المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الركن الأول: الرمى بالزنا أو نفى النسب: - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي - جـ ٢

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌الباب الأولفى الجنايات

- ‌الفصل الأولالقتل

- ‌المبحث الأولالقتل العمد

- ‌الركن الأول: القتيل آدمى حي

- ‌الركن الثانى: القتل نتيجة لفعل الجاني

- ‌الركن الثالث: أن يقصد الجانى إحداث الوفاة

- ‌المبحث الثانيالقتل شبه العمد

- ‌الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه

- ‌الركن الثانى: أن يتعمد الجانى الفعل

- ‌الركن الثالث: أن يكون بين الفعل والموت رابطة السببية

- ‌المبحث الثالثالقتل الخطأ

- ‌الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه

- ‌الركن الثانى: الخطأ

- ‌الركن الثالث: أن يكون بين الخطأ والموت رابطة السببية

- ‌المبحث الرابععقوبات القتل العمد

- ‌الفصل الثانيالجناية على ما دون النفس

- ‌ القسم الأول: إبانة الأطراف وما يجرى مجراها:

- ‌ القسم الثانى: إذهاب معانى الأطراف مع بقاء أعيانها:

- ‌ القسم الثالث: الشجاج:

- ‌ القسم الرابع: الجراح:

- ‌ القسم الخامس: ما لا يدخل تحت الأقسام السابقة:

- ‌الركن الأول: فعل يقع على جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته:

- ‌الركن الثانى: أن يكون الفعل متعمدًا:

- ‌الفصل الثالثالجناية على ما هو نفس من وجه دون وجهأى الجناية على الجنين أو الإجهاض

- ‌الباب الثانى فى الحدود

- ‌الكتاب الأولالزنا

- ‌الفصل الأولأركان جريمة الزنا

- ‌الركن الأول: الوطء المحرم

- ‌الركن الثانى: تعمد الوطء

- ‌الفصل الثانىعقوبة الزنا

- ‌المبحث الأولعقوبة البكر

- ‌المبحث الثانىعقوبة المحصن

- ‌المبحث الثالثالإحصان

- ‌الفصل الثالثالأدلة على الزنا

- ‌المبحث الأولالشهادة

- ‌المبحث الثانىالإقرار

- ‌الكتاب الثانىالقذف

- ‌المبحث الأولأركان جريمة القذف

- ‌الركن الأول: الرمى بالزنا أو نفى النسب:

- ‌الركن الثانى: إحصان المقذوف:

- ‌الركن الثالثالقصد الجنائى

- ‌المبحث الثانىدعوى القذف

- ‌المبحث الثالثالأدلة على القذف

- ‌المبحث الرابععقوبة القذف

- ‌الكتاب الثالثالشرب

- ‌المبحث الأولأركان الجريمة

- ‌الركن الأول: الشرب

- ‌الركن الثانى: القصد الجنائى

- ‌عقوبة الشرب

- ‌المبحث الثانيالأدلة على الشرب

- ‌الكتاب الرابعالسرقة

- ‌المبحث الأولأركان السرقة

- ‌الركن الأول: الأخذ خفية

- ‌الركن الثانى: أن يكون المأخوذ مالاً

- ‌الركن الثالث: أن يكون مملوكًا للغير

- ‌الركن الرابع: القصد الجنائي

- ‌المبحث الثانيأدلة السرقة

- ‌المبحث الثالثما يترتب على ثبوت السرقة

- ‌الكتاب الخامسالحرابة

- ‌الكتاب السادسالبغي

- ‌الركن الأول: الخروج على الإمام

- ‌الركن الثانى: أن يكون الخروج مغالبة

- ‌الركن الثالث: القصد الجنائى (قصد البغي)

- ‌الكتاب السابعالردة

- ‌الركن الأول: الرجوع عن الإسلام

- ‌الركن الثانى: القصد الجنائي

- ‌مراجع الكتاب

الفصل: ‌الركن الأول: الرمى بالزنا أو نفى النسب:

‌الركن الأول: الرمى بالزنا أو نفى النسب:

562 -

يتوفر هذا الركن كلما رمى الجانى المجنى عليه بالزنا أو نفى نسبه مع عجزه عن إثبات ما رماه به. والرمى بالزنا قد يكون نفيًا لنسب المجنى عليه وقد لا يكون، فمن قال لشخص يا ابن الزنا فقد نفى نسبه ورمى أنه بالزنا، ومن قال لشخص يا زانى فقد رماه بالزنا ولم ينف نسبه. فالرمى بالزنا يكون نفيًا لنسب المجنى عليه إذا تعدى القذف لأمه، أما نفى النسب فيقتضى دائمًا رمى أم المقذوف أو أحد أمهاته بالزنا. فمن نسب شخصًا إلى غير أبيه أو إلى غير جده فقد نسب الزنا لأم هذا الشخص أو جدته (1) .

وإذا كان القذف بغير الزنا أو نفى النسب فلا حد فيه، كالقذف بالكفر أو السرقة الزندقية أو شرب الخمر أو أكل الربا أو خيانة الأمانة إلى غير ذلك، ويعاقب على فعل هذا القذف بالتعزير، وكذلك يعزر على القذف بالزنا ونفى النسب إذا لم تستوف شروط الحد.

ويعزر أيضًا على كل قذف لا ينسب فيه للمقذوف معصية ولو كانت وقائع القذف صحيحة، إذا كان القذف مما يؤلم المقذوف ويؤذى شعوره، كأن ينسب للمقذوف أنه عنين أو عقيم أو مجنون أو مريض بالشلل أو السل، أو أنه أسود اللون أو بشع الخلقة، أو أنه من أسرة وضيعة.

والعبرة فى تحديد الإيلام والإيذاء بما جرى عليه العرف أى بما تعارف عليه الناس. ويعاقب القاذف فى هذه الحالة بالذات سواء صح ما نسب للمقذوف أو لم يصح؛ لأنه إذا صح ما نسبه للمقذوف فإنه ليس فيه ما يشين ولا ما تحرمه الشريعة،

(1) شرح فتح القدير ج4 ص 190، 193، شرح الزرقانى ج8 ص 85، 86، المغنى ج10 ص 210، 215، المهذب ج2 ص 289، 291.

ص: 462

فالقذف ليس إلا إيذاء للمقذوف وإيلام له دون مبرر. وإذا لم يصح ما نسبه للمقذوف فإنه وإن لم يكن فيه ما يشين أو ما تحرمه الشريعة إلا أنه افتراء يؤلم المفترى عليه ويؤذيه والشريعة تعتبر الإيذاء دون مبرر شرعى جريمة يعاقب عليها.

والفرق بين هذه الحالة والحالات السابقة التى يعفى فيها من العقاب أن القاذف يؤذى المقذوف ويؤلمه فى كل الأحوال ولكنه يعفى من العقاب فى الأحوال السابقة لأن للإيذاء مبررًا شرعيًا وهو إتيان المقذوف ما تحرمه الشريعة، أما فى الحالة الأخيرة فليس هناك مبرر شرعى للإيذاء.

والرمى باللواط عند مالك والشافعى وأحمد حكمه حكم الرمى بالزنا؛ لأنهم يعتبرون اللواط زنًا واللائط زانيًا سواء كان فاعلا أو مفعولا به، امرأة أو رجلا، فإذا ثبت أن القاذف أراد من القذف أن المقذوف يعمل عمل قوم لوط فعليه الحد. أما أبو حنيفة فلا يرى حد القاذف باللواط ويرى تعزيره لأنه لا يعتبر اللواط زنًا ومن ثم لا يعتبر الرمى باللواط رميًا بالزنا (1) .

وإذا نسب القاذف للمقذوف أنه لوطى وادعى أنه أراد أن المقذوف من قوم لوط فلا عبرة بادعائه ويجب حد القذف عند مالك ويحده أيضًا الشافعى إلا إذا أراد أنه على دين قوم لوط.

أما أحمد فاختلفت عنه الرواية، فروى عنه أنه يوجب الحد على القاذف إذا قال للمقذوف: يا لوطى وروى عنه أنه فرق بين ما إذا قال القاذف: أردت أن دينه دين لوط، وفى هذه لا حد عليه، وبين ما إذا قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط، وفى هذه عليه الحد. ووجه الإعفاء من الحد أن القاذف فسر كلامه بما لا يوجب الحد فاعتبر التفسير متصلًا بالقذف، والقاعدة أن مثل هذا التفسير لو اتصل بعبارة القذف من وقت القذف لم يجب الحد، أما الرواية الثالثة فيرى أحمد أن القاذف إذا كان فى غضب فهو أهل لأن يقام عليه الحد لأن الغضب قرينة تدل على

(1) شرح الزرقانى ج8 ص 87، المهذب ج2 ص 290، المغنى ج10 ص 209، شرح فتح القدير ج4 ص 150، 190.

ص: 463

إرادة القذف بخلاف حال الرضا. والراجح فى المذهب هو الرواية الأولى؛ لأن كلمة لوطى لا يفهم منها الآن إلا القذف بعمل قوم لوط فكانت صريحة فى اللواط صراحة لفظ الزانى فى الدلالة على الزنا ولأن قوم لوط لم يبق منهم باقية فلا يحتمل أن ينسب إليهم أحد (1) .

ومن قذف إنسانًا بإتيان بهيمة فعلية الحد عند من يعتبر إتيان البهيمة فى حكم الزنا، وهذا ما يراه بعض الشافعية والحنابلة، ولا حد عليه ولكن يعزر عند من لا يعتبرون إتيان البهائم زنًا وهم مالك وأبو حنيفة وأكثر الشافعية والحنابلة (2) .

والقاعدة العامة عند الفقهاء أن كل ما يوجب حد الزنا على فاعلة يوجب حد القذف على القاذف به، وكل ما لا يجب حد الزنا بفعله لا يجب الحد على القاذف به، فمن قذف إنسانًا بالمباشرة دون الفرج أو بالوطء بالشبهة فلا حد عليه وإنما عليه التعزير لأنه لم يقذفه بما فيه حد الزنا، ومن قذف امرأة بالمساحقة أو بالوطء مستكرهة فلا حد عليه التعزير لأنه قذفها بما ليس فيه حد الزنا (3) . هذه هى القاعدة العامة عند الفقهاء ومتفق عليها ولكنهم يختلفون فى تطبيقها لاختلافهم فيما يوجب حد الزنا.

ويرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن الوالد وإن علا إذا قذف ولده وإن نزل لم يجب عليه الحد سواء كان القاذف رجلا أو امرأة؛ لأن عقوبة القذف وإن كانت حدًا إلا أنها متعلقة بحقوق الأفراد، ولأن القذف حق لا تستوفى عقوبته إلا بالمطالبة فهو أشبه بالقصاص، ولأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يجب للابن على أبيه كالقصاص، وإذا كان من المسلم به أن الابن لا يقتص من الأب ولا يقطع فى سرقة

(1) نفس المرجع السابق.

(2)

شرح الزرقانى ج8 ص 78، شرح فتح القدير ج4 ص 152، نهاية المحتاج ج7 ص 405، أسنى المطالب ج4 ص 126، المغنى ج10 ص 163، 210.

(3)

المغنى ج10 ص 210، شرح الزرقانى ج8 ص 86، شرح فتح القدير ج4 ص 193، المهذب ج2 ص 289.

ص: 464

ماله فأولى أن لا يحد فى قذفه. ويرتب أصحاب هذا الرأى على ما يقولون أن الوالد لو قال لولده من زوجته المتوفاه يا ابن الزانية لم يكن للولد أن يرفع على والده الدعوى، لكن إذا كان لها ابن آخر من غيره استطاع أن يرفع دعوى القذف لأن حد القذف يثبت لكل من المستحقين على الانفراد، ويترتب على هذا الرأى أيضًا أنه لو قذف الزوج زوجته فى حياتها فرفعت دعوى القذف ثم ماتت قبل الحكم فيها ولم يكن لها ورثة غير أولادها م الزوج القاذف فإن الدعوى تسقط حتى عند من لا يسقطون الدعوى بالوفاة؛ لأن ورثة المتوفاة أولاد القاذف وليس لهم أن يطالبوه بحد القذف "الدعوى تسقط دائمًا عند أبى حنيفة بالوفاة وليس للورثة أن يحلوا محل المقذوف لأن حق القذف ليس من الحقوق المالية التى تورث"(1) .

وفى مذهب مالك رأيان: أحدهما يتفق مع الرأى السابق، وثانيهما: للابن أن يطالب أباه بحد القذف لأن نص القذف عام فينطبق على الأب كما ينطبق على غيره، ولأن العقوبة حد والحد حق الله فلا يمنع من إقامتها قرابة الولادة، ولكن القائلين بهذا الرأى يسلمون بأن الابن يفسق بمطالبته بحد أبيه، أى أن عدالة الابن تسقط لمباشرته سبب عقوبة أبيه لأن الله تعالى يقول:{فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، ويقول:{وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83](2) .

ولا يشترط فى القذف أن يكون بلغة معينة فيصح أن يكون باللغة العربية ويصح أن يكون بغيرها من اللغات، ويشترط فى القذف أن يكون صريحًا وصريح القذف ما لا يحتمل غيره فإن احتمل غيره فهو كناية أو تعريض. فمن قال يا زانى أو أنت زان، فقد جاء بقذف صريح. وإن قال: أبوك زان أو أمك زانية أو يا ابن الزانى أو يا ابن الزانية، فهو قذف صريح للأم والأب. وإن قال: يا ابن الزنا أو يا ولد الزنا كان قذفًا صريحًا أيضًا لأن معناه أنك مخلوق من ماء الزنا. أما

(1) شرح فتح القدير ج4 ص 197، المهذب ج2 ص 290، المغنى ج10 ص208.

(2)

شرح فتح القدير ج4 ص 197، المغنى ج10 ص 208، شرح الزرقانى ج8 ص 87.

ص: 465

إن قال: ما أنا بزان وليست أمى بزانية، أو قال: يا ابن منزلة الركبان أو ذات الراية، أو قال لامرأة: فضحت زوجك وجعلت له قرونًا أو أفسدت فراشه ونكست رأسه، فذلك هو التعريض أو الكناية.

ولا خلاف فى أن القذف الصريح معاقب عليه بعقوبة الحد، أما القذف القائم على التعريض والكناية فمختلف على عقوبته، فيرى أبو حنيفة - وما يراه رواية فى مذهب أحمد - أن لا حد على القذف بالتعريض أو الكناية وإنما فيه التعزير، وحجة أصحاب هذا الرأى ما روى أن رجلًا قال للنبى صلى الله عليه وسلم: إن امرأتى ولدت غلامًا أسود؛ يعرض بنفيه، فلم يعاقبه الرسول على ذلك القول، وأن الله تعالى فرق بين التعريض بالخطبة والتصريح بها فأباح التعريض بها فى العدة وحرم التصريح فقال جل شأنه:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فىِ أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لَاّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَاّ أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا} [البقرة: 235] فإذا كان الشرع قد فرق بين التعريض والتصريح فيما يعزر عليه فأولى أن يفرق بينهما من أن يعاقب عليه بعقوبة الحد التى تدرأ بالشبهات، وفضلًا عن ذلك فإن التعريض والكناية يحتمل غيره والاحتمال شبهة والحدود تدرأ بالشبهات (1)(19) .

والأصل عند الشافعى أن لا حد إلا فى القذف الصريح ولكنه يوجب الحد من القذف بالتعريض والكناية إذا ثبت أن القاذف نوى بما قال القذف لأن الكناية مع النية بمنزلة الصريح، أما إذا لم ينو بما قاله من تعريض أو كناية القذف لم يجب الحد سواء كان ذلك فى حال الخصومة أو غيرها لأنه يحتمل القذف وغيره فلم يجعل قذفًا من غير نية (2) .

ويرى مالك الحد فى القذف بالتعريض أو الكناية إذا فهم منه القذف أو دلت القرائن على أن القاذف قصد القذف، ولكنه يستثنى من ذلك الأب فإذا

(1) شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 213.

(2)

المهذب ج2 ص 290.

ص: 466

عرض الأب بولده أو قذفه بالكناية فلا حد عليه لبعده عن التهمة فى قذف ولده أما إذا صرح فعليه الحد. ويعتبر مالك الخصام من القرائن على القذف، فمن قال فى خصام لآخر ما أنا بزان فكأنه قال يا زانى، أو قال: أما أنا فلست بلائط فكأنه قال يا لائط، أو قال: أما أنا فأبى معروف فكأنه قال: أبوك ليس بمعروف (1) .

وهناك رواية أخرى عن أحمد بأن القاذف تعريضًا أو كناية عليه الحد، وحجة أصحاب هذا الرأى أن النص عام فى عقاب القاذف فإذا ثبت القذف فقد وجب الحد سواء كان القذف صريحًا أو تعريضًا أو كناية، وأن هذا هو قضاء عمر فقد شاور عمر الصحابة فيمن قال لصاحبه: ما أبى بزان ولا أمى بزانية، قد مدح أباه وأمه، فقال عمر: قد عرض بصاحبه وجلده الحد. ومن المشهور عن عمر أنه كان يجلد الحد فى التعريض، وأنه قضاء عثمان. وروى الأثرم أن عثمان جلد رجلًا قال لآخر يا ابن شامة الوذر يعرض له بزنا أمه والوذر قدر اللحم يعرض به بقذف الرجال، ولأن الأصل أن الكناية مع القرينة الصادقة إلى أحد محتملاتها كالصريح الذى لا يحتمل إلا ذلك المعنى. ويرد هذا الفريق على القائلين بأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يعاقب على التعريض بأن العقاب فى القذف معلق على الشكوى من المقذوف، وأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يعاقب من عرض بزوجته لأنها لم تتقدم بالشكوى (2) .

ولا يشترط لعقوبة الحد أن يتلفظ القاذف بعبارات القذف بل يكفى لعقابه أن يصادق عليها، فمن قال لآخر: أمك زانية، فقال ثالث صدقت، كان كلاهما قاذفًا وإذا قال رجل لآخر: أشهد أنك زان أو أنك تنسب لغير أبيك، فقال ثالث: وأنا أشهد بمثل ما شهدت به، كان الأول والثالث قاذفين وعليهما الحد (3) .

ولا يبقى القاذف من عقوبة الحد إن كان قذفه جاء ردًا لقذف وجهه إليه

(1) شرح الزرقانى ج8 ص 87، مواهب الجليل ج6 ص 301.

(2)

شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 213.

(3)

شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 215.

ص: 467

المقذوف فمن قال لآخر: يا زانى، فقال له الآخر: لا بل أنت، فإنهما يحدان ولا يسقط الحد بتبادل القذف ولا بتكافؤ السيئات (1) .

ولكن القاذف يعفى من الحد إذا صدقه المقذوف، فمن قال لأجنبية عنه: أنت زانية، فقالت: بك زنيت، فلا حد عليه وعليها حدان، حد الزنا لاعترافها به وحد القذف لقذفها الرجل بالزنا. أما إذا صدر هذا القول من الرجل لزوجته فلا حد على أحدهما: لا حد على الرجل لأنها صدقته، ولا حد عليها لأنه يجوز أن تكون زانية حقيقية ولأنه يجوز أن تكون قصدت نفى الزنا، كما يقول الرجل لغيره سرقت، فيقول معك سرقت ويريد أنى لم أسرق كما لم تسرق، ولأنه يجوز أن يكون معناه: ما وطئنى غيرك، فإن كان ذلك زنًا فقد زنيت، فهذه الاحتمالات معناها الشبهة فى مؤدى قولها ولا حد مع شبهة (2) .

وإذا استعمل القاذف أفعل التفضيل فى القذف فقال مثلا: أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس، فعليه الحد عن مالك وأحمد (3) .

أما فى مذهب أبى حنيفة فيرى البعض الحد ولا يراه البعض الآخر، وحجتهم أن أفعل يستعمل فىالترجيح للعلم فكأنه قال: أنت أعلم منى بالزنا، وحجة الفريق الأول أن استعمال أفعل التفضيل قذف لأن معناه أن فلانًا زان وأنت أزنى منه وأنه فى الناس زناة وأنت أزنى منهم (4) .

ويرى الشافعى أنه إذا قال لغيره: أنت أزنى من فلان أو أنت أزنى الناس، لم يكن قذفًا من غير نية؛ لأن لفظة أفعل لا تستعمل إلا فى أمر يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما فيه بمزية، وما ثبت أن فلانًا زان ولا أن الناس زناة فيكون هو أزنى منهم، وإن قال:

(1) شرح فتح القدير ج4 ص 201، نهاية المحتاج ج7 ص 417.

(2)

شرح فتح القدير ج4 ص 202، المهذب ج2 ص 290، شرح الزرقانى ج8 ص 91، المغنى ج10.

(3)

شرح الزرقانى ج8 ص 91، المغنى ج10ص 216

(4)

شرح فتح القدير ج4 ص 191، 211.

ص: 468

فلان زان وأنت أزنى منه أو أنت أزنى زناة الناس، فهو قذف لأنه أثبت زنا غيره ثم جعله أزنى منه (1) .

وإذا قال القاذف لشخص: أنت أزنى من فلان، فهو قاذف لهذا الشخص، ولكن هل يكون قاذفًا لفلان أيضًا؟ فيه وجهان: أولهما: يكون قاذفًا للمخاطب خاصة لأن لفظة أفعل للتفضيل فيقتضى اشتراك الاثنين فى اصل الفعل وتفضيل أحدهما على الآخر فيه، ثانيهما: قاذفًا للمخاطب خاصة لأن لفظة أفعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل كقول الله تعالى: {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَاّ يَهِدِّى إِلَاّ أَن يُهْدَى} [يونس: 35]، وقال تعالى:{فَأَىُّ الْفَرِيقَيْن أَحَقُّ بِالأَمْنِ} [الأنعام: 81] .

وقوله على لسان لوط: {هَؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] أى من أدبار الرجال ولا طهارة فى أدبار الرجل.

ويلاحظ أن الشافعى يشترط لاعتبار القول قذفًا أن يريد القائل القذف، وأن بعض الفقهاء فى مذهب أبى حنيفة لا يعتبرون ذلك قذفًا كما ذكرنا فى الفقرة السابقة (2) .

وإذا استعمل القاذف فى القذف ألفاظًا مشتركة تفيد الزنا وتفيد غيره كقوله: زنأت فى الجبل؛ بالهمزة، فيرى بعض أن العبرة بما يفهمه عامة الناس من العبارة وأنه قذف لأن عامة الناس لا يفهمون من العبارة إلا أنها قذف، وقال البعض إنه قذف إذا كان القاذف عاميًا وكان المعنى العامى يستعمل فى القذف لأنه لا يريد به إلا القذف وإن كان من أهل العلم باللغة فهو ليس قذفًا (3) .

استعمال صيغة المبالغة أو صيغة الترخيم لا ينفى وجوب الحد على القاذف، فمن قال لرجل: يا زانية، أو قال لامرأة: يا زانى، فهو قذف صريح، ذلك هو رأى مالك والشافعى وأحمد (4) .

(1) المهذب ج2 ص 290، 291.

(2)

المغنى ج10ص 216.

(3)

المغنى ج10ص 216، شرح فتح القدير ج 4 ص200 ، المهذب ج10 ص 291.

(4)

مواهب الجليل ج6 ص 304، المهذب ج2 ص 291 المغنى ج10 ص 217.

ص: 469

ويرى أبو حنيفة وأصحابه حد القاذف لو قال لامرأة يا زانى؛ لأن الترخيم شائع ولا يمكن أن يفهم من هذا اللفظ إلا الرمى بالزنا، أما إذا استعمل القاذف صيغة المبالغة فقال للرجل يا زانية، فلا حد عليه عند أبى حنيفة وأبى يوسف وإنما عليه التعزير لأنه رماه بما يستحيل منه إذ الزانية هى المرأة وهى محل للوطء والرجل ليس محلًا له، ويرى محمد من أصحاب أبى حنيفة حد القاذف بصيغة المبالغة لأن التاء فى الزانية أضيفت للمبالغة وليست للتأنيث (1) .

وإذا رمى القاذف رجلا بالزنا وعيَّن المزنى بها كأن قال: زنيت بفلانة، فهو قاذف للرجل والمرأة معًا، أو قال له يا زانى ابن الزانى وكان الأب موجودًا فهو قاذف للأب وابنه، أو قال لامرأة يا زانية بنت الزانية فهو قاذف للمرأتين (2) .

ويشترط فى القذف أن يكون المقذوف معلومًا فإن كان مجهولا فلا حد على القاذف، فمن قال لجماعة: ليس فيكم زان إلا واحد، أو قال لرجلين: أحدكما زان، لم يحد لأن المقذوف مجهول وما جعل الحد إلا لدفع العار عن المقذوف (3) .

ويجب أن يكون القذف مطلقًا عن الشرط والإضافة إلى وقت معين، فإن كان كذلك فلا حد عليه فيه؛ لأن ذكر الشرط والوقت يمنع وقوعه قذفًا للحال، فمن قال لآخر: إن دخلت هذه الدار فأنت زان فدخلها فلا يعتبر قاذفًا. ومن قال لآخرين: من قال عنى كذا وكذا فهو زان فقال رجل أنا قلت ذلك؛ فلا حد، ومن قال لغيره: أنت زان أو ابن الزانية غدًا أو رأس الشهر، فجاء الغد أو رأس الشهر فلا حد عليه (4) .

ولا يعتبر نقل القذف قذفا من الناقل إذا نقله للمقذوف كلف بذلك أم لم يكلف به، بشرط أن يثبت أنه ناقل وأن تكون الصيغة دالة على أنه مكلف

(1) شرح فتح القدير ج4 ص 191.

(2)

المغنى ج10ص 216، المهذب ج2 ص 293، بدائع الصنائع ج7 ص 42.

(3)

المغنى ج10ص 216، المهذب ج2 ص 293، بدائع الصنائع ج7 ص 42.

(4)

بدائع الصنائع ج7 ص 46، المغنى ج10 ص 225.

ص: 470

بالنقل أو أنه يروى عن غيره، فمن قال لآخر: اذهب إلى فلان فقل له يا زانى، فذهب الآخر وقال ذلك للمقذوف، فلا حد عليه، أما إذا اقتصر على عبارة القذف فقط فهو قاذف. ويرى كل من أبى حنيفة والشافعى وأحمد أن الناقل لا يعتبر قاذفًا إذا كذبه المنقول عنه حيث لم يثبت أنه ناقل (1) .

وإذا رمى القاذف بالزنا خصيًا أو مجبوبًا أو مريضًا فعليه الحد عند أحمد، وحجته أن نص القذف عام ينطبق على كل قذف وكل مقذوف فيستوى أن يكون المقذوف قادرًا على الوطء أو عاجزًا عنه، لأن إمكان الوطء أمر خفى لا يعلمه الكثير من الناس فلا ينتفى العار عند من لم يعلمه بدون الحد، ويرى مالك وأبو حنيفة والشافعى أن لا حد على قاذف أحد هؤلاء ما دامت الواقعة المقذوف بها تالية للعجز عن الوطء لأن العار منتف عن المقذوف بدون الحد للعلم بكذب القاذف والحد إنما يجب لنفى العار، ولكن امتناع الحد لا يمنع من تعزير القاذف لأنه آذى المقذوف (2) .

ويشترط أبو حنيفة لحد القاذف أن يكون القذف فى دار الإسلام فإن كان القذف فى دار الحرب أو فى دار البغى فلا حد على القاذف؛ لأنه لا ولاية للإمام على دار الحرب ولا على دار البغى وقت القذف (3) .

ولكن الأئمة الثلاثة يرون حد القاذف على قذفه ولو وقع فى دار الحرب أو دار البغى ما دام أنه يلتزم أحكام الإسلام. ومن نفى شخصًا عن أبيه كأن قال له لست لأبيك فإنه يحد باتفاق، ولكن أبا حنيفة يشترط أن تكون أم المنفى نسبه حرة مسلمة لأن القذف فى الحقيقة قذف للأم، ويفرق بين ما إذا كان النفى فى حالة الغضب فيوجد الحد وبين ما إذا

(1) بدائع الصنائع ج7 ص 44، المهذب ج2 ص 293، المغنى ج10 ص 216.

(2)

شرح الزرقانى ج8 ص 86، شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 203.

(3)

بدائع الصنائع ج7 ص 45.

ص: 471

كان النفى فى غير حالة الغضب فلا يوجد الحد، لاحتمال أن يكون المراد بالنفى غير حقيقة كأن يكون المقصود المعايبة على عدم التشبه بالأب فى محاسن أخلاقه، وعلى هذا يتوقف الحد وعدمه على القرينة، وهذا يتفق مع رأى بعض الشافعية، أما البعض الآخر فهم يرون مع مالك وأحمد الحد سواء نفى النسب فى غضب أو غيره، ويرى أبو حنيفة أيضًا أن من نفى نسب شخص عن جده فقال لست ابن فلان لجده، فلا حد عليه لأنه صادق فى كلامه، لأن الإنسان ليس ابن جده. وكذلك إذا نسب شخصًا لعمه أو خاله أو زوج أمه لا يحد لأن كلًا منهم يسمى أبًا، فالعم يسمى أبًا لقوله تعالى:{وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعيِلَ وإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] وإسماعيل كان عمًا له، والخال أب، ولأن زوج الأم أب للتربية (1) .

ولكن مالكًا يرى الحد فى كل هذه الحالات (2) . ولا يشترط الشافعى وأحمد هذا الشرط، ويحد القاذف عندهما ولو لم تكن الأم حرة أو مسلمة، وقد توقف مالك فى حالة ما إذا كانت الأم كافرة أو أمَة، ورأى ابن القاسم أن يحد من ينفى النسب ولو كانت المكافرة أو أمة (3) ، أما من ينفى شخصًا عن أمه فلا حد عليه بالإجماع لأنه لم يقذف أحدًا بالزنا (4) ، ومن نفى شخصًا عن قبيلته فعليه الحد عند مالك وأحمد ولا حد عليه عند أبى حنيفة (5) ، وفى مذهب الشافعى قولان، ومن نفى شخصًا عن جنسه بأن قال له: أنت نبطى أو رومى أو لست عربيًا فعليه الحد عند مالك ولا حد عليه عند أبى حنيفة، وفى مذهب الشافعى وأحمد قولان: أحدهما: عليه الحد لأنه أراد نفى نسبه لأن الله تعالى علق الحد على الرمى بالزنا، والثانى: لا حد عليه لأنه يحتمل غير القذف احتمالاً كثيرًا (6) ، أما إذا كان المنفى جنسه غير عربى فلا حد عليه.

(1) شرح فتح القدير ج4 ص 194، 200.

(2)

مواهب الجليل ج6 ص 300، 301.

(3)

المغنى ج10 ص 215، المهذب ج2 ص 291، شرح فتح القدير ج4 ص 193، مواهب الجليل ج6 ص 298.

(4)

شرح فتح القدير ج4 ص 194.

(5)

شرح فتح القدير ج4 ص 199، الغنى ج10 ص215..

(6)

شرح الزرقانى ج8 ص88، 89 المهذب ج2 ص291، المغنى ج10 ص 215.

ص: 472