الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الركن الأول: الرجوع عن الإسلام
674-
الرجوع عن الإسلام: هو ترك الإسلام؛ أى ترك التصديق به، والرجوع يكون بأحد طرق ثلاثة: بالفعل أو بالامتناع عن الفعل، وبالقول، وبالاعتقاد.
فالرجوع عن الإسلام بالفعل يحدث بإتيان أى فعل يحرمه الإسلام إذا استباح الفاعل إتيانه سواء أتاه متعمدًا أو أتاه استهزاء بالإسلام واستخفافًا أو عنادًا ومكابرة؛ كالسجود لصنم أو للشمس أو القمر أو لأى كوكب، وكإلقاء المصحف وكتب الحديث فى الأقذار أو وطأها استهزاءً بها أو استخفافًا بما جاء فيها أو عنادًا، ويكون أيضًا بإتيان المحرمات مع استحلال إتيانها كأن يزنى الزانى وهو يعتقد أن الزنا غير محرم بصفة عامة أو غير محرم عليه، وكاستحلال شرب الخمر واستحلال قتل المعصومين وسلب أموالهم، فمن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه وظهر حكم بين المسلمين وزالت الشبهة فى حله بالنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر، وكذلك إن استحل قتل المعصومين أو أخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل، أما إذا كان الاستحلال بتأويل كما هو حال الخوارج فأكثر الفقهاء لا يرون كفر الفاعل، وقد عرف عن الخوارج أنهم يكفِّرون كثيرًا من الصحابة والتابعين ويستحلون دماءهم وأموالهم ويعتقدون أنهم يتقربون إلى الله جل شأنه بقتلهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك الحكم فى كل محرم استُحل بتأويل فلا يعتبر فاعله مرتدًا.
ومن الأمثلة على استحلال المحرم بالتأويل ما فعله قدامة بن مظعون فقد شرب الخمر مستحلاً لها، وكذلك فعل أبو جندل بن سهل وجماعة معه شربوا الخمر فى الشام مستحلين لها مستدلين بقول الله جل شأنه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} [المائدة:93] ، فلم يكفروا بفعلهم وعرفوا تحريمها فتابوا وأقيم عليهم حد الخمر باعتبارهم عاصين. ومن استحل محرمًا يجهل تحريمه فلا يعتبر مرتدًا إذا ثبت أنه يجهل التحريم ويعرف أن الفعل محرم، فإذا عاد له مستحلاً إياه فهو كافر لا شك فى كفره، أما إن أتاه غير مستحل له فهو عاصٍ لا كافر (1) .
ويعتبر راجعًا عن الإسلام من امتنع عن إتيان فعل يوجبه الإسلام إذا أنكر هذا الفعل أو جحده أو استحل عدم إتيانه؛ كأن يمتنع عن أداء الصلاة أو الزكاة أو الحج جاحدًا لها منكرًا إياها. وكذلك الامتناع عن كل ما أوجبته الشريعة وأجمع على وجوبه. ويعتبر الممتنع كافرًا إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك، فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث عهد بالإسلام أو ناشئ بغير داره أو ببادية بعيده عن الأمصار وأهل العلم، لم يحكم بكفره، ويعرَّف ذلك وتبين له أدلة وجوب ما ينكره، فإن جحد بعد ذلك كفر، أما إذا كان الجاحد ناشئًا فى الأمصار بين أهل العلم بالشريعة فإنه يكفر بمجرد الجحد، وكذلك الحكم فى مبانى الإسلام كلها ومبادئه الأولية المتفق عليها؛ لأن أدلة وجودها لا تكاد تخفى والكتاب والسنة مشحونان بأدلتها والإجماع منعقد عليها فلا يجحدها إلا معاند للإسلام ممتنع عن التزام أحكامه، غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع أمته (2) .
ومن الأمثلة الظاهرة على الكفر بالامتناع فى عصرنا الحاضر الامتناع عن الحكم بالشريعة الإسلامية وتطبيق القوانين الوضعية بدلاً منها، والأصل فى الإسلام أن الحكم بما أنزل الله واجب وأن الحكم بغير ما أنزل الله محرم،
(1) مواهب الجليل ج6 ص279، 280، شرح الزرقانى ج8 ص62، 65، نهاية المحتاج ج7 ص395، 396، أسنى المطالب ج4 ص116، 118، حاشية ابن عابدين ج3 ص391، 393، المغنى ج10 ص85، كشاف القناع ج4 ص101-103، شرح الأزهار ج4 ص575-577.
(2)
نفس المراجع السابقة.
ونصوص القرآن صريحة وقاطعة فى هذه المسألة، فالله جل شأنه يقول:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ} [يوسف:40]، ويقول:{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، ويقول:{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، ويقول:{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، ويقول:{اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]، ويقول:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، ويقول:{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50]، ويقول:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، وقوله:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]، وقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] .
ولا خلاف بين الفقهاء والعلماء فى أن كل تشريع مخالف للشريعة الإسلامية باطل لا تجب له طاعة، وأن كل ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين ولو أمرت به أو أباحته السلطة الحاكمة أيًا كانت، ومن المتفق عليه أم من يستحدث من المسلمين أحكامًا غير ما أنزل الله ويترك بالحكم بها كل أو بعض ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته، فإنه يصدق عليهم ما وصفهم به الله تعالى من الكفر والظلم والفسق كل بحسب حالته، فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعًا، ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم إن كان فى حكمه مضيعًا لحق أو تاركًا لعدل أو مساواة وإلا فهو فاسق، ومن المتفق عليه أن من رد شيئًا من أوامر الله أو أوامر رسوله فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك
أو من جهة ترك القبول أو الامتناع عن التسليم، ولقد حكم الصحابة بارتداد مانعى الزكاة واعتبروهم كفارًا خارجين عن الإسلام لأن الله حكم بأن من لم يسلم بما جاء به الرسول ولم يسلم بقضائه وحكمه فليس من أهل الإيمان، قال جل شأنه:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء:65](1) .
ويعتبر خروجًا عن الإسلام صدور قول من الشخص هو كفر بطبيعته أو يقتضى الكفر؛ كأن يجحد الربوبية فيدعى أن ليس ثمة إله أو يجحد الوحدانية فيدعى أن لله شركاء أو يقول بأن لله صاحبة أو ولدًا، ويدعى النبوة أو يصدق مدعيها، أو ينكر الأنبياء والملائكة أو أحدهم، أو جحد القرآن أو شيئًا منه، أو جحد البعث أو أنكر الإسلام أو الشهادتين، أو أعلن براءته من الإسلام، أو قال إن الشريعة لم تجئ لتنظيم العلاقات بين الإفراد والجماعات والحاكمين والمحكومين، وأن أحكامها ليست واجبة التطبيق فى كل الأحوال وعلى كل المسائل، أو قال إن أحكام الشريعة كلها أو بعضها ليست أحكامًا دائمة وإن بعضها أو كلها موقوت بزمن معين، أو قال إن أحكام الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر وإن غيرها من أحكام القوانين الوضعية خير منها.
ويعتبر خروجًا عن الإسلام كل اعتقاد منافٍ للإسلام كالاعتقاد بقدم العالم وأن ليس له موجد، وكاعتقاد حدوث الصانع، والاعتقاد باتحاد المخلوق والخالق، أو بتناسخ الأرواح، أو باعتقاد أن القرآن من عند غير الله، أو أن محمدًا كاذب، أو أن عليًا إله أو أنه هو الرسول، وغير ذلك من الاعتقادات المنافية للقرآن والسنة، وكذلك الاعتقاد بأن الشريعة لا تصلح للتطبيق فى هذا العصر أو أن
(1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص214، أعلام الموقعين ج1 ص57، 58، تفسير المنار ج6= =ص405، روح المعانى للألوسى ج6 ص140، تفسير الطبرى ج6 ص119، تفسير القرطبى ج6 ص100، التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص196-206.
تطبيقها كان سبب تأخر المسلمين وانحطاطهم، أو أنه لا يصلح المسلمين إلا التخلص من أحكام الشريعة والأخذ بأحكام القوانين الوضعية.
ويلاحظ أن الاعتقاد المجرد لا يعتبر ردة يعاقب عليها ما لم يتجسم فى قول أو عمل، فإذا لم يتجسم الاعتقاد الكفرى فى قول أو عمل فلا عقاب عليه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله عفا لأمتى عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم"، فإذا اعتقد المسلم اعتقادًا منافيًا للإسلام أيًا كان هذا الاعتقاد فهو لا يخرجه عن الإسلام إلا إذا أخرجه من سريرته فى قول أو عمل، فإذا لم يخرجه من سريرته فهو مسلم ظاهرًا فى حكم الدنيا، أما فى الآخرة فأمره لله فإذا أظهر اعتقاده المنافى للإسلام فى قول أو فعل وثبت ذلك عليه فقد ثبتت عليه الردة.
ويختلف الفقهاء فى ماهية السحر وفى حكم الساحر، فأما فى ماهية السحر فإنهم يسلمون للسحر أثره، ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان حقيقة أو تخيلاً فرأى البعض أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تخيل واحتجوا بقول الله جل شأنه:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، ورأى البعض أن السحر له حقيقة واحتجوا بقوله تعالى:{وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ} [الفلق:4] ، أى السواحر، وقالوا: لو أن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة منه، كما احتجوا بقوله تعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} إلى قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] ، وقالوا إن من المشهور بين الناس عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها وحل عقده فيقدر عليها بعد عجزه عنها حتى صار متواترًا لا يمكن جحده.
ومن المتفق عليه أن تعلُّم السحر وتعليمه حرام، واعتقاد إباحته كفر، ولكنهم اختلفوا فى حكم الساحر، فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الساحر
يكفر بتعلم السحر وبفعله سواء اعتقد تحريمه أو لم يعتقده، ويقتل بذلك دون استتابة لما روى عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"حد الساحر ضربه بالسيف"، ولذلك يرى الحنفيون قتل المرأة ولو أنهم لا يرون قتل المرأة المرتدة لأن الساحر يقتل حدًا لا ردة واو أنه يكفر بسحره، والمرتد يستتاب أما فى الحد فلا استتابة إلا حيث يوجد نص، ولا نص (1) .
وهناك رواية عن أحمد بأن الساحر لا يكفر بتعلم السحر ولا بفعله، وإنما هو عاصٍ يؤدب ويستتاب (2) .
ويرى الشافعى أن الساحر لا يعتبر مرتدًا إلا إذا أتى فى سحره بقول أو فعل يكفره كالإشراك بالله والسجود للشمس أو الكواكب أو إذا استحل السحر، فإن لم يأت بشيء من الكفر الذى لا خلاف فيه فهو مسلم عاص (3) .
ولا يأخذ الشافعيون بحديث جندب ومثلهم الظاهريون لأنه حديث مرسل، ويرى ابن حزم أن الحديث روى هكذا:"حد الساحر ضربه بالسيف"، وليس فيه قتله، والضربة قد تقتل وقد لا تقتل، وعنده أن الحديث غير صحيح، وإذا لم يصح الحديث وجب الرجوع للنصوص العامة وهى تحريم القتل إلا بحق:{وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللهُ إِلَاّ بِالحَقِّ} [الإسراء:33]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم"، فصح بالقرآن والسنة أن كل مسلم دمه حرام إلا بنص ثابت أو إجماع متيقن وليس فى السحر نص ثابت إلا ما روى أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات"، فكان هذا بيانًا جليًا بأن السحر ليس من الشرك ولكنه معصية موبقة كقتل
(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص408، 409، شرح فتح القدير ج4 ص408، المغنى ج10 ص113 وما بعدها.
(2)
مواهب الجليل ج6 ص279، 280.
(3)
أسنى المطالب ج4 ص117.
النفس فارتفع الإشكال وصح أن السحر ليس كفرًا، وإذا لم يكن كفرًا فلا يصح قتل فاعله إلا إذا أتى بما هو كفر؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنًا بعد إحصان، ونفس بغير نفس"(1) .
وفى الكاهن والعراف نفس الخلاف فى الساحر. والكاهن هو الذى له رِئْى من الجن يأتيه بالأخبار، والعراف هو الذى يحدس ويتخرص، على أن الحنفيون يرون أن العراف والكاهن إن اعتقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر، وإن اعتقد أنه تخييل لم يكفر، وفى مذهب أحمد روايتان: الأولى: حكمهما حكم الساحر، لقول عمر: اقتلوا كل ساحر وكاهن، والثانية: إن تاب لم يقتل، ويرى الحنفيون المتأخرون أنه لا يجب العدول عن مذهب الشافعى فى كفر الساحر والكاهن والعراف (2) .
ويرى الشيعة الزيدية أن الساحر مرتد وأن حده القتل بعد الاستتابة كالمرتد (3) .
ولا تصح الردة إلا من عاقل، فلا تصح الردة ممن لا عقل له كالمجنون ومن زال عقله بإغماء أو نوم أو مرض أو شرب دواء مباح، وكالطفل الصغير الذى لم يميز.
675-
ردة المجنون وإسلام من فى حكمه: لا تصح ردة المجنون لأن العقل من شرائط الأهلية خصوصًا فى الاعتقادات، ومن المتفق عليه أن المجنون إذا ارتد فى حال جنونه فإنه مسلم على ما كان عليه قبل ذلك، ولو قتله قاتل عمدًا كان عليه القود، والأصل فى ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق"، فلا تصح ردة المجنون لأنه لا قول له، أما إذا ارتد فى حال إفاقته صحت ردته،
(1) المحلى ج11 ص394.
(2)
نفس المراجع السابقة، المغنى ج10 ص118، شرح الزرقانى ج8 ص62.
(3)
شرح الأزهار ج4 ص379.
فإن ارتد صاحيًا ثم جن بعد ذلك لم يقتل حال جنونه لأنه يقتل بالإصرار على الردة بعد استتابته والمجنون لا يمكن أن يوصف بالإصرار كما أنه لا يمكن أن يستتاب، فإذا قتله قبل إفاقته أو بعدها وقبل استتابته عزر لتفويته الاستتابة الواجبة ولافتياته على السلطات العامة، ولكنه لا يسأل عن القتل، وإذا كان المجنون المقتول امرأة فلا قود على من قاتلها عند أبى حنيفة، وإنما على القاتل التعزير فقط، لأن الردة تبيح دم صاحبها، وكل جناية على المرتد هدر، ومن قتل المرأة بالردة راجع للشبهة (1) .
والقاعدة عند الشافعى وأحمد أن المجنون تنفذ عليه حال جنونه كل جريمة تثبت عليه بالبينة، وعقوبة كل جريمة ثابتة بالإقرار، وإذا كان العدول عن الإقرار لا يسقط الإقرار كالقصاص. أما إذا كانت العقوبة ثابتة بالإقرار وكان العدول عن الإقرار يسقط العقوبة كما هو الحال فى السرقة والزنا والشرب فيوقف التنفيذ حتى يفيق المجنون لاحتمال أنه إذا أفاق عدل عن إقراره فسقطت العقوبة المحكوم بها (2) .
وفى مذهب مالك يرون أن الجنون يوقف تنفيذ الحكم ويظل الحكم موقوفًا حتى يفيق المجنون، إلا إذا كانت العقوبة قصاصًا، فإنها على رأى البعض تسقط باليأس من إفاقة المجنون، وباقى الآراء ورأى أبى حنيفة تراجع فى التشريع الجنائي (3) .
676-
ردة السكران وإسلامه: يرى أبو حنيفة وأصحابه أن
(1) المغنى ج10 ص76، 110، أسنى المطالب ج4 ص120 وما بعدها، شرح الزرقانى ج8 ص69، 70، بدائع الصنائع ج7 ص134، 135، حاشية ابن عابدين ج3 ص293، 294، شرح فتح القدير ج4 ص387، 407، شرح الأزهار ج4 ص575، المحلى ج10 ص344.
(2)
أسنى المطالب ج4 ص120، المغنى ج10 ص110، التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص511،512.
(3)
التشريع الجنائى ج1 ص512.
السكران حكمه حكم المجنون فلا يصح إسلامه ولا تصح ردته، وهم لا يصححون ردته ولا إسلامه استحسانًا، أما حكم القياس عندهم فتصحيح ردته وإسلامه لأن الأحكام مبنية على الإقرار بظاهر اللسان لا على ما فى القلب إذ هو أمر باطن فلا يوقف عليه، أما وجه الاستحسان فإن أحكام الكفر مبنية على الكفر كما أن أحكام الإيمان مبنية على الإيمان، والإيمان والكفر يرجعان إلى التصديق والتكذيب، وإنما كان الإقرار دليلاً عليهما وإقرار السكران لا يصح دليلاً، وإذا لم يصح الدليل لم يثبت المدلول عليه (1) .
ويتفق المذهب الظاهرى مع مذهب أبى حنيفة فى هذه المسألة، فالظاهريون لا يعتبرون ردة السكران ولا أى فعل أتاه وهو سكران سواء أدخل السكر على نفسه أم أدخله عليه غيره (2) .
وفى مذهب مالك والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية خلاف، والرأى الراجح فى هذه المذاهب أو ردة السكران لا تصلح إذا أدخل السكر على نفسه وكان عالمًا بأنه يتناول سكرًا، أما الرأى المرجوح فلا يصحح ردته لأنه زائل العقل ولأن المسألة متعلقة بالاعتقاد (3) .
ويلاحظ أن القائلين بتصحيح ردة السكران يصححون إسلامه، وأن القائلين بعدم تصحيح الردة لا يصححون إسلام السكران.
677-
ردة الصبى وإسلامه: من المتفق عليه أن ردة الصبى الذى لا يعقل غير صحيحة، ولكنهم اختلفوا فى ردة الصبى الذى يعقل على الوجه الآتى:
فيرى أبو حنيفة ومحمد أن البلوغ ليس شرط للردة فتصح ردة الصبى الذى يعقل، ويرى أبو يوسف أن الصبى الذى لم يبلغ لا تصح ردته، وحجتهما أن الصبى
(1) بدائع الصنائع ج7 ص134، شرح فتح القدير ج4 ص407.
(2)
المحلى ج10 ص208، 344، المحلى ج7 ص322 وما بعدها.
(3)
المغنى ج10 ص108، 110، نهاية المحتاج ج7 ص397، المهذب ج2 ص238، شرح الأزهار ج4 ص575، مواهب الجليل ج4 ص34.
المميز يصح إسلامه فتصح ردته؛ لأن صحة الإسلام والردة مبنية على وجود الإيمان أو الكفر حقيقة، لأن الإيمان والكفر من الأفعال الحقيقية وهما أفعال خارجة من القلب بمنزلة أفعال سائر الجوارح، والإقرار الصادر عن العقل دليل وجودهما وقد وجدها هنا، إلا أنه من وجود الكفر من الصبى العاقل لا يقتل ولكن يحبس إذ لا قتل إلا على البالغ بعد استتابته فيحبس الصبى حتى يبلغ ثم يستتاب، ويشترط أبو يوسف البلوغ لصحة الردة فلا تصح الردة عنده إلا إذا بلغ الصبى مرتدًا، وحجته أن عقل الصبى فى التصرفات الضارة المحضة ملحق بالعدم ولهذا لم يصح طلاقه وإعتاقه وتبرعاته، والردة مضرة محضة، أما الإيمان فيصح من الصبى لأنه نفع محض، ولذلك صح إسلام الصبى عند أبى يوسف ولم تصح ردته (1) .
ويتفق مذهب مالك مع رأى أبى حنيفة ومحمد.
وفى مذهب أحمد رأيان: أولهما وهو المعمول به فى المذهب: أن ردة الصبى تصح، وهذا يتفق مع رأى أبى حنيفة ومحمد، وظاهر مذهب مالك، والثانى: أن الصبى يصح إسلامه ولا تصح ردته، وهو يتفق مع رأى أبى يوسف (2) .
ويلاحظ أن الخلاف ليس له أهمية عملية من الناحية الجنائية، لأن الصبى لا يقتل سواء قيل بصحة ردته أو بعدم صحتها، إذ الغلام لا تجب عليه الحدود حتى يبلغ، فإذا بلغ فثبت على ردته ثبت حكم الردة ووجبت عليه العقوبة بعد الاستتابة إن لم يتب، فيستوى إذن فى الحكم المرتد قبل بلوغه والمرتد وقت بلوغه، والمسلم الأصلى الذى ارتد والكافر الذى ارتد والكافر الذى أسلم صبيًا ثم ارتد (3) .
أما مذهب الشافعى فلا يصحح ردة الصبى ولا إسلامه إلا بالبلوغ، وعلى هذا الرأى زفر من أصحاب أبى حنيفة، وهو يتفق مع مذهب الظاهريين ومذهب الشيعة الزيدية، وحجة أصحاب هذا الرأى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم
(1) بدائع الصنائع ج7 ص134، 135.
(2)
المغنى ج10 ص92، 92.
(3)
نفس المرجع السابق.
عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق".
وأصحاب هذا الرأى إذا كانوا لا يصححون إسلام الصبى فإنهم يعتبرونه مسلمًا حكمًا أو تبعًا، لأن الصغير يعتبر مسلمًا تبعًا لأبويه أو أحدهما ولا يأخذ حكمهما حتى البلوغ، فلو صحح إسلامه لكان مسلمًا أصلاً، فيكون هناك تناقض بين اعتباره مسلمًا تبعًا لأبويه أو أحدهما وبين اعتباره مسلمًا أصلاً، فضلاً عن أن الإسلام يلزمه أحكامًا تشوبها المضرة من حرمان الإرث والفرقة بينه وبين زوجته المشركة، وهو ليس أهلاً لما يضر به من التصرفات (1) .
وخلاصة ما سبق أن الفقهاء على ثلاثة آراء فى ردة الصبى العاقل وإسلامه، فبعضهم لا يصحح إسلام الصبى المميز - أى الذى يعقل - ولا ردته، وبعضهم يصحح إسلامه ولا يصحح ردته، وبعضهم يصحح إسلامه وردته معًا، وهذا فى الصبى المميز أى الذى يعقل، أما الصبى الذى لا يعقل فلا يصح له إسلام ولا رده اتفاقًا، وإن كان محكومًا له بالإسلام تبعًا لأبويه، والفقهاء الذين يصححون إسلام الصبى الذى يعقل يشترطون لصحة إسلامه شرطين:
أولهما: أن يعقل الإسلام ومعناه، وأن يعلم أن الله تعالى ربه لا شريك له وأن محمدًا عنده ورسوله، وهذا الشرط لا خلاف عليه لأن الطفل الذى لا يعقل لا يتحقق عنده اعتقاد الإسلام.
ثانيهما: أن يكون عمره عشر سنوات، وهو شرط غير متفق عليه.
وأكثر من يصححون إسلام الصبى لم يشترطوا ذلك ولم يحددوا له حدًا من السنين، وحجة من يشترطون عشر سنوات أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بضرب الصبيان على الصلاة لعشر، وهذا هو مذهب الحنابلة، على أن هناك رواية عن احمد بتصحيح إسلام الصبى إذا بلغ سبع سنوات لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
(1) أسنى المطالب ج4 ص120، 123، 194، نهاية المحتاج ج7 ص397، شرح فتح القدير ج4 ص404، المغنى ج10 ص88، المحلى ج10 ص218، 344، وج7 ص322 وما بعدها، شرح الأزهار ج4 ص575.
"مروهم بالصلاة لسبع"، فدل ذلك على صحة عباداتهم فيكون حدًا لصحة إسلامهم، وبعض الفقهاء يرى تصحيح إسلام الصبى إذا بلغ خمس سنوات، وحجته أن عليًا أسلم فى هذا السن (1) .
ويعتبر ولد المرتد مسلمًا إذا حُمل به فى الإسلام سواء كان المرتد الأب أو الأم أو هما معًا، فإن بلغ أولاد المرتد فثبتوا على إسلامهم فهم مسلمون، وإن بلغوا كافرين فهم مرتدون، لهم حكم المرتدين، أما من حُمل به بعد الردة فهو محكوم بكفره لأنه من أبوين كافرين؛ سواء حمل به فى دار الإسلام أو فى دار الحرب (2) .
والقاعدة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والظاهريين والشيعة الزيدية أنه إذا أسلم أحد الأبوين كان أولاده الصغار مسلمين تبعًا له، يستوى فى ذلك أن يكون المسلم الأب أو الأم، ولكن مالكًا يرى أن الصغار يتبعون فى الإسلام الأب فقط، فإذا أسلم الأب تبعه أولاده، وإن أسلمت الأم لم يتبعوها لأن الولد يتبع أباه ولا يتبع أمه (3) .
678-
ردة المكره وإسلامه: ومن أُكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر أو بعمل مكفِّر لم يصر كافرًا، وهذا متفق عليه فى المذاهب الأربعة، وعليه مذهب الشيعة الزيدية ومذهب الظاهريين، وشهادة ذلك قوله تعالى:{إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ} [النحل:106]، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عفى لأمتى عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا
(1) المغنى ج10 ص89، 90، شرح فتح القدير ج4 ص407.
(2)
شرح الزرقانى ج8 ص62، بدائع الصنائع ج7 ص139، أسنى المطالب ج4 ص123، المغنى ج10 ص93، كشاف القناع ج4 ص109، شرح الأزهار ج4 ص580، 581.
(3)
المغنى ج10 ص96، شرح الزرقانى ج8 ص66، مواهب الجليل ج6 ص284، المحلى ص322، ونفس المراجع السابقة.