الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فذكر أن النبى أمر بها فقتلت لما مات بِشْر، وقد بنى الشافعى مذهبه على رواية أنس، وبنى أحمد مذهبه على رواية أبى سلمه، ومن هذا الطريق جاء اختلاف المذهبين فى تقديم الطعام المسموم أو دس السم فى طعام المجنى عليه.
أما اختلاف الشافعية فيما بينهم فأساسه أخذ بعضهم برواية أبى سلمة وأخذ البعض برواية أنس بن مالك وجمع البعض الآخر بين الروايتين ومحاولة التوفيق بينهما.
ولا يعتبر أبو حنيفة وأصحابه تقديم الطعام والشراب المسموم للمجنى عليه أو دسه فى طعامه وشرابه قتلاً عمدًا ولو أكله المجنى عليه او شربه جاهلاً بأنه مسموم، وعندهم أن المجنى عليه هو الذى قتل نفه بتناول المادة المسممة ولكن الجانى يعزر لأنه غرر بالمجنى عليه.
أما إذا أَوْجَرَ الجانى المجنى عليه السم إيجارًا أو ناوله له وأكرهه على شربه حتى شرب فالفعل قتل شبه عمد عند أبى حنيفة سواء كان السم يقتل غالبًا أو لا يقتل غالبًا، فإن كان يقتل غالبًا فالفعل قتل عمد؛ لأن السم إذا كان يقتل غالبًا فهو باستعماله معدٌّ للقتل، وإن كان لا يقتل غالبًا فالفعل شبه عمد.
* * *
الركن الثالث: أن يقصد الجانى إحداث الوفاة
86 -
يشترط لاعتبار القتل عمدًا عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد أن يقصد الجانى قتل المجنى عليه: فإن لم يتوفر هذا القصد فلا يعتبر الفعل قتلاً عمدًا ولو قصد الجانى الاعتداء على المجنى عليه؛ لأن نية العدوان المجردة عن قصد القتل لا تكفى لجعل الفعل قتلاً عمدًا.
87 -
ولقصد القتل أهمية خاصة عند الأئمة الثلاثة: لأنه هو الذى يميز القتل
العمد عن القتل شبه العمد وعن القتل الخطأ، إذ الفعل الواحد يصلح أن يكون قتلاً عمدًا أو شبه عمد أو خطأ، والذى يميز هذه الأنواع الثلاثة من القتل أحدها عن الآخر هو قصد الجانى، فإن تعمد الجانى الفعل بقصد قتل المجنى عليه فهو قتل عمد، وإن تعمد الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل فهو شبه عمد، وإن تعمد الفعل دون قصد عدوانى أو دون أن يقصد نتيجته فهو خطأ.
88 -
ولا يشترط مالك لاعتبار الفعل قتلاً عمدًا أن يقصد الجانى قتل المجنى عليه: ويستوى عنده أن يقصد الجانى قتل المجنى عليه أو أن يتعمد الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل ما دام أنه لم يتعمد الفعل على وجه اللعب أو التأديب، فالجانى فى كلا الحالتين قاتل عمدًا (1) .
وهذا الرأى يتفق مع منطق مالك لأنه لا يعترف بالقتل شبه العمد، ولا يرى القتل إلا نوعين فقط عمدًا وخطأ فاقتضى منه ذلك أن يعتبر الجانى قاتلاً عمدًا بمجرد توفر قصد العدوان ولو أنه اشترط توفر نية القتل عند الجانى لترتب على هذا الشرط أن يدخل فى باب الخطأ كل ما يدخل فى باب شبه العمد عند الفقهاء الآخرين.
89 -
وبعض كتب الفقه فى مذاهب الأئمة الثلاثة تشترط صراحة قصد القتل فى الجانى وبعضها لا يذكر شيئًا إطلاقًا عن قصد القتل: وقد يوهم هذا أن هناك خلافًا على اشتراط قصد القتل، والواقع أنه لا خلاف إطلاقًا فى اشتراط قصد القتل وإنما الخلاف جاء فى طريقه التعبير؛ فالأصل أن نية القتل شرط أساسى فى القتل العمد، ولما كانت هذه النية أمرًا باطنيًا متصلاً بالجانى كامنًا فى نفسه ومن الصعب الوقوف عليها فقد رأى الفقهاء أن يستدلوا على نية الجانى بمقياس ثابت يتصل بالجانى ويدل غالبًا على نيته ونفسيته؛ ذلك المقياس هو الآلة أو الوسيلة التى يستعملها فى القتل إذ الجانى فى الغالب يختار الآلة المناسبة لتنفيذ قصده من الفعل،
(1) مواهب الجليل للحطاب ج6 ص240 ، الشرح الكبير للدردير ج4 ص215.
فإن قصد القتل اختار الآلة الملائمة للفعل والتى تستعمل غالبًا كالسيف والبندقية والعصا الغليظة، وإن قصد الضرب دون القتل اختار الآلة الملائمة لقصده كالضرب بالقلم أو العصا الخفيفة أو السوط.
فاستعمال الآلة القاتلة غالبًا هو المظهر الخارجى لنية الجانى، وهو الدليل المادى الذى لا يكذب فى الغالب، لأنه من صنع الجانى لا من صنع غيره، ومن ثم اشترط الفقهاء أن تكون الآلة أو الوسيلة قاتلة غالبًا لأن توفر هذه الصفة فيها دليل على أن الجانى قصد قتل المجنى عليه واستغنوا بهذا الشرط الدال على قصد القتل عن مدلول الشرط أى أنهم أقاموا الدليل مقام المدلول فلم يعد بعد هذا ما يدعو لاشتراط قصد القتل؛ لأن اشتراط أن تكون الآلة قاتلة غالبًا يغنى عن اشتراط القصد، ولهذا لا نجد فى كتب الفقه كتابًا يعرِّف القتل العمد أو شبه العمد فيذكر قصد القتل فى التعريف إلا نادرًا، وإنما يذكر القصد فى مناسبات أخرى، وأخصها بيان الفرق بين العمد وشبه العمد، وتعليل تسمية شبه العمد بهذا الاسم أنهم يصرحون بأن شبه العمد لا يشترط فيه قصد القتل، وأن هذا هو ما يميزه عن العمد، لأنهم يرون أن العمد هو ما قصد فيه الفعل والقتل، وأن شبه العمد ما قصد فيه الفعل دون القتل، ولذلك سمى الخطأ العمد أو عمد الخطأ؛ لأنه عمد فى الفعل خطأ فى القصد.
ونستطيع أن نعرض عينة من أقوال الفقهاء فى هذا الموضوع: فمثلاً يعرَّف الزيلعى - وهى حنفى المذهب - القتل العمد فلا يذكر شيئًا عن قصد القتل، ولكنه يجتهد فى بيان أنه تعمد الفعل بما يقتل غالبًا من وسائل معدَّة للقتل فإذا عرف شبه العمد قال: إنه تعمد الضرب بما لا يقتل غالبًا، وأنه سمى بشبه العمد لأن فيه قصد الفعل لا القتل (1) .
ويعرف صاحب بدائع الصنائع - وهو حنفى المذهب - القتل العمد فلا يذكر شيئًا - كما فعل الزيلعى - عن قصد القتل ولكنه حين يتكلم عن شرائط القصاص يقول: إن القاتل عمدًا يجب أن يكون متعمدًا القتل قاصدًا إياه (2) .
ويعرف صاحب المهذب - وهو
(1) الزيلعى ج6 ص98 ، 100.
(2)
بدائع الصنائع ج7 ص233 ، 234.
شافعى - القتل العمد بأنه قصد الإصابة بما يقتل غالبًا فيقتله، ثم يعرف شبه العمد بأنه قصد الإصابة بما لا يقتل غالبًا فيموت منه ويقول: إنه لا تجب فى شبه العمد بأنه قصد الإصابة بما لا يقتل غالبًا فيموت منه ويقول: إنه لا تجب فى شبه العمد عقوبة العمد لأن الجانى لم يقصد القتل (1) .
ويعرف الماوردى - وهو شافعى - القتل العمد بأنه تعمد قتل النفس بما يقتل غالبًا. ويعرف شبه العمد بأن فاعله يكون عامدًا فى الفعل غير قاصد القتل (2) .
ويعرف معظم فقهاء المذهب الشافعى العمد بأنه قصد الفعل وعين الشخص بما يقتل غالبًا، كما يعرفون شبه العمد بأنه قصد الفعل والشخص بما لا يقتل غالبًا (3) ، ولكنهم حين يفرقون بين أفعال العمد وشبه العمد يميزون العمد بقصد الجانى إهلاك المجنى عليه مع أنهم لا يذكرون قصد القتل صراحة فى تعرف العمد أو شبه العمد.
ويعرف صاحب المغنى - وهو حنبلى المذهب - القتل العمد فيقول ما خلاصته أنه الضرب بما يقتل غالبًا ولكنه حين يتكلم عن شبه العمد يقول عنه: إنه الضرب بما لا يقتل غالبًا ثم يشرح هذا فيقول: إن الضرب فى شبه العمد يكون إما لقصد العدوان عليه أو لقصد التأديب له فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا واللكز وسائر ما لا يقتل غالبًا وهو شبه عمد لأنه قصد الفعل وأخطأ فى القتل (4) .
ويعرف صاحب الشرح الكبير - وهو حنبلى المذهب - العمد وشبه العمد بمثل ما عرفهما به زميله السابق. وصاحب الإقناع - وهو حنبلى أيضًا - يشترط فى العمد القصد ويعرف العمد بقوله: "أن يقتل قصدًا بما يغلب على الظن موته به" ثم يعرف شبه العمد فيقول: أن يقصد الجناية إما لقصد العدوان عليه أو التأديب له فيسرف فيه بما لا يقتل غالبًا قصد قتله أو لم يقصده (5) . وظاهر مما سبق أن اشتراط قصد القتل هو المميز بين
(1) المهذب ج2 ص184 ، 185.
(2)
الأحكام السلطانية ص219 ، 220.
(3)
تحفة المحتاج ج4 ص2-4 ، نهاية المحتاج ج7 ص235 ، 240 ، حاشية البجيرمى على المنهج ج4 ص129 ، 131.
(4)
المغنى ج9 ص321 ، 337.
(5)
الإقناع ج4 ص163 ، 168.
العمد وشبه العمد.
وإذا كان صاحب الإقناع قد صرح باشتراط القصد فإنه مع ذلك لم يذكره فى تعريف العمد واكتفى باشتراط أن تكون الآلة قاتلة غالبًا كما أنه يلاحظ عليه أنه لم يفسر القصد أصلاً فى الحالة التى تكون فيه الآلة غير قاتلة غالبًا وهو منطق دقيق فقد رأى أنه إذا كانت الآلة القاتلة غالبًا دليلاً على توفر قصد القتل، فإنه يجب أن تكون الآلة التى لا تقتل غالبًا دليلاً على انتفاء قصد القتل ما دامت الآلة هى الدليل المادى على قصد الجانى.
وعلى كل حال فإن هذا الذى يراه هو نفس ما يراه بقية الفقهاء ممن ذكرنا وممن لم نذكر ولو أنهم لم يصرحوا بهذا فى تعريف شبه العمد كما صرح صاحب الإقناع، ولكن المتتبع لأمثلتهم وتطبيقاتهم يجد أنهم يعتبرون الفعل شبه عمد إذا كانت الوسيلة غير قاتلة غالبًا، بغض النظر عما إذا كان الجانى قصد القتل أم لم يقصده ولعلهم لم يصرحوا بها فى التعريف كما لم يصرحوا باشتراط القصد فى العمد، ويكون إذن معنى قولهم إن القاتل فى شبه العمد لم يقصد الفعل أنه لم يقصده فرضًا أو حكمًا لا فعلا. ومن الأمثلة على ذلك أن الضربة أو الضربتين بالعصا وضرب الموالاة لا يعتبر قتلاً عمدًا، ولو قصد الجانى قتل المجنى عليه (1) فى رأى أبى حنيفة وأصحابه وأن القتل بطريق معنوى يعتبر قتلاً شبه عمد فى مذهب الشافعى وأحمد لأن الوسيلة لا تقتل غالبًا وأن الضرب بما لا يقتل غالبًا يعتبر قتلاً شبه عمد ولو قصد الجانى قتل المجنى عليه ما دام الضرب لم يكن متواليًا ولا على ضعيف أو صغير أو فى حر شديد أو فى برد شديد (2) .
ومع أن الفقهاء قد جعلوا استعمال الآلة أو الوسيلة القاتلة غالبًا دليلاً على توفر القصد للقتل عند القاتل، وجعلوا استعمال الآلة أو الوسيلة التى لا تقتل غالبًا دليلاً على انتفاء قصد القتل عند القاتل إلا أنه يجب أن لا يفهم من هذا المساواة التامة فى الحالين، فهناك فرق دقيق لا يصح أن يغرب عن البال، وهو أن افتراض توفر قصد القتل عند من يستعمل آلة تقتل غالبًا هو فرض يقبل النفى فللجانى أن يثبت العكس أى أنه لم يقصد القتل؛ أما افتراض انعدام نية القتل عند من يستعمل آلة لا تقتل غالبًا فهو فرض لا يقبل النفى، فلا يجوز إثبات عكسه ولو اعترف الجانى نفسه بأنه قصد القتل، بل يكذب اعترافه كون الآلة غير قاتلة والملاحظ فى حالة قبول النفى وعدم قبوله هو مصلحة المتهم لا مصلحة غيره، وإن كانت مصلحة الجماعة روعيت فى حالة استعمال آلة تقتل غالبًا بافتراض أن نية القتل متوفرة فلا يجد الاتهام ضرورة لإثبات نية القتل ما دام المتهم لم يثبت أنه لم يقصد القتل، وأنه لم يستعمل الآلة القاتلة لها الغرض.
90 -
وليس للبواعث التى دفعت الجانى لارتكاب جريمته أثر ما على مسئوليته ولا عقوبته فى الشريعة: فإذا ارتكب الفعل بقصد الإضرار بالمجنى عليه أو لباعث غير شريف فإن ذلك لا يزيد فى مسئوليته أو عقوبته شيئًا كما أن ارتكاب الفعل لباعث شريف لا يخفف مسئولية الجانى أو عقوبته شيئًا.
91 -
رضاء المجنى عليه بالقتل: من القواعد الأصلية المسلم بها فى الشريعة أن رضاء المجنى عليه بالجريمة لا يجعلها مباحة إلا إذا كان الرضاء ركنًا من أركان الجريمة كالسرقة مثلاً فإن رضاء المجنى عليه بأخذ ماله يجعل الأخذ فعلاً مباحًا والرضاء ليس ركنًا فى جريمة القتل والضرب فتطبيق هذه القاعدة الأصلية الملم بها يقتضى أن لا يكون لرضاء المجنى عليه فى جريمة الضرب والقتل أثر ما على المسئولية الجنائية أو العقوبة، ولكن هناك قاعدة أخرى أصلية مسلم بها وهى أن للمجنى عليه وأوليائه حق العفو عن العقوبة فى جرائم القتل والضرب، فلهم أن يعفوا عن القصاص إلى الدية ولهم أن يعفوا عن الدية والقصاص معًا؛ فلا يبقى إلا تعزير الجانى إن رأت السلطة التشريعية ذلك.
(1) بدائع الصنائع ج7 ص334 ظو البحر الرائق ج8 ص288 ، 294 ، 295.
(2)
نهاية المحتاج ح7 ص237 ، 240 ، 330 ، 333 ، المغنى ج9 320 - 338 ومن ص577 - 581.
وقد أدى وجود القاعدة الثانية إلى الاختلاف بين الفقهاء فى تطبيق القاعدة الأولى على جرائم القتل والضرب، كذلك تختلف آراء الفقهاء فى القتل عنها فى القتل والجرح.
الرضاء بالقتل: يرى أبو حنيفة وأصحابه أن الإذن بالقتل لا يبيح القتل؛ لأن عصمة النفس لا تباح إلا بما نص عليه الشرع والإذن بالقتل ليس منها، فكان الإذن عدمًا لا أثر له على الفعل فيبقى الفعل محرمًا معاقبًا عليه باعتباره قتلاً عمدًا. لكنهم اختلفوا فى العقوبة التى توقع على الجانى، فرأى أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد أن تكون العقوبة الدية ودرءوا عقوبة القصاص عن الجانى على أساس أن الإذن بالقتل شبهة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ادرءوا الحدود بالشبهات" والقصاص معتبر حدًا فكل شبهة تقوم فى فعل مكون لجريمة عقوبتها القصاص يدرأ بها الحد عن الجانى، ورأى زفر أن الإذن لا يصلح أن يكون شبهة ومن ثم فهو لا يدرأ القصاص، فوجب أن يكون القصاص هو العقوبة (1) .
والرأى الراجح فى مذهب مالك: أن الإذن بالقتل لا يبيح الفعل ولا يسقط العقوبة ولو أبرأ المجنى عليه الجانى من دمه مقدمًا لأنه ابرأه من حق لم يستحقه بعد، وعلى هذا يعتبر الجانى قتلاً عمدًا ولكن بعض أصحاب هذا الرأى يرون أن تكون العقوبة القصاص ويعاقب بالعقوبة المقررة له، ويرى البعض الآخر أن الإذن شبهة تدرأ القصاص ومن ثم يوجبون الدية، أما الرأى المرجوح فنسبه ابن عرفة لسحنون ومقتضاه:"أن الإذن بالقتل لا يبيح الفعل ولكنه يسقط العقوبة فلا قصاص ولا دية وإنما التعزير"، ولكن الرأى المعروف عن سحنون فى "كتاب العُتْبِِيَّة" أنه يرى عقاب القاتل وإن كان يدرأ القصاص عنه للشبهة (2) .
(1) بدائع الصنائع ج7 ص236.
(2)
مواهب الجليل للحطاب ج6 ص235 - 236 ، الشرح الكبير للدردير ج4 ص213.
وفى مذهب الشافعى رأيان: أولهما: أن الإذن فى القتل يسقط العقوبة ولا يبيح الفعل، ومن ثم فلا قصاص ولا دية. ثانيهما: أن الإذن فى القتل لا يبيح الفعل ولا يسقط العقوبة ولكنه شبهة تدرأ القصاص وتوجب الدية (1) . وبعض أصحاب هذا الرأى يرى القصاص لأن الإذن ليس شبهة.
أما أحمد فيرى أن لا عقاب على الجانى لأن من حق المجنى عليه العفو عن العقوبة، والإذن بالقتل يساوى العفو عن العقوبة فى القتل (2) ، وهذا يتفق مع الرأى الأول فى مذهب الشافعى.
92-
الرضاء بالجرح: يرى أبو حنيفة وأصحابه أن الإذن بالقطع والجرح يترتب عليه منع العقوبة لأن الأطراف عندهم يسلك بها مسلك الأموال وعصمة المال تثبت حقًا لصاحبه فكانت العقوبة على القطع والجرح محتملة السقوط بالإباحة والإذن، ولكنهم اختلفوا فيما إذا أدى الجرح أو القطع إلى الموت فأبو حنيفة يرى الفعل قتلاً عمدًا لأن الإذن كان عن الجرح أو القطع، فلما مات تبين أن الفعل وقع قتلاً لا جرحًا ولا قطعًا ومن ثم فعليه عقوبة القتل العمد، ولما كان الإذن يعتبر شبهة تدرأ القصاص فتعين أن تكون العقوبة الدية.
أما أبو يوسف ومحمد فمن رأيهما أنه إذا أدى الجرح أو القطع لموت فلا شىء على الجانى إلا التعزير لأن العفو عن الجرح أو القطع عفو عما تولد منه وهو القتل (3) .
وفى مذهب مالك أن الإذن بالجرح والقطع لا عبرة به إلا إذا استمر مُبرئًا له بعد الجرح والقطع، فإن لم يبرئه بعد الجرح والقطع فيه العقوبة المقررة وهى القصاص أو الدية، أما إذا استمر مبرئًا له تسقط العقوبة المقررة وهى القصاص والدية ويحل محلهما التعزير ما لم يؤد الجرح أو القطع إلى الموت فيعاقب الجانى
(1) نهاية المحتاج ج7 ص248.
(2)
الإقناع ج4 ص171.
(3)
بدائع الصنائع ج7 ص236 ، 237.
بعقوبة القتل العمد (1) والإذن بالجرح أو القطع فى مذهب الشافعى يسقط العقاب عن الجانى ما لم تر الجماعة عقابه تعزيرا، فإذا أدى الجرح أو القطع إلى الموت؛ فمن فقهاء المذهب من يرى مسئولية الجانى عن القتل العمد ويدرأ القصاص لشبهة الإذن فتكون الدية هى العقوبة ومن فقهاء المذهب من يرى أن لا عقاب لأن الموت تولد من مأذون فيه (2) .
والإذن بالجرح والقطع عند أحمد كالإذن بالقتل لا عقوبة عليه وإن كان الإذن لا يبيح الفعل؛ لأن له الحق فى إسقاط العقوبة، وقد أسقطها بإذنه.
93 -
أسباب الخلاف بين الفقهاء فى الإذن بالقتل: أساس الاختلاف فى هذه المسألة أن للمجنى عليه وأوليائه العفو عن العقوبة فى القتل وهى القصاص أو الدية إذا حلت محل القصاص، فإذا عفوا سقطت العقوبة المقررة للقتل، ولم يبق إلا عقوبة التعزير إذا رأى أولياء الأمور تقريرها فى حالة العفو فمن قال بأن الإذن يمنع من العقاب اعتبر الإذن عفوًا مقدمًا ورتب عليه سقوط العقوبة، ومن قال بأن الإذن لا يمنع من العقاب رأى أن الإذن لا يعتبر عفوًا لأن العفو عن القتل يستدعى وجود القتل، فإذا جاء العفو قبل القتل فهو عفو غير صحيح لأنه لم يصادف محله، ومن جعل العقوبة الدية اعتبر الإذن شبهة تدرأ القصاص، ومن قال بالقصاص لم يجعل الإذن شبهة درائة للقصاص (3) .
94 -
مقارنة بين الشريعة والقانون: يتفق مذهب مالك وأبى حنيفة ورأى الشافعى الذى يقول بالعقاب فى حالة الرضاء بالقتل أو الجرح الذى ينتهى بالموت مع القوانين الوضعية الحديثة، لأنها تعتبر القتل والجرح بالرغم من الرضاء أو الإذن جريمة وتعاقب عليها، وإذا كان بعض الفقهاء يرى أن تكون العقوبة القصاص، والبعض يرى أن تكون الدية فهذا ليس بذى أهمية، لأن استبدال الدية بالقصاص ليس إلا استبدال عقوبة مقررة شرعًا بعقوبة مقررة شرعًا. وهو يقابل فى القوانين الحديثة ما تقرره من الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة او المؤقتة عقوبة للقتل العمد مع ترك الحرية للقضاة فى اختيار إحدى العقوبتين وتقدير ظروف الجريمة والمجرم. ولا شك أن إذن المجنى عليه فى الجريمة وإن لم يكن له أثر على تكوين الجريمة إلا أنه مما يدعو القضاة إلى استعمال الرأفة وإذا لم يحملهم على تخفيف العقوبة إلى حدها الأدنى فإنه يمنعهم من رفعها إلى حدها الأعلى، فتكون النتيجة العملية فى القانون أن يعاقب الجانى المأذون له فى الفعل بعقوبة بسيطة الفرق بينها وبين الحد الأعلى المقرر أصلاً كالفرق بين القصاص والدية فى الشريعة.
95 -
القصد المحدود وغير المحدود: لا يفرق الفقهاء فى مذهبى أبى حنيفة وأحمد بين القصد المحدود والقصد غير المحدود سواء فى تعريف أنواع القتل أو فى الأمثلة التى يضربونها لمختلف وسائل القتل، ومن ثم يمكن القول بأنه يستوى فى مذهبى أبى حنيفة وأحمد أن يكون القصد عند الجانى متجهًا إلى قتل إنسان بعينه أو إلى قتل إنسان غير معين فهو مسئول عن القتل العمد فى الحالين ما دام قد أتى الفعل بقصد القتل، فمن أطلق عيارًا ناريًا على شخص معين، ومن ألقى قنبلة على جماعة بقصد القتل دون أن يقصد شخصًا معينًا من الجماعة كلاهما قاتل عمدًا عند أبى حنيفة وأحمد.
أما فى مذهب الشافعى (4) فيفرقون بين ما إذا قصد معينًا أو غير معين فإن قصد معينًا فالفعل قتل عمد، وإن قصد غير معين فالفعل قتل شبه عمد،
(1) الشرح الكبير للدردر ج4 ص213.
(2)
نهاية المحتاج ج7 ص248 ، 296 ، تحفة المحتاج ج4 ص30 ، 31.
(3)
أما فى حالة الجرح أو الجرح المنتهى بالموت فاساس الخلاف انهم يعتبرون الإذن بالجرح عفواً مقدماً عن الجرح ويعتبرون هذا العفو صحيحاً ويرتبون عليه إسقاط العقوبة إلا مالك فغنه يرى الغذن السابق على الجرح باطلاً لأنه لم يصادف محله ، ومن يرى عدم العقاب فى حالة الموت يرى الموت متولداً من الجرح وهو مأذون فيه وما تولد من معفو عنه أخذ حكمه أما من يرى العقاب فيرى أن الغذن كان عن جرح لا قتل فإذا ظهر أن الفعل قتل فهو غير مأذون فيه لكنه مع ذلك اعتبر الغذن الباطل شبهة تدرأ القصاص.
(4)
نهاية المحتاج ج7 ص235 وما بعدها ، تحفة المحتاج ج4 ص322.
ويعتبر المجنى عليه معينًا ولو قصد الجانى أن يصيب أى شخص من جماعته؛ لأن الجماعة تصبح كلها مقصودة فتصير معينة أفرادًا وجماعة.
ويفرقون فى مذهب مالك أيضًا بين قصد شخص معين وبين قصد شخص غير معين، فإن قصد الجانى معينًا فالفعل قتل عمد، وإن قصد غير معين أيا كان فلا يعتبر القتل عمدًا وإنما يعتبر خطأ (1) .
ويتفق مذهب أبى حنيفة وأحمد مع القانون المصرى اتفاقًا تامًا فالمادة 231 عقوبات تنص على أن الإصرار السابق هو القصد المصمم عليه قبل الفعل لارتكاب جنحة أو جناية غرض المصر منها إيذاء شخص معين أو أى شخص غير معين وجده أو صادفه سواء كان ذلك القصد معلقًا على حدوث أمر أو موقوفًا على شرط وتطبيقًا لهذا النص حكمت محكمة النقض بأنه إذا صوب شخص بندقية إلى جمع محتشد، وأطلق منها عيارًا ناريًا أو عدة أعيرة نارية أصاب بعضها شخصًا أو أكثر من هذا الجمع وقتله، عُدَّ القاتل مرتكبًا لجريمة القتل عمدًا لتوفر قصد القتل عنده (2) .
أما مذهب الشافعى ومالك فظاهر أنهما يخالفان القانون.
96 -
الخطأ فى الشخص والخطأ فى الشخصية: يراد بالخطأ فى الشخص أن يقصد الجانى قتل شخص معين فيصيب غيره، ويراد بالخطأ فى الشخصية أن يقصد الجانى قتل شخص على أنه زيد فيتبين أنه عمرو، والخطأ فى الشخص هو خطأ فى الفعل، فمن رمى صيدًا أو غرضًا أو آدميًا معينًا فأخطأه وأصاب شخصًا آخر فقد أخطأ فى فعله، أما الخطأ فى الشخصية فهو خطأ فى قصد الفاعل، فمن رمى شخصًا على أنه مرتد أو حربى فإذا هو معصوم أو رماه على أنه زيد فتبين أنه عمرو فقد أخطأ فى قصده.
وللفقهاء نظريتان مختلفتان فى الخطأ فى الشخص والشخصية: الأولى لمالك
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص216 ، مواهب الجليل ج6 ص240.
(2)
نقض فى 12 ديسمبر 1928 ، محاماة 9 عدد 106.
وأصحابه، وتتلخص فى أنه إذا قصد الجانى شخصًا فأصاب غيره، أو قصد شخصًا على أنه زيد فتبين أنه بكر فإن الجانى يكون قاتلاً عمدًا فى الحالين، سواء قصد القتل أو قصد مجرد العدوان على وجه الغضب لا على وجه اللعب أو التأديب، وبعض فقهاء المذهب يرى أن الحالة الأولى ليست قتلاً عمدًا بل هى قتل خطأ (1) .
ويرى بعض فقهاء المذهب الحنبلى أن الفعل المقصود أصلاً إذا كان محرمًا فإن الخطأ فى الفعل أو الظن لا يؤثر على مسئولية الجانى شيئًا لأنه قصد فعلاً محرمًا قتل به إنسانًا فهو إذن قاتل له عمدًا (2) أما إذا كان الفعل المقصود أصلاً غير محرم فإن الخطأ فى الفعل أو الظن يكون له أثره على مسئولية الجانى؛ لأنه قصد فعلاً مباحًا فإذا أخطأ فى فعله أو ظنه فهو قاتل خطأ لا عمدًا.
والنظرية الثانية: يأخذ بها فقهاء مذهب أبى حنيفة ومذهب الشافعى والفريق الأخير من فقهاء مذهب أحمد، وهؤلاء جميعًا يرون أن من قصد قتل شخص فأخطأ فى فعله وأصاب غيره أو أخطأ فى ظنه وتبين أنه أصاب غير من قصده فإن الجانى يكون مسئولاً عن القتل الخطأ فقط سواء كان الفعل الذى قصده أصلاً مباحًا أو محرمًا (3) .
97 -
مقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية: والرأى السائد فى القوانين الوضعية يتفق مع رأى أصحاب النظرية الأولى، إذ تأخذ القوانين الوضعية الجانى بقصده فما دام قد قصد القتل والضرب ونفذ قصده فيستوى بعد ذلك أن يكون أصاب من قصده أو أصاب غيره وقضاء المحاكم المصرية مستقر على أن من تعمد قتل إنسان فأصاب آخر فهو قاتل عمدًا لهذا الآخر (4) .
98 -
القصد الاحتمالى: ولا شك أن الشريعة الإسلامية تعرف حق المعرفة
(1) مواهب الجليل ح6 ص240 ، 243 ، الشرح الكبير للدردير ج4 ص215.
(2)
المغنى ج9 ص339.
(3)
بدائع الصنائع ج7 ص236 ، نهاية المحتاج ح7 ص337 ، الإقناع ج4 ص168 ، المغنى ج9 ص339.
(4)
نقض فى 10 أكتوبر سنة 1929 ، قضية 2085 سنة 46 قضائية.
القصد الاحتمالى وليس أدل على ذلك من جرائم الجرح والضرب، فالضارب يضرب وهو لا يقصد إلا مجرد الإيذاء أو التأديب ولا يتوقع أن يصيب المجنى عليه إلا بجرح بسيط أو كدمات خفيفة أو لا يتوقع أن يصيبه إلا بمجرد الإيلام، ولكن الجانى لا يسأل فقط عن النتائج التى توقعها وإنما يسأل أيضًا عن النتائج التى كان فى وسعه أن يتوقعها أو التى كان يجب عليه أن يتوقعها، فإذا أدى الضرب إلى قطع طرف أو فقد منفعة فهو مسئول عن ذلك، وإذا أدى لوفاة المجنى عليه فهو مسئول عن هذه الوفاة باعتبار الحادث قتلاً شبه عمد لا ضربًا.
لكن ما هو رأى فقهاء الشريعة فى القصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد بالذات؟ ذلك القصد الذى عرفته محكمة النقض المصرية بأنه "نية ثانوية غير مؤكدة تختلج بها نفس الجانى الذى يتوقع أن قد يتعدى فعله الغرض المنوى عليه بالذات إلى غرض آخر لم ينتوه من قبل أصلاً فيمضى مع ذلك فى تنفيذ الفعل فيصيب به الغرض غير المقصود ومظنة وجود تلك النية هى استواء حصول هذه النتيجة وعدم حصولها لديه ذلك القصد الذى يقيمه الألمان مقام القصد الثابت فى جريمة القتل وغير القتل ويقولون: إنه يكون كلما تصور الفاعل النتيجة ممكنة الوقوع ثم يمضى بالرغم من ذلك فى فعلته مستهينًا بالنتيجة".
ولا يسلم أبو حنيفة والشافعى وأحمد بالقصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد ويصرون على أن تتوجه نية الجانى للقتل، وأن يرتكب الفعل بقصد الوصول لهذا الغرض. ولعل حرصهم على ظهور نية القتل عند الجانى راجع إلى أنهم يقسمون القتل إلى عمد وشبه عمد وخطأ وفى العمد وشبه العمد يتعمد الجانى العدوان ولكن الذى يميز العمد عن شبه العمد هو أن الجانى يقصد القتل فى العمد فلو سلموا بالقصد الاحتمالى فى القتل العمد لانعدم الحد الفاصل بين القتل العمد والقتل شبه العمد.
وقد سلم بعض فقهاء مذهب أحمد بالقصد الاحتمالى فى جريمة القتل فى موضعين فقط، واعتبروا الفاعل قاتلاً عمدًا أخذًا بقصده المحتمل: الأول: إذا أخطأ الجانى فى الفعل، كأن أراد أن يقتل زيدًا فلما رماه أخطأه وأصاب عمرًا بشرط أن يكون زيد معصومًا؛ أى غير مهدر الدم كأن يكون حربيًا أو مرتدًا، فإن كان مهدر الدم فالقتل خطأ لا عمد. الثانى: إذا كان الخطأ فى ظن الفاعل كأن يقصد قتل زيد فيقتل عمرًا على أنه زيد بشرط أن يكون معصومًا.
أما مالك فمذهبه يتسع للقصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد ولما هو أكثر من القصد الاحتمالي؛ لأنه لا يعرف القتل شبه العمد، والقتل عنده نوعان فقط: عمد وخطأ، والعمد عنده لا يشمل فقط الفعل المقصود به القتل وإنما يشمل كل فعل قصد به مجرد العدوان ولو لم يقصد الفاعل القتل، ولما كان من المستبعد عقلاً أن تؤدى كل أفعال العدوان البسيطة إلى الموت، فمعنى ذلك أن مذهب مالك يتسع لأكثر من القصد الاحتمالى؛ لأنه يتسع لما يتصوره الفاعل ممكن الوقوع ولما يتصوره ممتنع الوقوع.
99-
مقارنة: والنظرية الفرنسية تتفق مع نظرية الأئمة الثلاثة فالفرنسيون لا يرون الأخذ بالقصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد ولو أن القانون الفرنسى أخذ المتهم بقصده الاحتمالى فى جرائم الضرب والجرح وحجتهم أن الأخذ بنظرية القصد الاحتمالى فى القتل العمد يؤدى إلى اختلاط القتل العمد بالضرب المفضى إلى الموت وتجعل التمييز بينهما متعذرًا، أما مذهب مالك فيتفق مع النظرية الألمانية كما يتفق مع القانونين الإنجليزى والسودانى، وهما يعتبران القتل عمدًا إذا حصل الفعل بقصد تسبب الموت أو إذا علم الفاعل أو كان له داع أن يعلم أن الموت ربما يكون نتيجة الفعل المحتملة. ولكن بالرغم من هذا الاتفاق الظاهرى فإن مذهب مالك يظل أكثر اتساعًا من مذهب الألمان والقانونين الإنجليزى والسودانى، فمثلاً إذا لطم شخص آخر صحيحًا بقصد الاعتداء ودون أن يقصد القتل فمات من اللطمة فهو قاتل عمدًا عند الإمام مالك، ولا يعتبر قاتلاً طبقًا للنظرية الألمانية، لأن إمكان الموت من اللطمة بعيد التصور، كذلك لا يعتبر قاتلاً بحسب القانونين الألمانى والإنجليزى لأنه ليس فى ظروف