الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جـ - وروى ابن عمر أن اليهود أتوا النبى صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال:"ما تجدون فى كتابكم؟ فقالوا: نسخم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا بالتوراة، وجاءوا بقارئ لهم، فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هى تلوح، فقال- أو قالوا -: يا محمد فيها الرجم، ولكننا كنا نتكاتمه فيما بيننا، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال: فلقد رأيته يجنأ عليها يقيها الحجارة بنفسه"(1) .
وإذا كان الشارع قد فرق فى العقوبة بين المحصن وغير المحصن، فذلك لأن المحصن إذا زنا بعد أن توفرت موانع الزنا لديه كان زناه فى غاية القبح، ووجب أن تكون عقوبته فى غاية الشدة.
ونلخص مما سبق أن عقوبة الزنا نوعان:
(1)
عقوبة البكر.
…
...
…
(2) عقوبة المحصن.
* * *
المبحث الأول
عقوبة البكر
509 -
عقاب البكر الزانى: إذا زنا البكر سواء كان رجلاً أو امرأة عوقب بعقوبتين: أولاهما الجلد، والثانية التغريب، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"(2) .
ويلاحظ أن الشريعة تفرق بين عقوبة الأحرار وعقوبة الأرقاء فى الزنا، فتخفف عقوبة الرقيق وتشدد عقوبة الحر، مراعية فى ذلك ظروف كل منهما، ولكننا لن نتعرض هنا إلا للعقوبة المقررة للأحرار ناظرين فى ذلك إلى أن الرق ألغى فى كل أنحاء العالم، وأن لا حاجة تدعو إلى بيان عقوبة الرقيق.
510 -
أولا: عقوبة الجلد: إذا زنا البكر عوقب بالجلد مائة جلدة
(1) متفق عليه.
(2)
رواه مسلم وأبو داود والترمذى.
لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"(1) .
وعقوبة الجلد حد، أى عقوبة مقدرة، فليس للقاضى أن ينقص منها أو يزيد فيها لأى سبب من الأسباب أو ظرف من الظروف، وليس له أن يوقف تنفيذها أو أن يستبدل بها غيرها، كما أن ولى الأمر لا يملك شيئًا من ذلك، ولا يملك شيئًا من ذلك، ولا يملك العفو عنها كلها أو بعضها.
وسنتكلم عن طريقة الجلد وشروطه عند الكلام على تنفيذ العقوبة.
511 -
ثانيًا: التغريب: إذا زنا البكر جلد مائة جلدة وغرب عامًا، والتغريب هو العقوبة الثانية للزانى، ولكن الفقهاء يختلفون فى وجوبها.
فأبو حنيفة وأصحابه يرون أن التغريب ليس واجبًا، ولكنهم يجيزون للإمام أن يجمع بين الجلد والتغريب إن رأى فى ذلك مصلحة، فعقوبة التغريب عندهم ليست حدًا كالجلد وإنما هى عقوبة تعزيرية، ومن هذا الرأى الشيعة الزيدية (2) .
ويرى مالك والشافعى وأحمد وجوب الجمع بين الجلد والتغريب، ويعتبرون التغريب حدًا كالجلد، وحجتهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"، وما روى عن عمر وعلىَّ أنهما جلدا وغربَّا ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة فصار عملهما إجماعًا (3) .
ومن يرى هذا الرأى الظاهريون فإنهم يرون التغريب حدًا بتصريح النص (4) .
512 -
تغريب المرأة: ويرى مالك أن التغريب جعل للرجل دون المرأة، لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة ولأن الأمر لا يخلو إن غُرِّبت أن تُغرَّب ومعها مَحرَم
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذى.
(2)
بدائع الصنائع [ج7 ص39] ، شرح فتح القدير [ج4 ص134، 136] ، شرح الأزهار [ج4 ص341] .
(3)
شرح الزرقانى [ج8 ص83] ، المهذب [ج2 ص284] ، المغنى [ج10 ص133] .
(4)
المحلى [ج11 ص183، 188] .
أو أن تغرب دون محرم، والأصل أنه لا يجوز أن تغرب دون محرم، لقول النبى صلى الله عليه وسلم:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذى محرم"، ولأن تغريبها بغير محرم إغراء لها بالفجور، وتضييع لها، وإن غربت بمحرم أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفى من لا ذنب له، وإن كُلِّفت بحمل أجرته ففى ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد به الشرع، وبما لا يمكن أن يحدث مثله للرجل.
ولهذا يخصص المالكيون الخبر الوارد فى التغريب، ويجعلونه فى حق الرجل دون المرأة، إذ يلزم من العمل بعمومه مخالفة مفهومه على أنه ليس على الزانى أكثر من العقوبة المذكورة فيه، ووجوب التغريب على المرأة يلزم منه الزيادة على ذلك، وفضلاً عما سبق فإن العمل بعموم النص يؤدى إلى فوات حكمته؛ لأن الحد وجب زجرًا عن الزنا، وفى تغريبها إغراء به وتمكين منه (1) .
ويرى الشافعى وأحمد والظاهريون أن التغريب عقوبة واجبة على كل من الرجل والمرأة (2) .
513 -
ماهية التغريب: اختلف الفقهاء فى ماهية التغريب، فقال مالك وأبو حنيفة إن التغريب معناه الحبس، فيحبس المغرَّب فى البلد الذى يغرب إليه مدة لا تزيد على سنة، فالتغريب عند المالكيين والحنفيين معناه الحبس فى بلد غير البلد الذى وقعت فيه الجريمة، ومن هذا الرأى الزيديون (3) .
ويرى الشافعى وأحمد أن التغريب معناه النفى من البلد الذى حدث فيه الزنا إلى بلد آخر، على أن يراقب المغرَّب بحيث بالمراقبة فى البلد الذى غرب إليه، ولا يحبس فيه، فالتغريب عند الشفعيين والحنابلة هو الوضع تحت المراقبة
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص83] ، المغنى [ج10 ص133] .
(2)
أسنى المطالب [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص134] ، المحلى [ج11 ص332] .
(3)
شرح الزرقانى [ج8 ص83] ، شرح فتح القدير [ج4 ص270] ، حاشية ابن عابدين [ج3 ص203] ، شرح الأزهار [ج4 ص341] .
فى بلد آخر (1) . ومن هذا الرأى الظاهريون (2) .
ويشترط بعض الفقهاء فى التغريب أن يكون لمسافة لا تقل عن مسافة القصر (3) . ويرى البعض أن يكون النفى من عمل الحاكم إلى عمل غيره دون التقيد بمسافة معينة، فلو نفى إلى قرية تبعد عن محل الحادث ميلاً لكفى، كما يجوز أن ينفى من مصر إلى مصر لأن النفى ورد مطلقًا فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم (4) .
والمقصود من المراقبة أن يمنع الزانى من العودة إلى بلدة قبل انتهاء المدة، أو إلى ما دون مسافة القصر على رأى البعض، ويرى البعض أن المراقبة مقصود بها إلزام المغرَّب بالإقامة فى البلد المغرب إليه، فلا يُمكَّن من الضرب فى الأرض (5) .
وإذا كانت القاعدة عند الشافعيين أن التغريب معناه النفى إلا أنهم يجيزون حبس المغرَّب إذا خيف رجوعه إلى البلد الذى غرب منه (6) .
ويرى الشافعيون إعادة تغريب المغرب إذا رجع إلى البلد الذى غرب منه، على أن تستأنف المدة من جديد ليتوالى الإيحاش وحتى لا تفرق السنة (7) . أما الحنابلة فيرون إعادة التغريب فى حالة الرجوع على أن يبنى على مدة التغريب السابقة بحيث يعاد تغريبه ليكمل ما بقى من الحول لا ليبدأ حولاً جديدًا (8) .
وإذا زنا المغرَّب فى البلد الذى غرب إليه جلد، وغرب إلى بلد آخر، ودخلت المدة الباقية من التغريب الأول فى مدة التغريب الثانية لتجانس الحدين. وهذا متفق عليه فى مذهب مالك والشافعى وأحمد، ولكن الظاهريين يرون أن
(1) أسنى المطالب [ج4 ص130] ، المغنى [ج10 ص136] .
(2)
المحلى [ج11 ص182] .
(3)
مسافة القصر مختلف عليها، مذهب مالك والشافعى وأحمد وآخرون إلى أن الصلاة تقصر فى أربعة برد وذلك مسيرة يوم بالسير الوسط، وقال أبو حنيفة والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ثلاث أيام، وقال الظاهريون: إن المسافة ميل فأكثر. بداية المجتهد [ج1 ص131] ، المحلى [ج5 ص1] وما بعدها.
(4)
أسنى المطالب [ج4 ص130] ، المهذب [ج2 ص288] ، المغنى [ج10 ص136] .
(5)
أسنى المطالب [ج4 ص130] .
(6)
أسنى المطالب [ج4 ص130] :
(7)
أسنى المطالب [ج4 ص130] .
(8)
الإقناع [ج4 ص252] .