردين بقتله ما شركهما غيرهما" ثم يقول: عمدًا أو خطأ.
فإن لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرئ. ويشترط فى يمين المدعى عليه ما يشترط فى يمين المدعى من البت والقطع ببراءته فيقول مثلاً: والله ما قتلته ولا شاركت فى قتله ولا فعلت سببًا مات منه ولا كان سببًا فى موته ولا معينًا على موته.
فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا أيمان المدعى عليهم برئ المتهمون وكانت دية القتيل فى بيت المال على رأى أحمد، وهو رأى لا يأخذ به بقية الأئمة. وإن نكل المدعى عليهم عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا على رأى فى مذهب أحمد ولم يحبسوا على الرأى الآخر، وحبسوا لمدة سنة على رأى مالك، فإن لم يحلفوا عززوا. أما الشافعى فيرى أن ترد الأيمان على المدعين فإن لم يحلفوا فلا شئ على المدعى عليهم وإن حلفوا وجبت العقوبة على المدعى عليهم (1) .
(1) شرح الزرقانى ج8 ص55 ، 59 ، نهاية المحتاج ج7 ص373 ، الشرح الكبير ج10 ص40 ، 47.
أما أبو حنيفة فيرى أن القسامة على أهل المحلة ابتداء فإن حلفوا وجبت عليهم الدية. وعنده أن الحلف لحقن دماء الحالفين لأن حفظ المحلة عليهم ونفع ولاية التصرف فى المحلة عائد عليهم وهم المتهمون فى القتل فكانت القسامة والدية عليهم (1) .
ويحلف خمسون رجلاً من أهل المحلة: والله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً، وإذا امتنع المدعى عليهم من الحلف حُبسوا حتى يحلفوا ولكن امتناعهم لا يسقط عنهم الدية (2) .
463-
من يدخل القسامة؟: يدخل القسامة على رأى الشافعى كل الورثة سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ فتدخل الزوجة والبنت كما يدخل الابن والزوج، وتوزع الأيمان عليهم بحسب نصيبهم من الإرث. ويجبر الكسر؛ لأن اليمين الواحدة لا تتبعض فلو حلف تسعة وأربعون حلف كلٌّ يمينًا، وفى قول: يحلف كل من الورثة خمسين يمينًا؛ لأن العدد يعتبر كيمين واحدة، فإذا ردت اليمين على المدعى عليهم حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا كاملة (3) .
464-
وفى مذهب أحمد روايتان:
أولاهما: أن الأيمان تختص بالورثة دون غيرهم وبالرجال دون النساء، فعلى هذه الرواية تقسم الأيمان بين الورثة من الرجال سواء كانوا من ذوى الفروض أو العصبات كل على قدر إرثه إن كانوا جماعة وإن كانوا واحدًا حلفها وحده، فإن انقسمت الأيمان فى حالة التعدد من غير كسر مثل أن يرث المقتول ابنان أو أخ وزوج حلف كل منهما خمسًا وعشرين يمينًا، وإن كان فيها كسر جبر عليهم مثل زوج وابن، يحلف الزوج ثلاثة عشر يمينًا والابن ثمانية وثلاثين يمينًا؛ لأن تكميل الخمسين واجب لا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم لها عن البعض الآخر فوجب تكميل اليمين المنكسرة فى حق كل واحد منهم، وهناك من يرى أن يحلف كل وارث
(1) بدائع الصنائع ج7 ص291.
(2)
بدائع الصنائع ج7 ص289.
(3)
نهاية المحتاج ج7 ص379.
خمسين يمينًا سواء تساووا فى الميراث أو اختلفوا فيه؛ لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة فى سائر الدعاوى (1) .
ثانيتهما: أن يحلف من العصبة خمسون رجلاً كل واحد يمينًا، وهو قول لمالك، وعلى هذا يحلف الوارثون من العصبة فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبة الأقرب منهم فالأقرب (2) .
465-
ويفرق مالك بين حالة الخطأ وحالة العمد، ففى الخطأ يحلف أيمان القسامة من يرث القتيل وإن كان واحدًا ولو أخًا لأم أو امرأة، وإذا تعدد الورثة حلف كل وارث على قدر إرثه، فإن كان وارث واحد حلف الأيمان كلها وتجبر اليمين عند الكسر على أكثر كسرها، ولو كان صاحب الكسر الأكبر أقل نصيبًا فى الميراث كابن وبنت، على الابن ثلاثة وثلاثون يمينًا وثلث، وعلى البنت ستة عشر يمينًا وثلثان، فتحلف البنت سبعة عشر يمينًا والابن ثلاثة وثلاثين.
أما فى العمد فلا يحلف إلا العصبة، ولا يحلف فى العمد أقل من رجلين من العصبة، ويستوى أن يكون العاصب وارثًا أم غير وارث، ولا تحلف النساء فى العمد، وللولى إن كان واحدًا أن يستعين بعاصبه هو ولو لم يكن عاصبًا للقتيل، كامرأة مقتولة ليس لها عصبة غير ابنها وله إخوة من أبيه فله أن يستعين بهم (3) .
466-
ويرى أبو حنيفة أن القسامة لا تجب إلا على الرجال، فلا تجب على صبى ولا مجنون ولو وجد القتيل فى ملك أحدهما؛ لأن القسامة يمين وهما ليسا من أهل اليمين؛ ولأن القسامة تجب على من هو من أهل النصرة وهما ليسا من أهل النصرة، فلا تجب القسامة عليهما وتجب على عاقلتهما إذا وجد القتيل فى ملكهما. وهناك خلاف فى هذا المذهب على ما إذا كانا يدخلان فى الدية مع العاقلة، فيرى
(1) الشرح الكبير ج10 ص32 ، 33.
(2)
الشرح الكبير ج10 ص40 ، 41.
(3)
شرح الزرقانى ج8 ص56 ، 57.
البعض دخولهما لأنهما مؤخذان بالضمان المالى لأفعالهما وهو الرأى الراجح، أما إذا وجد القتيل فى ملك غيرهما فمن المتفق عليه أنهما لا يدخلان فى الدية مع العاقلة.
ولا تدخل المرأة فى القسامة والدية فى قتيل وجد فى غير ملكها لأن وجوبها بطريق النصرة وهى ليست من أهلها وإن وجد فى دارها أو فى قرية لها لا تكون بها غيرها فعليها القسامة فتستحلف ويكرر عليها الأيمان على الرأى الراجح (1) .
ما يجب بالقسامة: تجب الدية بالقسامة فى الخطأ وشبه العمد، وهذا متفق عليه.
467-
أما فى العمد فيرى مالك أن القصاص يجب بالقسامة إذا كان المتهم واحدًا، فإذا تعدد المتهمون وجب القصاص بالقسامة على واحد فقط يعينه أولياء القتيل ويحلفون أنه مات من ضربه أو جرحه.
ويرى ابن رشد أنه يجوز أن يقتص بالقسامة من أكثر من واحد إذا اختلفت الأفعال التى أدت للقتل، كمن يمسك شخصًا لآخر ثم يقول له اضربه اقتله فيفعل ذلك، فإنهما يقتلان معًا بالقسامة لأن الموت كان نتيجة لفعليهما معًا، ولأن فعل كل منهما يخالف فعل الآخر، أما إذا اتحد الفعل المؤدى للموت فلا يقتص إلا من واحد (2) .
468-
ورأى الشافعى القديم جواز القصاص بالقسامة فى العمد، ولكن رأيه الآخر أنه لا تجب بالقسامة إلا الدية سواء كان الفعل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ.
والرأى الأول قائم على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "تستحقون دم صاحبكم".
والرأى الثانى قائم على قوله: "إما أن يدوا صاحبكم، أو يؤذنوا بحرب من الله ورسوله" وقد فسرت عبارة "دم صاحبكم" بـ "بدل دم صاحبكم" جمعًا بين الدليلين (3) .
ويرى أبو حنيفة أنه لا يجب بعد القسامة إلا الدية فى العمد وغير العمد؛ لأن القسامة جعلت لحقن دماء المدعى عليهم.
(1) بدائع الصنائع ج7 ص294 ، 295.
(2)
شرح الزرقانى ج8 ص59.
(3)
نهاية المحتاج ج7 ص375.
ويرى أحمد أن يقتص بالقسامة فى العمد ما لم يمنع مانع شرعى من القصاص (1) .
469-
شروط القسامة: لا تجب القسامة إلا إذا توفرت الشروط الآتية:
أولاً: أن يثبت أن الموت نتيجة القتل، فإن كان مات حتف أنفه أو تساوى احتمال موته حتف أنفه بموته قتيلاً فلا قسامة.
ثانيًا: أن يكون لَوْث، طبقًا لما يراه مالك والشافعى وأحمد، وقد بينا معنى اللوث، فإن لم يكن لوث فلا قسامة. أما أبو حنيفة فلا يشترط إلا أن توجد الجثة فى محلة وبها أثر القتل، فإن لم توجد الجثة على هذا الوجه فلا قسامة وإذا أصيب القتيل بجرح فى محلة فحمل إلى أهله فمات من تلك الجراحة وجبت القسامة والدية عند أبى حنيفة ولا يراهما أبو يوسف بحجة أنه أصيب فى المحلة ولم يمت فيها ولا قسامة فيما دون النفس. ويرد عليه بأن القتيل مات من الجراحة فكأن الجراحة وقعت قتلاً من وقت حدوثها.
ويشترط الحنفيون أن يوجد من القتيل أكثر بدنه، فإن وجد ففيه القسامة والدية لأن للأكثر حكم الكل فيسمى قتيلاً، أما إذا وجد عضو من أعضائه فلا قسامة فيه ولا دية، وإن وجد النصف الذى فيه الرأس ففيه القسامة والدية وإن وجد الرأس وحده فلا قسامه ولا دية. ولا يشترط بقية الأئمة هذه الشروط، فالقسامة واجبة سواء وجد كل الجثة أو وجد بعضها (2) .
ثالثًا: أن لا يعلم القاتل عند أبى حنيفة فإن علم فلا قسامة. أما عند مالك والشافعى وأحمد فيشترط للقسامة تعين القاتل، فإذا لم يعين فلا قسامة.
رابعًا: أن يتقدم أولياء القتيل بدعواهم أى باتهامهم لأن الدعوى لا تسمح على غير معين عند مالك والشافعى وأحمد ولأن القسامة يمين مقصود به دفع التهمة عند أبى حنيفة ولا تجب اليمين قبل الدعوى والاتهام (3) .
(1) الشرح الكبير ج10 ص39.
(2)
بدائع الصنائع ج7 ص288.
(3)
شرح الزرقانى ج8 ص50 ، نهاية المحتاج ج7 ص369 ، الغقناع ج4 ص240 ، بدائع الصنائع ج7 ص288.
خامسًا: أن لا يكون هناك ادعاء متناقض، كأن يكون الأولياء قد ادعوا على شخص أنه انفرد بالقتل ثم عادوا فادعوا على آخر بأنه هو القاتل، أو كأن يدعى بعض الأولياء أن شخصًا هو القاتل ويبرئه البعض الآخر من القتل أو يدعوه على غيره، فإذا وجد مثل هذا التناقض امتنعت القسامة ويشترط فى التناقض المانع من القسامة أن يكون بحيث ينفى الاتهام عن المتهم.
سادسًا: أن ينكر المدعى عليهم القتل فإذا اعترفوا به فلا قسامة.
سابعًا: ويشترط أبو حنيفة المطالبة بالقسامة لأن اليمين حق المدعى وحق المدعى يوفى بطلبه، ولذا كان الاختيار فى حال القسامة لأولياء القتيل لأن الأيمان حقهم فلهم أن يختاروا من يتهمونه ويستحلفون صالحى العشيرة الذين يعلمون أنهم لا يحلفون كذبًا، وإذا طولب من عليه القسامة باليمين فنكل عنها حبس حتى يحلف أو يقر لأن اليمين حق مقصود لنفسه وليست وسيلة للدية إذ الدية مفروضة مع اليمين ويرى أبو يوسف أن لا يحبس الناكل ويحكم بالدية (1) .
ثامنًا: ويشترط أبو حنيفة أيضًا أن يكون الموضع الذى وجدت فيه الجثة ملكًا لأحد وفى يد أحد، فإن لم يكن ملكًا لأحد ولا فى يد أحد فلا قسامة ولا دية.
وإذا وجدت الجثة فى مكان عام التصرف فيه للعامة لا لجماعة محصورين لا تجب القسامة وتجب الدية من بيت المال.
470-
وإذا وجد القتيل فى فلاة لا يملكها أحد فلا قسامة ولا دية إذا كانت بحيث لا يسمع الصوت فى القرى والأمصار القريبة، فإذا كانت بحيث يسمع الصوت وجبت القسامة والدية على أقرب المواضع إلى الجثة، وإذا كان المكان قريبًا من عدة قرى وجبت القسامة والدية على أقرب القرى إليه، وإن كان قريبًا من المصر فعلى أقرب أحياء المصر الدية والقسامة، وهذا هو قضاء عمر بن الخطاب.
(1) بدائع الصنائع ج7 ص289.
ولا قسامة فى قتيل وجد فى المسجد الجامع ولا فى الشوارع أو الجسور أو الطرق العامة؛ لأنها محلات عامة بمعنى الكلمة، وتجب الدية فى بيت المال.
ولا قسامة فى قتيل وجد فى سوق عامة إلا إذا كان السوق ملكًا لفرد أو أفراد أو مستأجرًا لهم.
واختلف فى قتيل السجن، فرأى البعض القسامة على المسجونين ولم يرها البعض الآخر (1) .
* * *
القرائن
471-
عرفت الشريعة الإسلامية القرائن من يوم وجودها، وبنى الكثير من أحكام الشريعة على أساس القرائن، من ذلك أن القسامة تقوم على أساس القرينة سواء وجد لوث أم لم يوجد فأساس القسامة عند من لا يشترطون اللوث وجود القتيل فى محلة المتهمين؛ لأن وجود الجثة فى المحلة قرينة على أن القتل حدث من سكانها، وأساس القسامة عند من يشترطون اللوث أن وجود اللوث قرينة على أن المتهم هو القاتل، فرؤية شخص على مقربة من الجثة ملوث بالدماء لوث وهذا اللوث قرينة على أن هذا الشخص هو القاتل. ومن ذلك النكول عند من يرى أن النكول يؤدى إلى إثبات الجريمة، فإن ثبوت الجريمة عن طريق النكول إثبات بالقرينة إذ النكول ليس إلا قرينة على أن الاتهام الموجه للمتهم صحيح (2) .
ومن ذلك إثبات الزنا بالحمل فإن الحمل قرينة على الوطء المحرم المعتبر زنا (3) .
ومن ذلك إثبات شرب الخمر بانبعاث رائحتها من فم المتهم، فإن ثبوت الجريمة أساسه القرينة المستفادة من انبعاث رائحة الخمر من فم المتهم والتى تفيد أنه شرب الخمر (4) .
(1) بدائع الصنائع ج7 ص289 ، 290.
(2)
نهاية المحتاج ج7 ص 376، المغنى ج10 ص 6، شرح الزرقانى ج8 ص107، طرق الإثبات الشرعية ص 438 وما بعدها.
(3)
شرح الزرقانى ج8 ص 81، المغنى ج10ص 192.
(4)
المغنى ج10 ص322، شرح الزرقانى ج8 ص 113، الطرق الحكمية ص6.
ومن ذلك ثبوت السرقة على من يوجد فى حيازته المال المسروق، وأساس الثبوت هنا هو القرينة المستفادة من وجود المال فى حيازة المتهم والتى تدل غالبًا على أنه هو الذى سرقه (1) .
ومن ذلك جواز دفع اللقطة لمن يصفها بمميزاتها، وكذلك الوديعة والمسروقات، ما دام صاحب اللقطة أو الوديعة أو المال المسروق مجهولًا، وأساس هذا الحكم القرينة المستفادة من بيان صفات ومميزات الشىء والتى تدل على أن من وصفه هو صاحبه (2) .
وليس يخلو مذهب فقهى من المذاهب الإسلامية من الاعتماد على القرائن فى استنباط الأحكام الفرعية، كما أن كثيرًا من الأحكام الأساسية أقامتها الشريعة على أساس القرائن، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"الولد للفراش"، فإن قيام الزوجية جعل دليلًا لإثبات الدعاوى الجنائية والمدنية ولهم فى ذلك آثار مشهورة (3) .
وبالرغم من إقامة كثير من أحكام الشريعة على القرائن واتجاه القضاء من وقت نزول الشريعة إلى الأخذ بالقرائن، فإن جمهور الفقهاء لا يسلم باعتبار القرائن دليلًا. عامًا من أدلة الإثبات فى الجرائم اللهم إلا فيما نص عليه بنص خاص كالقسامة، ولعل عذرهم فى ذلك أن القرائن فى أغلب الأحوال قرائن غير قاطعة وأنها تحمل أكثر من وجه، فإذا اعتمد عليها كدليل لإثبات الجريمة فقد اعتمد على دليل مشكوك فيه لا يمكن التسليم مقدمًا بصحته.
أما أقلية الفقهاء فيرون الأخذ بالقرائن فى إثبات الجرائم مع الاعتدال، ومن
(1) الطرق الحكمية ص 6.
(2)
طرق الإثبات الشرعية ص 518.
(3)
طرق الإثبات الشرعية ص 63 - 66.
هؤلاء ابن القيم فإنه يرى أن الحاكم إذا أهمل الحكم بالقرائن أضاع حقًا كثيرًا وأقام باطلًا كبيرًا، وأنه إن توسع وجعل معوله عليها دون الأوضاع الشرعية وقع فى أنواع من الظلم والفساد (1) .
* * *
النكول عن اليمين وردها
472 -
اختلف الفقهاء فى اعتبار النكول عن اليمين طريقًا من طرق الإثبات، فرأى بعضهم أن المدعى إذا لم يقم بينة على ما ادعاه ولم يقر المدعى عليه كان على المدعى عليه أ، يحلف على نفى المدعى به، فإن نكل عن الحلف قضى للمدعى بما يدعيه بنكول المدعى عليه، وهذا هو رأى أبى حنيفة والمشهور من مذهب أحمد. ورأى البعض أن نكول المدعى عليه لا يكفى وحده لثبوت المدعى به، بل ترد اليمين على المدعى فإن حلف اليمين المردودة قضى له بما يدعيه، وهذا هو مذهب مالك والشافعى، وقد صوبه أحمد فقال: ما هو ببعيد يحلف ويستحق، وعلى هذا لا تكون الدعوى ثابتة بالنكول وإنما باليمين المردودة (2) .
473 -
واختلف الفقهاء بعد ذلك فيما إذا كان يمكن الحكم بالنكول واليمين المردودة فى الجرائم، فرأى مالك أنه لا يجوز الحكم باليمين المردودة فى الجرائم سواء كانت حدودًا أو قصاصًا أو تعازير، وسواء أوجبت عقوبة بدنية أو عقوبة مالية، وعلى هذا فإذا لم تكن بينة ونكل المتهم عن الحلف فلا ترد اليمين على المدعى لأن حلفها ليس له أثر (3) .
474 -
ويرى الشافعى: أنه يحكم باليمين المردودة فى الجرائم المتعلقة بحقوق الآدميين كالقتل والضرب والشتم، سواء كانت العقوبة قصاصًا أو دية أو تعزيرًا، وكذلك فى جرائم التعازير المتعلقة بالأمور العامة كطرح الحجارة فى الطريق
(1) الطرق الحكمية ص 3، 4..
(2)
المغنى ج12 ص124، الطرق الحكمية ص 84 وما بعدها، طرق الإثبات الشرعية ص 438، 459 أسنى المطالب ج4 ص 404 وما بعدها، تبصرة الحكام ج1 ص 169..
(3)
تبصرة الحكام ج1 ص 174 وما بعدها..
وإفساد الآبار، أما فى جرائم الحدود فالقاعدة ألا يحكم فيها باليمين المردودة إلا فى بعض الحالات الاستثنائية (1) .
475 -
ويرى أبو حنيفة وصاحباه: القضاء بالنكول ولكنهم اختلفوا فى تفسير النكول، فقال أبو حنيفة: إنه بذل من جهة المدعى عليه، وقال الصاحبان: إنه قرار، وقد أدى هذا الخلاف إلى اختلافهم فى بعض المسائل، ويمكن تلخيص رأى الأحناف فيما يختص بالقضاء بالنكول فى الجرائم فيما يأتى:
1 -
فى جرائم الحدود واللعان لا يستحلف المنكر اتفاقًا: إما على قوله فلان البذل لا يصح فى شئ منها، وإما على قولهما فلان النكول إقرار فيه شبهة لأنه هو فى نفسه سكوت أو تصريح بالامتناع عن اليمين والحدود تدرأ بالشبهات، واللعان فى معنى الحد لأنه قائم مقام حد القذف فى حق الزوج وقائم مقام حد الزنا فى حق المرأة.
2 -
فىجرائم القصاص والدية: إذا كانت الجريمة توجب المال صح التحليف فيها والحكم بالنكول اتفاقًا، لأن الأموال يصح فيها البذل من جهة، وتثبت بالإقرار مطلقًا من جهة أخرى.
أما إذا كانت الجريمة مما يوجب القصاص استحلف المدعى عليه باتفاق غير انه إذا نكل عن اليمين لزمه القصاص على قول أبى حنيفة لأنه بذل، وبذل ما دون النفس جائز كما تقدم. وأما على قولهما فلا قصاص بل يلزمه الأرش لأن النكول عندهما إقرار فيه شبهة.
476 -
وإذا كان النكول عن اليمين فى الجناية على النفس حبس حتى يحلف أو يقر على قول أبى حنيفة لتعذر القضاء بالنكول، إذ النفس لا يصح فيها البذل. وعلى قولهما يحكم عليه بالدية بنكوله لأن النكول إقرار فيه شبهة (2) .
3 -
فى جرائم التعازير: يصح طبقًا لرأى الصاحبين الحكم فيها بالنكول
(1) أسنى المطالب ج4 ص 403، 406 ونفس المرجع ص 104، المغنى ج 10 ص 7.
(2)
طرق الإثبات الشرعية ص 438، 443..