المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، ويرون أن علم - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي - جـ ٢

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌الباب الأولفى الجنايات

- ‌الفصل الأولالقتل

- ‌المبحث الأولالقتل العمد

- ‌الركن الأول: القتيل آدمى حي

- ‌الركن الثانى: القتل نتيجة لفعل الجاني

- ‌الركن الثالث: أن يقصد الجانى إحداث الوفاة

- ‌المبحث الثانيالقتل شبه العمد

- ‌الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه

- ‌الركن الثانى: أن يتعمد الجانى الفعل

- ‌الركن الثالث: أن يكون بين الفعل والموت رابطة السببية

- ‌المبحث الثالثالقتل الخطأ

- ‌الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه

- ‌الركن الثانى: الخطأ

- ‌الركن الثالث: أن يكون بين الخطأ والموت رابطة السببية

- ‌المبحث الرابععقوبات القتل العمد

- ‌الفصل الثانيالجناية على ما دون النفس

- ‌ القسم الأول: إبانة الأطراف وما يجرى مجراها:

- ‌ القسم الثانى: إذهاب معانى الأطراف مع بقاء أعيانها:

- ‌ القسم الثالث: الشجاج:

- ‌ القسم الرابع: الجراح:

- ‌ القسم الخامس: ما لا يدخل تحت الأقسام السابقة:

- ‌الركن الأول: فعل يقع على جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته:

- ‌الركن الثانى: أن يكون الفعل متعمدًا:

- ‌الفصل الثالثالجناية على ما هو نفس من وجه دون وجهأى الجناية على الجنين أو الإجهاض

- ‌الباب الثانى فى الحدود

- ‌الكتاب الأولالزنا

- ‌الفصل الأولأركان جريمة الزنا

- ‌الركن الأول: الوطء المحرم

- ‌الركن الثانى: تعمد الوطء

- ‌الفصل الثانىعقوبة الزنا

- ‌المبحث الأولعقوبة البكر

- ‌المبحث الثانىعقوبة المحصن

- ‌المبحث الثالثالإحصان

- ‌الفصل الثالثالأدلة على الزنا

- ‌المبحث الأولالشهادة

- ‌المبحث الثانىالإقرار

- ‌الكتاب الثانىالقذف

- ‌المبحث الأولأركان جريمة القذف

- ‌الركن الأول: الرمى بالزنا أو نفى النسب:

- ‌الركن الثانى: إحصان المقذوف:

- ‌الركن الثالثالقصد الجنائى

- ‌المبحث الثانىدعوى القذف

- ‌المبحث الثالثالأدلة على القذف

- ‌المبحث الرابععقوبة القذف

- ‌الكتاب الثالثالشرب

- ‌المبحث الأولأركان الجريمة

- ‌الركن الأول: الشرب

- ‌الركن الثانى: القصد الجنائى

- ‌عقوبة الشرب

- ‌المبحث الثانيالأدلة على الشرب

- ‌الكتاب الرابعالسرقة

- ‌المبحث الأولأركان السرقة

- ‌الركن الأول: الأخذ خفية

- ‌الركن الثانى: أن يكون المأخوذ مالاً

- ‌الركن الثالث: أن يكون مملوكًا للغير

- ‌الركن الرابع: القصد الجنائي

- ‌المبحث الثانيأدلة السرقة

- ‌المبحث الثالثما يترتب على ثبوت السرقة

- ‌الكتاب الخامسالحرابة

- ‌الكتاب السادسالبغي

- ‌الركن الأول: الخروج على الإمام

- ‌الركن الثانى: أن يكون الخروج مغالبة

- ‌الركن الثالث: القصد الجنائى (قصد البغي)

- ‌الكتاب السابعالردة

- ‌الركن الأول: الرجوع عن الإسلام

- ‌الركن الثانى: القصد الجنائي

- ‌مراجع الكتاب

الفصل: النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، ويرون أن علم

النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، ويرون أن علم القاضى ابلغ من الشهادة وأن من حكم بعلمه فقد حكم بما أراه الله (1) .

أما الظاهريون فيرون أنه فرض على القاضى أن يقضى بعلمه فى الدماء والقصاص والأموال والفروج والحدود، سواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته، وأقوى ما حكم بعلمه لأنه يقين الحق ثم بالإقرار ثم بالبينة، وحجتهم قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه.."، فصح أن القاضى عليه أن يقوم بالقسط، وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره، وصح أن فرضنا على القاضى أن يغير كل منكر علمه بيده وأن يعطى كل ذى حق حقه وإلا فهو ظالم (2) .

* * *

‌المبحث الثانى

الإقرار

538 -

يثبت الزنا أيضًا بالإقرار الزانى: ويشترط أبو حنيفة وأحمد أن يقر الزانى بالزنا أربع مرات قياسًا على اشتراط الشهود الأربعة، ولما رواه أبو هريرة فقال: أتى رجل من الأسلميين (وهو ماعز) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى المسجد فقال: يا رسول الله إنى زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه فقال: يا رسول إنى زنيت، فأعرض عنه، حتى قال ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أبك جنون؟ "، قال: لا، قال:"أحصنت؟ "، قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم:"اذهبوا به فارجموه". ولو وجب الحد بالإقرار مرة واحدة لم يعرض عنه رسول الله لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله. وروى نعيم بن هزال هذا الحديث وفيه: "حتى قالها أربع مرات، فقال له رسول الله: "إنك قلتها أربع مرات فبمن؟ قال: بفلانة" رواه أبو داود، وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هى الموجبة.

وروى أبو برزة الأسلمى أن أبا بكر الصديق قال لهذا المقر عند النبى - صلى الله

(1) شرح الأزهار [ج4 ص320] .

(2)

المحلى [ج9 ص427] .

ص: 432

عليه وسلم -: إن أقررت أربعًا رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا دليل من وجهين: أحدهما: أن النبى صلى الله عليه وسلم أقره على هذا ولم ينكره فكان بمنزلة قوله لأنه لا يقر على الخطأ. والثانى: أن أبا بكر قد علم أن هذا من حكم النبى صلى الله عليه وسلم ولولا ذلك لما تجاسر على قوله بين يديه، وعلى هذا يجب أن يتعدد الإقرار وأن يكون أربع مرات فإن قل عنها فلا يعتبر (1) .

أما مالك والشافعى فمن رأيهما الاكتفاء بالإقرار مرة واحدة؛ لأن الإقرار إخبار والخبر لا يزيد بالتكرار، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فعلق الرجم على مجرد الاعتراف والظاهر الاكتفاء بأقل ما يصدق عليه اللفظ وهو المرة الواحدة، أما إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن ماعز حتى أقر أربع مرات فراجع إلى أن الرسول استنكر عقله، ولذا أرسل لقومه مرتين يسألهم عن عقله حتى أخبروه بصحته فأمر برجمه (2) .

ويشترط أبو حنيفة أن تكون الأقارير الأربعة فى مجالس مختلفة للمقر نفسه ولو حدثت فى مجلس واحد للقاضى (3) .

ويستوى عند أحمد أن تكون الأقارير الأربعة فى مجلس واحد أو مجالس متفرقة، فإذا أقر أربع مرات فى مجلس واحد أو فى مجالس متفرقة فالإقرار صحيح (4) .

ويشترط لقبول الإقرار أن يكون مفصلاً مبينًا لحقيقة الفعل بحيث تزول كل شبهة فى الإقرار خصوصًا وأن الزنا يعبر به عما لا يوجب الحد كالوطء خارج الفرج، والأصل فى الاستفصال والتبين هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاءه ماعز يعترف بالزنا ويكرر اعترافه فسأل صلى الله عليه وسلم هل به جنون

(1) شرح فتح القدير [ج4 ص117] ، المغنى [ج10 ص165] .

(2)

شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، أسنى المطالب [ج4 ص131] .

(3)

شرح فتح القدير [ج4 ص118] .

(4)

المغنى [ج10 ص167] .

ص: 433

أو هو شارب خمر وأمر من يشم رائحته، وجعل يستفسره عن الزنا فقال له:"لعلك قبلت أو غمزت؟ "، وفى رواية أخرى:"هل ضاجعتها؟ " قال: نعم، قال:"فهل باشرتها؟ " قال: نعم، قال:"هل جامعتها؟ " قال: نعم، وفى حديث ابن عباس:"أنكتها؟ " لا يُكَنِّى، قال: نعم، قال: دخل ذلك منك فى ذلك منها؟ قال: نعم، قال: وكما يغيب المرود فى المكحلة والرشاء فى البئر؟ قال: نعم، قال: أتدرى ما الزنا؟ قال: نعم أتيت منها حرامًا ما يأتى الرجل من امرأته حلالاً. قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرنى، فأمر به فرجم. فدل ذلك كله على أنه يجب فى الإقرار أن يكون مفصلاً مبينًا لحقيقة الفعل المقر به (1) .

ويترتب على هذا أن الزانى إذا أقر فلا يؤخذ إقراره قضية مسلمة، وعلى القاضى لكى يتحقق من صحة إقراره أن يتحقق أولاً من صحة عقله كما فعل الرسول مع ماعز، قال:"أبك خبل أم بك جنون؟ " وبعث لقومه يسألهم عن حاله، فغذا عرف القاضى أن الزانى صحيح العقل سأله عن ماهية الزنا وكيفيته ومكانه وعن المزنى بها وعن زمان الزنا، فإذا بين ذلك كله على وجه يجعله مسئولاً جنائيًا سأله أمحصن هو أم لا، فإن اعترف بالإحصان سأله عن ماهيته. وسؤال المقر عن زمان الزنا ليس المقصود منه النظر إلى القادم وإنما احتمال أن يكون الزنا وقع قبل البلوغ، والإقرار على قوته حجة قاصرة على نفس المقر لا تتعداه إلى غيره، فمن أقر بأنه زنا بإمرأة أخذ باعترافه أما المرأة فإن أنكرت فلا مسئولية عليها، وإن اعترفت أيضًا أُخذت باعترافها لا باعتراف الرجل، وعلى هذا جرت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو داود عن سهل بن سعد أن رجلاً جاء الرسول فأقر عنده أنه زنا بامرأة سماها له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها (2) .

(1) سبل السلام [ج4 ص7، 8] ، المغنى [ج10 ص167] ، أسنى المطالب [ج4 ص131] ، شرح فتح القدير [ج4 ص115] .

(2)

شرح فتح القدير [ج4 ص120، 158] ، المغنى [ج10 ص168] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المهذب [ج2 ص285] .

ص: 434

ولا يشترط حضور شريك المقر فى الزنا فى مجلس الإقرار كما لا يشترط ذلك فى الشهادة، فلو أقر شخص بأنه زنا بامرأة غائبة أقيم عليه الحد. ويصح الإقرار بالزنا ولو جهل المقر شخصية شريكه فى الزنا لأنه بنى إقراره على حقيقة الحال، وإذا أقر الرجل أنه زنا بامرأة فكذبته فهو مأخوذ بإقراره وعليه الحد دونها، كما يرى مالك والشافعى وأحمد (1) ؛ لأن الإقرار حجة فى حق المقر وعدم ثبوت الزنا فى حق غير المقر لا يورث شبهة ما فى حق المقر.

ولكن أبا حنيفة يرى أن لا يحد الرجل المقر لأن الحد انتفى فى حق المنكر بدليل موجب للنفى عنه فأورث شبهة الانتفاء فى حق المقر؛ لأن الزنا فعل واحد يتم بهما فإن تمكنت فيه شبهة تعدت إلى طرفيه، وهذا لأنه ما أقر بالزنا مطلقًا إنما أقر بالزنا بفلانة وقد درأ الشرع عن فلانة وهو عين ما أقر به فيندرئ عنه ضرورة، بخلاف ما لو أطلق فقال زنيت، فإنه وإن احتمل كذبه لكن لا موجب شرعى يدفعه، وبخلاف ما لو كانت غائبة لأن الزنا لم ينتف فى حقها بدليل يوجب النفى وهو الإنكار. ويتفق رأى أبى يوسف ومحمد مع رأى الأئمة الثلاثة (2) .

ويشترط بعد تفصيل الإقرار أن يكون الإقرار صحيحًا، ولا يكون كذلك إلا إذا صدر عن عاقل مختار، فيجب أن يكون المقر عاقلاً مختارًا لأن المكره والمجنون لا حكم لكلامهما والقلم مرفوع عنهما، وقد روى عن على رضى الله عنه أنه قال:"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبى حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل"، وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

539 -

إقرار زائل العقل: ينقل ما كتب عن ذلك فى القتل ويضاف إليه: وإن كان يجن مرة ويفيق مرة أخرى فأقر فى إفاقته أنه زنا وهو مفيق فعليه الحد

(1) أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المغنى [ج10 ص168] .

(2)

شرح فتح القدير [ج4 ص158] .

ص: 435

دون خلاف لأن الزنا الموجب للحد وقع منه فى حال تكليفه والقلم غير مرفوع عنه وإقراره وجد فى حال يعتبر فيها كلامه، فإن أقر فى إفاقته ولم يضف الزنا إلى حال الإفاقة لم يجب الحد؛ لأنه يحتمل أن الزنا وقع فى حال الجنون ولا يجب الحد مع الاحتمال (1) .

540 -

إقرار النائم: والنائم مرفوع عنه القلم، فلو زنا بنائمة أو استدخلت امرأة ذكر نائم أو وجد منه الزنا حال نومه، فلا حد عليه؛ لأن القلم مرفوع عنه، ولو أقر فى حال نومه لم يلتفت لإقراره لأن كلامه غير معتبر ولا يدل على صحة مدلولة (2) .

ويشترط أبو حنيفة فى المقر أن يكون قادرًا على النطق لأن الإقرار عنده يجب أن يكون بالخطاب والعبارة لا بالكتاب والإشارة، وعنده أن الأخرس لو أقر فى كتاب وأشار إلى صحة صدوره منه إشارة معلومة لم يقبل إقراره لأن الشريعة علقت الحد على البيان المتناهى والبيان لا يتناهى إلا بالصريح والإشارة والكتابة بمنزلة الكناية، ولكن الأئمة الثلاثة يقبلون إقرار الأخرس إذا فهمت إشارته (3) .

ومن المتفق عليه أن البصر لا يعتبر شرطًا فى الإقرار، فإقرار الأعمى بالزنا صحيح، ولا يقبل الإقرار ممن لا يتصور وقوع الفعل منه كالمجبوب إذ لا يمكن أن يقع منه الفعل لانعدام الآلة، ويقبل إقرار الخصى والعنين لتصور الزنا منهما إذ لا يشترط لتحقق الوطء أكثر من دخول الحشفة فى الفرج ولو بغير انتشار (4) .

541 -

أثر التقادم على الإقرار: لا أثر للتقادم على الإقرار بالزنا عند من يقول بالتقادم؛ لأن أثر التقادم على الشهادة بنى على تمكن التهمة والضغينة، أما الإقرار فلا تهمة فيه لأن المرء لا يُتهم فيما يقر به على نفسه (5) .

(1) المغنى [ج10 ص170] .

(2)

المغنى [ج10 ص170] .

(3)

شرح فتح القدير [ج4 ص117] ، بدائع الصنائع [ج7 ص49] ، المغنى [ج10 ص171] ، أسنى المطالب [ج4 ص131] .

(4)

المغنى [ج10 ص171] ، بدائع الصنائع [ج7 ص50] .

(5)

شرح فتح القدير [ج4 ص161] .

ص: 436

542 -

التحايل على الإقرار: ولا يصح للقاضى أن يحتال للحصول على الإقرار، وليس له أن يشجع المقر على الإقرار، ولا بأس من أن يظهر الكراهة للإقرار كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع ماعز حيث أعرض عنه عند إقراره، وقد كان عمر رضى الله عنه يقول:"اضربوا المعترفين" أى بالزنا (1) .

ويشترط أبو حنيفة أن يكون الإقرار فى مجلس القضاء فإن أقر فى غير مجلس القاضى فلا تقبل الشهادة على هذا الإقرار؛ لأنه إما أن يقر وإما أن ينكر، فإن أقر كانت الشهادة لغوًا وكان الحكم للإقرار لا للشهادة، وإن أنكر اعتبر إنكاره رجوعًا عن الإنكار والرجوع عن الإقرار صحيح فى الحدود الخالصة حقًا لله كحد الزنا (2) .

ولا يشترط مالك والشافعى وأحمد أن يكون الإقرار فى مجلس القضاء، فيجوز أن يكون من المقر فى مجلس القضاء ويجوز أن يحصل فى غير مجلس القضاء ويشهد به الشهود فى مجلس القضاء، ولكنهم اختلفوا فى الشهادة بالإقرار، فرأى مالك أن الشهادة على الإقرار تقبل فإذا أنكر حصول الإقرار اعتبر إنكاره رجوعًا (3) .

ويرى الشافعى قبول الشهادة على الإقرار، فإن أنكر حصول الإقرار منه لم يقبل إنكاره ولا يعتبر عدولاً عن الإقرار لأنه تكذيب للشهود والقاضى. أما إن أكذب نفسه فى إقراره فإن تكذيبه يعتبر رجوعًا عن الإقرار (4) .

ورأى أحمد قبول الشهادة بالإقرار بشرط أن يشهد بالإقرار أربعة، فإن أنكر أو صدقهم دون أربع مرات فلا حد عليه؛ لأن إنكاره يعتبر رجوعًا، ولأن تصديقهم لا يكفى فيه مرة واحدة لأن الإقرار عند أحمد يشترط فيه أن يكون أربع مرات (5) .

ويلاحظ أن الإقرار يثبت عند مالك والشافعى بشهادة شاهدين فقط.

(1) شرح فتح القدير [ج4 ص121] ، المغنى [ج10 ص188] ، المهذب [ج2 ص364] .

(2)

بدائع الصنائع [ج7 ص50] .

(3)

شرح الزرقانى [8 ص81] .

(4)

أسنى المطالب [ج4 ص132] .

(5)

الإقناع [ج4 ص255] .

ص: 437

543 -

الإقرار فى مجلس القضاء: وإذا أقر الزانى بالزنا ثم رجع عن إقراره سقط عنه الحد؛ لأنه يحتمل أن يكون صادقًا فى الرجوع وهو الإنكار، ويحتمل أن يكون كاذبًا فيه، فإن كان صادقًا فى الإنكار فهو كاذب فى الإقرار، وإن كان كاذبًا فى الإنكار فهو صادق فى الإقرار، وهذا الاحتمال يورث شبهة فى الحد والحدود تدرأ بالشبهات. وقد روى أن ماعزًا لما أقر بالزنا بين يدى الرسول صلى الله عليه وسلم لقنه الرجوع، فقال عليه الصلاة والسلام: لعلك قبلتها لعلك مسستها. وكذلك قال عليه الصلاة والسلام لامرأة متهمة بالسرقة: أسرقت؟ قولى لا، ما أخالك سرقت. وليس ذلك إلا تلقينًا للرجوع عن الإقرار، ولو لم يكن الحد محتمل السقوط بالرجوع ما كان للتلقين معنى، وتلك هى السنة للإمام والقاضى إذا أقر عنده أحد بشئ من أسباب الحدود الخالصة أن يعرض له بالرجوع.

544 -

الرجوع عن الإقرار: ويصح الرجوع عن الإقرار قبل القضاء وبعد القضاء، ويصح قبل الإمضاء وأثناء الإمضاء، فإذا رجع أثناء الإمضاء أوقف تنفيذ العقوبة، والرجوع عن الإقرار قد يكون دلالة كهرب المرجوم أثناء الرجم أو الجلد، فإذا هرب لم يؤخذ ثانية للتنفيذ لأن الهرب دلالة الرجوع، والأصل فى ذلك أنه لما هرب ماعز تبعوه حتى قتلوه ولما ذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم قال:"هلا تركتموه"، وهذا دليل على أن الهرب دليل الرجوع وأن الرجوع مسقط للحد، ويعتبر مالك وأبو حنيفة وأحمد مجرد الهرب وقت التنفيذ رجوعًا دون حاجة إلى التصريح بالرجوع، أما الشافعية فيرون أن الهرب ذاته ليس رجوعًا ولكنه يقتضى الكف عنه لاحتمال أنه قصد الرجوع، فإذا كف فرجع سقط الحد وإذا لم يرجع تحتم تنفيذ الحد (1) .

وكما يصح الرجوع عن الإقرار بالزنا يصح الرجوع عن الإقرار بالإحصان، فإذا أقر شخص بأنه زنا وهو محصن فله أن يرجع عن إقراره بالزنا وله أن يثبت

(1) شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، بدائع الصنائع [ج7 ص61] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المغنى [ج10 ص173، 195] .

ص: 438

على الإقرار بالزنا ويعدل عن الإقرار بالإحصان، فإذا فعل سقط حد الرجم ووجب حد الجلد (1) .

وإذا اجتمعت الشهادة مع الإقرار فمذهب أبى حنيفة على أن الشهادة تبطل باعتراف المشهود عليه قبل القضاء اتفاقًا، أما إذا كان الإقرار بعد القضاء بالحد على أساس الشهادة فيرى أبو يوسف سقوط العقوبة لأن الإمضاء فى الحدود من القضاء ولأن شرط الشهادة هو عدم الإقرار، أما محمد فلا يسقط العقوبة فى هذه الحالة (2) .

وترتب على ما سبق أن من يثبت عليه الزنا بشهادة الشهود ثم أقر فحكم عليه بالعقوبة يسقط عنه الحد إذا رجع عن الإقرار سواء كان رجوعه صريحًا أم دلالة. ويرى مالك وأحمد أن الزانى إذا تمت عليه البينة وأقر على نفسه إقرارًا صحيحًا ثم رجع عن إقراره لم يسقط عنه الحد برجوعه لأنه ثابت من وجه آخر بشهادة الشهود (3) .

وفى مذهب الشافعى يرون أنه إذا ثبت الحد بالبينة ثم أقر المشهود عليه بعد ذلك عدل عن إقراره، فإن عدوله لا يسقط الحد الثابت بالبينة وإلا كان الإقرار ذريعة لإسقاط العقوبات.

أما إذا أقر بالزنا أولاً ثم قامت بينة بزناه فرجع عن إقراره فهناك آراء مختلفة، فالبعض يرى أن الرجوع لا يسقط الحد لبقاء حجة البينة كما لو شهد عليه ثمانية مثلاً فردت شهادة أربعة، والبعض يرى سقوط الحد بالرجوع لأنه لا أثر للبينة مع الإقرار وقد بطل الإقرار بالرجوع، والبعض يرى أن العبرة بالدليل الذى استند عليه الحكم. فإن كان الحكم قد استند إلى البينة والإقرار معًا أو على البينة وحدها فإن الرجوع لا يسقط الحد، أما إذا استند الحكم على الإقرار، وحده فإن الرجوع يسقط الحد. ويرى البعض أنه عند اجتماع الإقرار مع الشهادة يجب

(1) بدائع الصنائع [ج7 ص61] .

(2)

شرح فتح القدير [ج4 ص124] .

(3)

الإقناع [ج4 ص256] .

ص: 439

أن يسند الحكم على الشهادة فيما يتعلق بحقوق الله لأن البينة أقوى من الإقرار، أما فيما يتعلق بحقوق الآدميين فيجب أن يستند الحكم على الإقرار لأنه أقوى من الشهادة ولأن الإقرار فى حقوق الآدميين لا يؤثر على الرجوع. ويرى البعض أن الحكم يستند فى الحالين إلى الإقرار والشهادة معًا (1) .

وإذا سمع القاضى الإقرار فى غير مجلس القضاء فليس له أن يقضى على أساس ما سمع (2) .

وهذا هو مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد، أما الشافعى ففى مذهبه رأيان أرجحهما يرى أن لا يقضى القاضى على أساس ما رآه أو علمه أو سمعه، والثانى يرى أصحابه أن يقضى القاضى بما رآه أو سمعه أو علمه (3) .

القرائن

545 -

القرائن: القرينة المعتبرة فى الزنا هى ظهور الحمل فى امرأة غير متزوجة أو لا يعرف لها زوج، ويلحق بغير المتزوجة من تزوجت بصبى لم يبلغ الحلم أو بمجبوب، ومن تزوجت بالغًا فولدت لأقل من ستة أشهر.

والأصل فى اعتبار قرينة الحمل دليلاً على الزنا قول أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وفعلهم: فعمر رضى الله عنه يقول: الرجم واجب على كل من زنا من الرجال والنساء إذا كان محصنًا إذا أقامت بينة أو كان الحبل أو الاعتراف. وروى عن عثمان رضى الله عنه أنه أُتى بامرأة ولدت لستة أشهر كاملة فرأى عثمان أن ترجم، فقال علىّ: ليس لك عليها سيبل قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] . وروى عن على رضى الله عنه أنه قال: يا أيها الناس إن الزنا زنيان: زنا سر وزنا علانية، فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمى، وزنا

(1) أسنى المطالب [ج4 ص132] .

(2)

بدائع الصنائع [ج7 ص52] ، شرح الزرقانى [ج8 ص84] .

(3)

المهذب [ج2 ص320] .

ص: 440

العلانية أن يظهر الحبل والاعتراف.

هذا هو قول الصحابة ولم يظهر لهم مخالف فى عصرهم فيكون إجماعًا.

والحمل ليس قرينة قاطعة على الزنا بل هو قرينة تقبل الدليل العكسى، فيجوز إثبات أن الحمل حدث من غير زنًا، ويجب درء الحد عن الحامل كلما قامت شبهة فى حصول الزنا أو حصوله طوعًا، فإذا كان هناك مثلاً احتمال بأن الحمل كان نتيجة وطء بإكراه أو بخطأ وجب درء الحد، وإذا كان هناك احتمال بأن الحمل حدث دون إيلاج لبقاء البكارة امتنع الحد، إذ قد تحمل المرأة من غير إيلاج بأن يدخل ماء الرجل فى فرجها إما بفعلها أو بفعل غيرها أو نتيجة وطء خارج الفرج. ويرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أنه إذا لم يكن دليل على الزنا غير الحمل فادعت المرأة أنها أُكرهت أو وُطئت بشبهة فلا حد عليها، فإذا لم تدع إكراهًا ولا وطًأ بشبهة فلا حد عليها أيضًا ما لم تعترف بالزنا؛ لأن الحد أصلاً لا يجب إلا ببينة أو بإقرار (1) .

546 -

اللعان: أما مالك فيرى أن ظهور الحمل فى غير المتزوجة يوجب عليها الحد دون حاجة لإقرار منها، وأن ادعاءها الإكراه والوطء بشبهة لا يكفى وحده لدرء الحد عنها بل عليها أن تقيم دليلاً أو قرينة على صحة دفاعها، كأن تثبت أنها بلغت عمن أكرها، أو أن أناسًا شهدوها متعلقة به تستغيث عقب الإكراه، أو أنهم شهدوها تستغيث والدماء تلوث ملابسها بعد أن أزيلت بكارتها (2) .

تنفيذ العقوبة

547 -

مقدار الحد: إذا ثبت الزنا دون شبهة وجب على القاضى أن يحكم بعقوبة الحد وهى رجم المحصن وجلد غير المحصن مائة جلدة وتغريبه.

(1) المغنى [ج10 ص192] ، شرح الزرقانى [ج8 ص81] .

(2)

المغنى [ج10 ص192] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] .

ص: 441

مقارنة بين الشريعة والقانون عن الأدلة على الزنا

548 -

التكييف الشرعى لحد الزنا: يكيف الفقهاء حد الزنا بأنه حق لله تعالى، والأصل عندهم أن الحد يعتبر حقًا لله تعالى إذا استوجبته المصلحة العامة وهى دفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة والسلامة لهم.

وكل جناية ذات حد يرجع فسادها إلى العامة ومنفعة عقوبتها تعود عليهم فتعتبر العقوبة المقررة عليها حقًا لله تعالى، تأكيدًا لتحقيق النفع ودفع المضرة وحتى لا تسقط العقوبة بإسقاط الأفراد لها.

وتمتاز عقوبة الحد عن غيرها من العقوبات بأنها لا تقبل عفوًا ولا صلحًا ولا إبراء ولا تخفيضًا ولا استبدالً.

هذا هو تكييف الفقهاء للحد، وهو تكييف ليس بعيدًا عن نظرة شراح القوانين الوضعية للعقوبة، فهم يعتبرونها حق الجماعة لأن المصلحة العامة تستوجبها. وقد يظن أن الاختلاف واقع فى الأساس لا فى المعانى، ولكن الواقع أن الخلاف فيهما معًا، فالحد يختلف عن العقوبة فى القوانين الوضعية بأنه لا يقبل العفو ولا الاستبدال والعقوبة فى القوانين الوضعية تقبلهما، ولعل اعتبار الحد حقًا لله هو الذى منع قبول العفو والاستبدال؛ لأن الأفراد والجماعة ليس لهم العفو عما هو حق الله وليس لهم تبديل ما أمر به الله، ولو كان الحد حق الجماعة لأمكن أن يعفو عنه ممثل الجماعة أو يستبدل به غيره. على أن الشريعة نوعًا من العقوبات التقديرية شرع للمصلحة العامة ويعتبر حق الجماعة، ولممثل الجماعة أن يعفو عنه وأن يستبدل به غيره من عقوبات التعازير، وهذا النوع من العقوبة هو الذى يتفق تمام الاتفاق فى التكيف مع العقوبات المقررة فى القوانين الوضعية.

549 -

تعدد العقوبات: وإذا تعددت العقوبات المحكوم بها على الجانى نفذت جميعًا ما لم تتداخل أو يجبُّ بعضها البعض الآخر.

التداخل: معنى التداخل هو أن الجرائم فى حالة التعدد تتداخل عقوباتها

ص: 442

بعضها فى بعض بحيث يعاقب على جميع الجرائم بعقوبة واحدة ولا ينفذ على الجانى إلا عقوبة واحدة كما لو كان قد ارتكب جريمة واحدة.

ويحدث التداخل فى حالتين:

الأولى: إذا كانت الجرائم جميعها من نوع واحد كالزنا المتعدد والسرقات المتعددة والشرب المتعدد، ففى هذه الحالة تتداخل العقوبات المتعددة ويجزى عنها جميعًا عقوبة واحدة، فإذا ارتكب الجانى جريمة أخرى من نفس النوع بعد إقامة العقوبة عليه وجبت لهذه الجريمة الأخرى عقوبة ثانية، أما إذا ارتكب أى جريمة أخرى من نفس النوع قبل تنفيذ العقوبة عليه فإن عقوبة الجريمة الجديدة تتداخل مع عقوبات الجرائم السابقة ما دامت جميعًا من نوع واحد، والعبرة فى التداخل بتنفيذ العقوبة لا الحكم بها فالعقوبات تتداخل ما دامت لم تنفذ ولو تعددت الأحكام الصادرة بها، أى أن صدور الحكم بعقوبة ما لا يمنع من تداخلها فى عقوبة أخرى.

ويحدث التداخل ما دامت الجرائم من نوع واحد ولو اختلف أركانها وعقوباتها كالزنا من محصن تتداخل عقوبته مع عقوبة الزنا من غير محصن لأن الجريمتين من نوع واحد، ولا عبرة باختلاف الأركان ونوع العقوبة ولكن فى مثل هذه الحالة تكون العقوبة الأشد هى الواجبة، فمن زنا وهو بكر ثم زنا وهو محصن عوقب على الجريمتين بعقوبة واحدة هى عقوبة الرجم.

الثانية: إن الجرائم إذا تعددت وكانت من أنواع مختلفة فإن العقوبات تتداخل ويجزئ عن الجرائم جميعًا عقوبة واحدة بشرط أن تكون العقوبات المقررة لهذه الجرائم قد وضعت لحماية مصلحة واحدة أى لتحقيق غرض واحد كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، فهذه الجرائم قد حرمت لحماية مصلحة الأفراد فإذا أكل شخص ميتة ثم شرب دمًا ثم أكل لحم الخنزير تداخلت عقوبات هذه الجرائم الثلاث وأجزأ عنها عقوبة واحدة.

الجبُّ: معنى الجب فى الشريعة هو الاكتفاء بتنفيذ العقوبة التى يمتنع مع

ص: 443

تنفيذها تنفيذ العقوبات الأخرى، ولا ينطبق هذا المعنى إلا على عقوبة القتل فإن تنفيذها يمنع بالضرورة من تنفيذ غيرها، ومن ثم فهى فى الشريعة العقوبة الوحيدة التى تجب ما عداها، وهناك خلاف على نظرية الجب ومداها، وقد فصلنا القول عن تعدد العقوبات والتداخل والجب فى القسم العام ونكتفى هنا بما ذكرنا (1) .

550 -

من الذى يقيم الحد؟: من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه؛ لأن الحد حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام، ولأن الحد يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فى استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولى الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه. وحضور الإمام ليس شرطًا فى إقامة الحد لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم ير حضوره لازمًا فقال:"اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، وأمر عليه السلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم، وأُتى بسارق فقال:"اذهبوا به فاقطعوه".

لكن إذن الإمام بإقامة الحد واجب، فما أقيم حد على عهد رسول الله إلا بإذنه، وما أقيم حد على عهد الخلفاء إلا بإذنهم، ومما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذا قوله:"أربع إلى الولاة: الحدود والصدقات والجمعات والفئ". والإذن بإقامة الحد إما أن يكون إذنًا مؤقتًا يصدر بمناسبة كل حالة، وإما أن يكون إذنًا دائمًا يصدر إلى النواب والحكام بإقامة الحد على المحكوم عليهم بحد (2) .

وهناك خلاف بين أبى حنيفة من ناحية ومالك والشافعى وأحمد من ناحية أخرى على ما إذا كان للسيد أن يقيم الحد على عبيده، ولم نر داعيًا للتعرض لهذا المبحث بعد أن ألغى الرقيق فى العالم.

(1) شرح فتح القدير [ج4 ص208] ، شرح الزرقانى [ج8 ص108] ، المغنى [ج10 ص197] ، الإقناع [ج4 ص249] ، أسنى المطالب [ج4 ص157] .

(2)

المغنى [ج10 ص146] وما بعدها، شرح فتح القدير [ج4 ص129] ، المهذب [ج2 ص287] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، شرح الزرقانى [ج8 ص84] .

ص: 444

551 -

علانية التنفيذ: يجب أن يقام الحد علانيةً، لقوله تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ، وتتوفر العلانية دائمًا كلما كان الحد رجمًا إذ المفروض أن عدد الرماة غير محدود وأنه يجب أن يكون من الكثرة بحيث يقضى على المرجوم بسرعة، أما فى الجلد فيكفى فى إقامة الحد شخص واحد. ولذلك اختلف فى عدد من يحضر الجلد ففسر البعض كلمة طائفة بأنها شخص واحد ومقيم الحد، وقال البعض إنها شخصان غير مقيم الحد، وقال البعض إنها أربعة، وقال البعض: إنها عشرة (1) .

552 -

كيفية التنفيذ فى الرجم: إذا كان المرجوم رجلاً أقيم قائمًا ولم يوثق بشئ ولم يحفر له ولم يمسك أو يربط سواء ثبت الزنا عليه ببينة أو إقرار؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز ولا للجهنية ولا لليهوديين، قال أبو سعيد:"لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز خرجنا إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ولكنه قام لنا". وإذا هرب المرجوم وكان مقرًا لم يتبع وأوقف التنفيذ، أما إذا كان مشهودًا عليه اُّتبع ورُجم حتى يموت، لكن إذا لم يصبر المرجوم المشهود عليه ولم يمكن إقامة الحد إلا بربطه رُبط، أما إذا كان المرجوم امرأة فيجيز أبو حنيفة والشافعى الحفر لها إلى صدرها لأن ذلك أستر لها، ويأخذ بذلك بعض الفقهاء فى مذهب أحمد، ولكن الرأى الراجح فى مذهب أحمد هو عدم الحفر، وهو مذهب مالك.

ويرى أبو حنيفة جواز الحفر للمرأة فى كل حال، أما الشافعية والحنابلة القائلون بالحفر فيرون الحفر فى حالة ما إذا كان الحد ثابتًا بالبينة فقط فإن كان ثابتًا بالإقرار فلا حفر؛ لأن ذلك يعطلها عن الهرب، والهرب كما قلنا يعتبر رجوعًا عن الإقرار والرجوع عن الإقرار مسقط للحد. وإذا رُجمت المرأة دون حفر شدت عليها ثيابها لكى لا تنكشف ولأن ذلك أستر لها (2) .

(1) شرح فتح القدير [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص137] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] .

(2)

شرح فتح القدير [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص137] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] .

ص: 445

والسنة أن يحاط بالمرجوم فيرمى من جميع الجوانب، ويرى البعض أن يُصَفَّ الرماة ثلاثة صفوف كصفوف الصلاة كلما رجمه صف تنحوا. وحجة ما قاله علىٌّ حين رجم شراحة الهمزانية حيث أحاط الناس بها وأخذوا الحجارة، فقال لهم: ليس هكذا الرجم إذن يصيب بعضكم بعضًا، صُفوا كصف الصلاة صفًا خلف صف (1) .

ويشترط أبو حنيفة عند ثبوت الزنا بشهادة الشهود أن يبدأ الشهود بالرجم ثم الإمام أو نائبه ثم الناس بحيث لو امتنع الشهود عن البدء سقط الحد عن المشهود عليه، ولكن امتناع الشهود لا يترتب عليه حدهم لأن امتناعهم ليس صريحًا فى رجوعهم عن الشهادة (2) .

ولا يشترط الشافعى وأحمد بداءة الشهود ولكنهما يريان ذلك سنة مستحبة، وهو رواية عن أبى يوسف من أصحاب أبى حنيفة حيث يرى أن البداءة مستحبة لا مستحقة (3) ، ولكنهما لا يوجبان حضور الشهود والإمام ولا يرتبان على التخلف عن الحضور نتيجة ما.

أما مالك فلا يعرف بداءة الشهود والإمام ولا يعتبرها سنة مستحبة؛ لأن الحديث الوارد فيها لم يصح عنده (4) .

وحجة أبى حنيفة ما روى عن علىّ لما أراد أن يرجم شراحة الهمزانية حيث قال: "الرجم رجمان: رجم سر ورجم علانية، فرجم العلانية أن يشهد على المرأة ما فى بطنها وتعترف بذلك فيبدأ فيه الإمام ثم الناس، ورجم السر أن يشهد أربعة فيبدأ فيه الإمام ثم الناس، ورجم السر أن يشهد أربعة فيبدأ الشهود ثم الإمام ثم الناس". وقد تم هذا فى محضر من الصحابة فلم ينكر عليه أحد فيكون إجماعًا. كما أن فى الأمر ببداية الشهود احتيال لدرء الحد؛

(1) شرح فتح القدير [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص123] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] .

(2)

شرح فتح القدير [ج4 ص122] .

(3)

شرح فتح القدير [ج4 ص123] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] ، المغنى [ج10 ص124، 138] .

(4)

شرح الزرقانى [ج8 ص83] .

ص: 446

لأن الشاهد قد يجترئ على الشهادة الكاذبة ولكنه لا يجرؤ على القتل إذا علم أنه شهد كاذبًا (1) .

ويرتب أبو حنيفة على رأيه أن الشهود إذا امتنعوا من البداءة أو غابوا فلم يحضروا اليوم المحدد للتنفيذ أو ماتوا قبل يوم التنفيذ فإن ذلك يؤدى إلى امتناع التنفيذ، ولكن محمدًا من أصحاب أبى حنيفة يرى أنه إذا تعذرت البداية من الشهود نفذ الحد كأن كانوا مرضى أو مقطوعى الأيدى (2) .

ويشترط أبو حنيفة أن تبقى للشهود أهلية أداء الشهادة عند التنفيذ فلو بطلت الأهلية بفسق أو ردة أو جنون أو عمى أو خرس أو بحد للقذف فلا يقام الحد على المشهود عليه، وحجة أبى حنيفة أن طروء أسباب الجرح على الشهادة وقت التنفيذ بمثابة طروئها وقت القضاء وأسباب الجرح عند القضاء تبطل الشهادة، ولا يرى الأئمة الثلاثة هذا الشرط والعبرة عندهم بالأهلية وقت القضاء لا بعده، ورأيهم يتفق مع قواعد القوانين الجنائية الوضعية، ويظهر أن ابا حنيفة قصد من رأيه درء الحد تطبيقًا للحديث المشهور:"ادرءوا الحدود بالشبهات"، ولكن لا يمكن العمل برأيه الآن ما دام التنفيذ ليس من اختصاص الهيئة القضائية، على أن بعض شراح القوانين الوضعية يرون جعل التنفيذ مكملاً للقضاء وهذا يتفق مع نظرية أبى حنيفة (3) .

ويقام حد الرجم فى أى وقت فى الصيف وفى الشتاء وفى الصحة والمرض لأنه حد مهلك فلا معنى للتحرز من الهلاك: ولكنه لا يقام على الحامل حتى تضع لأن إقامته تؤدى إلى هلاك الولد والحكم لم يصدر ضده، وسنتكلم عن التنفيذ على الحامل فيما بعد. ويستحسن لكل راجم أن يتعمد مقتلاً وأن يتقى الوجه، كما يستحسن أن يكون وقف الرامى من المرجوم بحيث لا يبعد عنه فيخطئه، وجميع بدن المرجوم للرجم، ويختار أن يتقى الوجه لأن الرجم حد مهلك فكلما أسرع بالمحكوم عليه إلى الهلاك كان أولى.

(1) شرح فتح القدير [ج4 ص122، 123] .

(2)

نفس المراجع السابقة.

(3)

شرح فتح القدير [ج4 ص123] ، المغنى [ج10 ص187] .

ص: 447

ولا يقام الحد فى المساجد اتفاقًا، ويستحسن أن يقام فى كل مكان متسع بعيدًا عن المساكن حتى لا يؤدى التنفيذ إلى إصابة أحد غير المرجوم.

ويرمى المرجوم بحجارة معتدلة الحجم وما يقوم مقام الحجارة كالمدر والخزف، ففى خبر ماعز أنه رمى بالعظام والمدر والخزف، ولا يرمى المرجوم بالحصيات الخفيفة حتى لا يطول تعذيبه، ولا يرمى بالصخرات الكبيرة لئلا تدمغه فيفوت به التنكيل المقصود، والمختار أن تكون ملء الكف.

وليس هناك عدد محدد للحجارة التى يرمى بها المرجوم فقد تصيب الحجارة مقاتله فيموت سريعًا بعد أن يرمى بعدد قليل من الحجارة، وقد لا تصيب الأحجار مقتلاً إلا بعد وقت فيحتاج الأمر إلى قذفه بعدد كبير من الحجارة، والمقصود من الرجم القتل فيرجم المحكوم عليه حتى يقتل ولا يقوم مقام الرجم أى فعل آخر يؤدى للموت كقطع الرقبة بالسيف أو كشنق المرجوم، وإذا هلك المرجوم سلمت جثته لأهله ولهم أن يصنعوا بها ما يصنع بسائر الموتى فيغسلونه ويكفنونه ويصلون عليه ويدفنونه، وبهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد رجم ماعز حيث سئل عما يصنع بجثته فقال:"اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم".

553 -

كيفية التنفيذ فى الجلد: يضرب المحكوم عليه بسوط ضربًا متوسطًا مائة ضربة، ويشترط أن لا يكون السوط يابسًا لئلا يجرح أو يبرح، وأن لا يكون به عقد فى طرفه الذى يصيب الجسم لأنها تؤدى إلى ما يؤدى يبس السوط (1) .

ويشترط أن لا يكون للسوط أكثر من ذنب واحد فإذا لم يكن لذلك احتسبت الضربة ضربات بعدد ما للسوط من أذناب، فإن كان للسوط ذنبان احتسبت الضربة ضربتين، وإن كان ثلاثة احتسبت الضربة ثلاث ضربات، وهكذا (2) .

ويرى مالك وأبو حنيفة أن تنزع عن الرجل المحدود ثيابه إلا ما يستر عورته (3) .

ويرى الشافعى وأحمد أن لا يجرد المجلود من ثيابه وأن يترك عليه

(1) شرح فتح القدير [ج4 ص126] ، الإقناع [ج4 ص245] .

(2)

شرح فتح القدير [ج4 ص126] .

(3)

شرح فتح القدير [ج4 ص126] ، شرح الزرقانى [ج8 ص114] .

ص: 448

القميص والقميصان، أما إن كان عليه فروة أو ملابس شتوية أو جبة محشوة نزعت (1) .

ويرى مالك ضربه قاعدًا ولا يمسك المرجوم ولا يربط وقت الضرب، إلا إذا امتنع فلم يقف أو لم يصبر على الوقوف أو الجلوس فلا بأس فى هذه الحالة بربطه أو إمساكه (2) . ويضرب الرجل قائمًا غير ممدود عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد. أما المرأة فتضرب وهى جالسة لأنه أستر لها.

ولا يجمع الضرب فى عضو واحد لأنه يفضى إلى تلف ذلك العضو أو تمزيق جلده وهو غير جائز، بل يفرق الضرب على سائر الأعضاء إلا الوجه والفرج، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"اتق وجهه ومذاكيره"، وإلا الرأس لتخوف التلف والهلاك، وهذا هو رأى أبى حنيفة وأحمد، وإن كان أبو يوسف يرى ضرب الرأس ضربة واحدة، وفى مذهب أحمد يرون اتقاء البطن أيضًا والمواضع الأخرى القاتلة، وهو ما يقول به بعض فقهاء الحنفية (3) .

ويرى بعض الشافعية رأى أبى حنيفة وأحمد، ولكن البعض يرى مع مالك أن يكون الضرب فى الظهر فقط (4) ، ورأيهما يتفق مع المعمول به فى مصر فى تنفيذ الأحكام التى تصدر بالجلد على رجال الجيش والبوليس فإن الضرب قاصر على الظهر فقط.

وحد الجلد فى الزنا أشد الحدود ضربًا لقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] ، وتفسر الرأفة بتخفيف الضرب، ولكن الفقهاء يشترطون أن يكون الضرب بين بين فلا هو بالمبرح ولا بالخفيف، وليس للجلاد أن يمد يده بالسوط بعد الضرب لأن مد السوط فى الضرب بمنزلة ضربة أخرى، وعليه أن يرفع السوط لأعلى بعد أن يمس جسم المحدود دون أن يسحب، وليس للجلاد أن يرفع يده إلى ما فوق رأسه

(1) المهذب [ج2 ص287] ، الإقناع [ج4 ص246] .

(2)

شرح فتح القدير [ج4 ص128] ، الإقناع [ج4 ص245] ، المهذب [ج2 ص287] .

(3)

شرح فتح القدير [ج4 ص126، 127] ، الإقناع [ج4 ص246] .

(4)

المهذب [ج2 ص288] ، شرح الزرقانى [ج8 ص114] .

ص: 449

ولا يبدى إبطه فى رفع يده لأن الضرب يكون شديدًا فى هذه الحالة يخشى منه الهلاك وتمزيق الجلد (1) .

ويشترط فى إقامة حد الجلد أن لا يؤدى إلى هلاك المحدود لأنه حد زاجر لا حد مهلك، فلا يقام فى الحر الشديد ولا البرد الشديد إذا خشى الهلاك، ولا يقام على المريض حتى يبرأ ولا على النفساء حتى ينقضى نفاسها ولا على الحامل حتى تضع. وهذا ما يراه مالك وأبو حنيفة والشافعى وبعض الفقهاء فى مذهب أحمد. ولكن البعض الآخر يرى أن يؤخر للحمل فقط وأن لا يؤخر الجلد لمرض أو لحر أو لبرد، ولكنه يقام بسوط يؤمن معه التلف فإن خشى من السوط أقيم بأطراف الثياب وما أشبه مما يتحمله المحدود. وعلى هذا فلا خلاف بين الرأيين لأن كليهما ينظر إلى عدم هلاك المحدود وأن يكون التنفيذ بحيث يحتمله (2) .

554 -

التنفيذ على الحامل: من المتفق عليه أن الحد لا يقام على حامل حتى تضع سواء كان الحمل من زنًا أو غيره، والأصل فى ذلك حديث الغامدية فقد روى أن امرأة من بنى غامد جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرة بالزنا وهى حامل وقالت إنها حبلى من الزنا، فقال لها:"ارجعى حتى تضعى ما فى بطنك"، فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية، فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه"، فقام رجل من الأنصار فقال: إلىَّ رضاعه يا نبى الله، فرجمها. وقد جرى صحابة الرسول من بعده على هذا، فيروى أن امرأة زنت فى أيام عمر رضى الله عنه فهمَّ عمر برجمها وهى حامل، فقال له معاذ: إن كان لك سبيل عليها فليس لك سبيل على حملها، فقال: عجز النساء أن يلدن مثلك، ولم يرجمها. وروى عن على رضى الله عنه أنه قال مثل هذا.

والعلة فى عدم إقامة الحد على الحامل أن فى إقامة الحد عليها فى حال حملها

(1) شرح فتح القدير [ج4 ص128] ، الإقناع [ج4 ص246] ، المهذب [ج2 ص288] .

(2)

شرح الزرقانى [ج8 ص84] ، شرح فتح القدير [ج4 ص137] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] ، الإقناع [ج4 ص246] ، المغنى [ج10 ص140، 141] .

ص: 450

اتلافًا لمعصوم وهو الحمل ولا سبيل إليه، وإذا كانت هى غير معصومة من إقامة الحد فإن من القواعد الأساسية أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وألا تصيب العقوبة غير الجانى والعقوبة التى تصيب الحامل تتعدى إلى حملها، وسواء كان الحد رجمًا أو جلدًا فإنه لا ينفذ على الحامل حتى تضع حملها لأنه لا يؤمن تلف الولد من سراية الجلد وربما سرى الجلد إلى نفس الأم فيفوت الولد بفواتها.

وإذا وضعت الأم حملها فإن كان الحد رجمًا لم ترجم حتى تسقيه اللِّبَأ، ثم إن كان له من يرضعه أو يتكفل برضاعه رجمت وإلا تركت حتى تفطمه (1) .

وإذا وضعت الأم حملها وكان الحد جلدًا فيرى مالك وأبو حنيفة والشافعى وبعض الفقهاء فى مذهب أحمد أن لا يقام عليها الحد حتى تشفى من نفاسها وتصبح قوية يؤمن تلفها إن أقيم عليها الحد، ويرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد إقامة الحد فى الحال بسوط يؤمن معه التلف فإن خيف عليها من السوط أقيم بالعثكول - يعنى شمراخ النخل - وأطراف الثياب. وحجة هذا الفريق الآخر أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بضرب المريض الذى زنى فقال:"خذوا مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة". أما حجة القائلين بتأخير الحد ما روى عن على رضى الله عنه أنه قال: إن أمَة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرنى أن أجلدها فإذا هى حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد"(2) .

وإذا لم يكن الحمل ظاهرًا فلا يؤخر الحد ولو كان من المحتمل أن تكون حملت من الزنا؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم رجم اليهودية والجهينية ولم يسأل عن استبرائهما، وقال لأنيس: أذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمهما، ولم يأمره بسؤالها عن استبرائهما، ورجم علىٌ شراحة ولم يستبرئها. وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وأحمد، فإذا ادعت المرأة الحمل فيرى أحمد وبعض الشافعية قبول قولها وحبسها حتى يتبين

(1) المغنى [ج10 ص138] ، المهذب [ج2 ص198] ، شرح فتح القدير [ج4 ص137] .

(2)

المغنى ج 10ص 140، المهذب ج ص 198، شرح فتح القدير ج4 ص 137.

ص: 451

أمرها دون حاجة إلى التحقيق من صحة ادعائها لأن الحمل الحديث وما يدل عليه من الدم وغيره يتعذر إقامة البينة عليه فيقبل قولها فيه (1) .

ويرى بعض الشافعية وأبو حنيفة أن لا يقبل ادعاء المرأة إلا بعد استطلاع من له خبرة من النساء فيقررن أن ادعاءها صحيح وإلا نفذ عليها الحد (2) .

ويرى مالك أن يؤخر تنفيذ الحد سواء كان جلدًا أو رجمًا على الزانية المتزوجة إذا مكث ماء الزنا ببطنها أربعين يومًا ولو كان الزوج قد استبرأها، وتؤخر أيضًا إذا لم يستبرئها الزوج ولو لم يمض على الزنا أربعون يومًا، وتؤخر المرأة فى الحالين لحيضة؛ أى حتى تحيض مرة واحدة إن أمكن حملها خشية أن يكون بها حمل ويقوم مقام الحيضة. فمن لم تحض بعد مرور ثلاثة أشهر لم تحض فيها بحيث لا يظهر عليها الحمل فإن ظهر عليها الحمل أٌخرت حتى تضع. أما غير المتزوجة فلا يؤخر تنفيذ الحد عليها إن لم تمض على ماء الزنا أربعون يومًا فى بطنها أو مضى عليه هذه المدة ولم يكن فى الإمكان حملها، فإن كان الحمل ممكنًا أُخر تنفيذ الحد عليها لحيضة، على التفصيل السابق (3) .

الواجب هو الجلد فالحكم يختلف باختلاف ما إذا كان المريض يرجى شفاؤه أو لا يرجى شفاؤه.

المريض الذى يرجى شفاؤه: إذا كان المريض يرجى شفاؤه فيرى مالك وأبو حنيفة والشافعى وبعض الفقهاء فى مذهب أحمد أن لا يجلد حتى يشفى من مرضه؛ لأن إقامة الحد حال المرض قد يؤدى لتلف المريض، وحجتهم ما روى من حديث على حين كٌلف بجلد أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فوجدها حديثة عهد

(1) المهذب ج ص198، المغنى ج 10ص 114، الإقناع ج4 ص 247.

(2)

المهذب ج ص198، شرح فتح القدير ج4 ص 137.

(3)

شرح الزرقانى ج8 ص 84.

ص: 452

بنفاس فخشى إن جلدها أن يقتلها، فعاد إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال له:"يا على أفرغت" قال: أتيتها ودمها يسيل، فقال:"دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد"(1) .

ويرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد أن الحد يقام ولا يؤخر لأن الحد واجب فلا يؤخر ما أوجبه الله بغير حجة، ويحتج هذا الفريق بأن عمر رضى الله عنه أقام الحد على قدامة بن مظعون فى مرضه ولم يؤخره، وأنتشر ذلك فى الصحابة فلم ينكروه فكان إجماعًا (2)(6) ، ويعتبر الفقهاء النفاس مرضًا.

المريض الذى لا يرجى شفاؤه: يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن المريض الذى لا يرجى شفاؤه من مرضه يقام عليه الحد فى الحال ولا يؤخر، ولكنهم يشترطون أن يقام الحد بسوط يؤمن معه التلف كالقضيب الصغير وشمراخ النخل، فإن خيف عليه من ذلك جمع ضغث فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة بمائة شمراخ لأنه زنا، ولأن المريض الميؤوس من شفائه إما أن يترك لمرضه فلا ينفذ عليه الحد أو ينفذ عليه كاملا فيفضى ذلك إلى موته فتعين التوسط فى الأمر وجلده جلدة واحدة بمائة شمراخ، وليس ثمة ما يمنع من أن تقوم الضربة الواحدة بمائة شمراخ مقابل المائة ضربة كما قال الله تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا َ تَحْنَثْ} [النور:44] ، فهذا أولى من ترك أو قتل المريض بما لا يوجب القتل (3) .

ولكن مالكًا لا يأخذ بهذا الرأى ويرى ضرب المريض الذى لا يرجى شفاؤه مائة جلدة، ولا يرى فى ضربه بالعِثْكال إلا جلدة واحدة.

* * *

(1) شرح فتح القديرج4 ص 137، أسنى المطالب ج4ص 133، ج10 ص 141.

(2)

المغنى ج10ص 141.

(3)

المغنى ج10ص 142، شرح فتح القدير ج4 ص 137، أسنى المطالب ج4 ص 134.

ص: 453

موانع التنفيذ

556 -

يمتنع التنفيذ إذا جد ما يسقط الحد بعد الحكم به: ومسقطات الحد هى:

أولا: يسقط الحد برجوع المقر عن إقراره إذا كان الزنا ثابتًا بالإقرار سواء كان الإقرار صريحًا أو ضمنيًا، وقد سبق أن فصلنا الكلام على الرجوع ومتى يسقط الحد.

ثانيًا: عدول الشهود: ويسقط الحد بعدول الشهود عن شهاداتهم قبل التنفيذ كلهم أو بعضهم ما دام عدد الشهود الباقين على شهادتهم أقل من أربعة.

ثالثًا: تكذيب أحد الزانيين للآخر: أو ادعاؤه النكاح إذا كان الزنا ثابتًا بإقرار أحدهما، وهو مذهب أبى حنيفة، أما الأئمة الثلاثة فيرون أن التكذيب لا يسقط الحد وأن ادعاء النكاح لا يسقطه إلا إذا أقام الدليل على وجود النكاح.

رابعًا: بطلان أهلية شهادة الشهود قبل التنفيذ وبعد الحكم، وهو مذهب أبى حنيفة ولا يوافقه عليه الأئمة الثلاثة.

خامسًا: موت الشهود قبل الرجم خاصة، وهو مذهب أبى حنيفة أيضًا ولا يأخذ به الأئمة الثلاثة.

سادسًا: زواج الزانى من المزنى بها، والقائل بهذا هو أبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة، وحجته أن النكاح يورث شبهة تدرأ الحد لأنه يعطى الزوج حق الملك والاستمتاع، ولكن فقهاء المذهب لا يوافقونه على هذا الرأى لأن الفعل وقع زنًا وكان سابقًا على الزواج (1) .

* * *

(1) بدائع الصنائع ج7 ص 62.

ص: 454