الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تستتم مدة التغريب الأولى ثم تبدأ فى الثانية (1) ؛ لأن القاعدة عندهم أن ما وجب من حد لا يجزئ عنه حد آخر.
وإذا زنا الغريب غُرِّب إلى غير بلده، وإذا زنا فى البلد الذى غرب إليه غرب إلى بلد آخر غير الذى غرب منه، ويرى بعض المالكيين أن سجن الغريب فى البلدة التى زنا فيها يعتبر تغريبًا له، ولكن الشافعيين والحنابلة يشترطون أن يُغرَّب عنها (2) .
* * *
المبحث الثانى
عقوبة المحصن
514 -
تشديد عقوبة المحصن: فرقت الشريعة بين المحصن والبكر فى عقوبة الزنا، وخففت عقوبة البكر وشددت عقوبة المحصن، وجعلت عقوبة البكر الجلد والتغريب وعقوبة المحصن الجلد والرجم، ومعنى الرجم القتل رميًا بالحجارة وما أشبهه.
وعلة التخفيف على البكر هى علة التشديد على المحصن، فالشريعة الإسلامية تقوم على الفضيلة وتحرص على الأخلاق والأعراض والأنساب من التلوث والاختلاط، وتوجب على الإنسان أن يجاهد شهوته ولا يستجيب لها إلا من طريق الحلا وهو الزواج، كما توجب عليه إذا بلغ الباءة أن يتزوج حتى لا يعرض نفسه للفتنة أو يحملها ما لا تطيق، فإذا لم يتزوج وغلبته على عقله وعزيمته الشهوة فعقابه أن يجلد مائة جلدة ويُغرَّب سنة، وشفيعه فى هذه العقوبة الخفيفة تأخيره فى الزواج الذى أدى به إلى الجريمة. أما إذا تزوج فأحصن ثم أتى الجريمة فعقوبته الجلد والرجم، لأن الإحصان يسد الباب على الجريمة، ولأن الشريعة لم تجعل له بعد الإحصان سبيلاً إلى الجريمة، فلم تجعل الزواج أبديًا حتى لا يقع
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، أسنى المطالب [ج4 ص130] ، الإقناع [ج4 ص252] ، المحلى [ج11 ص134] .
(2)
نفس المراجع السابقة.
فى الخطيئة أحد الزوجين إذا فسد ما بينهما، وأباحت للزوجة أن تجعل العصمة فى يدها وقت الزواج، كما أباحت لها أن تطلب الطلاق للغيبة والمرض والضرر والإعسار، وأباحت للزوج الطلاق فى كل وقت، وأحلت له أن يتزوج أكثر من واحدة على أن يعدل بينهن، وبهذا فتحت الشريعة للمحصن أبواب الحلال، وأغلقت دونه باب الحرام، فكان عدلاً وقد انقطعت الأسباب التى تدعو للجريمة من ناحية العقل والطبع أن تنقطع المعاذير التى تدعو لتخفيف العقاب، وأن يؤخذ المحصن بعقوبة الاستئصال التى لا يصلح غيرها لمن استعصى على الإصلاح.
515 -
الرجم: فأما الرجم فعقوبة معترف بها من جميع الفقهاء إلا طائفة الأزارقة من الخوارج لأنهم لا يقبلون الأخبار إذا لم تكن فى حد التواتر، وعندهم أن عقوبة المحصن وغير المحصن هى الجلد مستندين لقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] .
والرجم هو قتل الزانى رميًا بالحجارة وما أشبهها.
والأصل فى الرجم كما بينا (1) هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله، فالرجم إذن سنة قولية وسنة فعلية فى وقت واحد.
516 -
الجلد: والجلد هى العقوبة الثانية للزانى المحصن طبقًا للنصوص: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة"(2) .
لكن الفقهاء يختلفون على ما إذا كانت عقوبة المحصن هى الرجم وحده، أو هى الرجم والجلد معًا.
وحجة القائلين بالجلد مع الرجم أن القرآن جعل الجلد عقوبة أساسية للزنا، وذلك قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، ثم جاءت السنة بالرجم فى حق الثيب، والتغريب فى حق البكر، فوجب الجمع
(1) تراجع الفقرة [508] وما كتبناه عن التطور التشريعى لعقوبة الزنا.
(2)
رواه مسلم وأبو داود والترمذى.
بينهما، وقد فعل ذلك على بن أبى طالب حيث جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحديث الرسول صريح فى الجمع بين الجلد والرجم: "والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة"، وهذا الصريح الثابت بيقين لا يترك إلا بمثله، وإذا كان نص الحديث قد جعل للبكر عقوبتين الجلد والتغريب، وجعل للمحصن عقوبتين الجلد والرجم، وقد سلمنا بعقوبتى البكر، فقد وجب التسليم بعقوبتى الثيب، فيجلد أولاً ثم يرجم ثانيًا، وبهذا الرأى قال بعض الفقهاء، منهم الحسن وإسحاق وابن منذر، وعليه مذهب الظاهريين والشيعة الزيدية، وهو رواية فى مذهب أحمد (1) .
وحجة القائلين بأن العقوبة هى الرجم دون الجلد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا والغامدية ورجم يهوديين، ولم يرد عنه أنه جلد واحدًا منهم، وأن الرسول فى حادث العسيف قال:"اغْدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا اعترفت فارجمها"(2) ، ولم يأمر بجلدها، وكان هذا آخر الأمرين من رسول الله فوجب تقديمه. هذا من جهة النصوص. أما من جهة المعنى فإن القاعدة العامة أن الحد الأصغر ينطوى فى الحد الأكبر؛ لأن الحد إنما وضع لزجر، ولا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم. وأصحاب هذا الرأى هم جمهور الفقهاء. هم يسلمون بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يعتبون الجلد منسوخًا أو داخلاً فى الرجم، ومن أصحاب هذا الرأى مالك وأبو حنيفة والشافعى، وهو رواية عن أحمد (3) .
وهناك رأى ثالث يرى أصحابه أن الثيب إن كان شيخًا جُلد ورُجم، وإن كان شيبًا رُجم ولم يجلد؛ لما روى عن أبى ذر قال:"الشيخان يجلدان ويرجمان، والثيبان يرجمان، والبكران يجلدان وينفيان"(4) ، وعن أبى بن كعب ومسروق مثل
(1) بداية المجتهد [ج2 ص363] ، المغنى [ج10 ص124] ، المحلى [ج11 ص233] وما بعدها، شرح الأزهار [ج4 ص2244] .
(2)
رواه الجماعة.
(3)
بداية المجتهد [ج2 ص363] ، شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص133] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، المغنى [ج10 ص125] .
(4)
المحلى [ج11 ص234] .
هذا (1) . ولعل أساس هذا الرأى أن زنا الشيخ مذموم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر"(2) .
517 -
حالات مختلفة على عقوبتها: وهناك حالات بعينها مختلف على العقوبة الواجبة فيها، ويرجع هذا إما إلى الاختلاف على تكييف هذه الحالات، وإما إلى الاختلاف على النصوص التى تحكمها، وسنتكلم على هذه الحالات فيما يلى:
518 -
حالة اللواط: يترتب على اعتبار اللواط زنًا أن يعاقب عليه بعقوبة الزنا، ولكن القائلين باعتبار اللواط زنًا اختلفوا فى عقوبته:
فقال مالك: إن عقوبة اللواط الرجم مطلقًا سواء الفاعل والمفعول به محصنين أو غير محصنين (3) .
وفى مذهب الشافعى وأحمد ثلاثة آراء (4) :
أولها: أن اللواط حكمه حكم الزنا، فيعاقب اللائط والملوط به بعقوبة الزنا، فمن كان محصنًا رجم ومن لم يكن محصنًا جُلد وغُرِّب. وحجة أصحاب هذا الرأى ما رواه أبو موسى الأشعرى عن النبى صلى الله عليه وسلم:"إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان"(5) ؛ ولأنه حد يوجب بالوطء فاختلف فيه البكر والثيب.
ثانيها: أن اللائط هو الذى يرجم أما الملوط به فلا يرجم وإنما يُجلد ويُغرَّب فى كل الأحوال، سواء كان ذكرًا أو أنثى محصنًا أو غير محصن؛ لأن الإحصان
(1) المحلى [ج11 ص234] .
(2)
رواه مسلم والنسائى.
(3)
شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، مواهب الجليل [ج6 ص296] .
(4)
نهاية المحتاج [ج7 ص403، 404] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] ، المهذب [ج2 ص285] ، المغنى [ج10 ص161] ، الإقناع [ج4 ص253] .
(5)
أخرجه البيهقى وأبو داود والطيالسى، وراجع: نيل الأوطار [ج7 ص30] .
جعل للقُبُل وهو يؤتى فى الدُبر ولا يتصور فى الدبر إحصان. وعلى هذا فالملوط به إذا اعتبر فعله زنًا فهو زنًا من غير محصن ما دام الإحصان لم يجعل للدبر.
ثالثها: أن عقوبة اللائط والملوط به القتل فى كل حال، أى سواء كان محصنًا أو غير محصن. وفى قتله رأيان: رأى يرى القتل رجمًا. ورأى يرى القتل بالسيف. وحجة القائلين بالقتل ما رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"(1) ، وقد كان إطلاق القتل فى الحديث حجة لمن قال بأن القتل يكون بالسيف فى كل حال. وفسر آخرون القتل بالرجم لأنه وطء يجب به الحد، فكان القتل بالرجم كما هو الحال فى الزنا.
ويرى أبو حنيفة أن اللواط ليس زنًا فلا يعاقب عليه بعقوبة الزنا وإنما يعاقب عليه بعقوبة تعزيرية، ولا مانع عند أبى حنيفة من أن يحبس حتى يموت أو يتوب، وإذا اعتاد اللواط يقتل سياسة لا حدًا، أما أبو يوسف ومحمد فيريان اللواط زنًا يعاقب عليه بعقوبة الزنا فيجلد من لم يحصن ويرجم المحصن (2) .
وفى مذهب الشيعة الزيدية رأيان: أحدهما أن حكم اللواط هو حكم الزنا، فيرجم المحصن، ويجلد من لم يحصن. والثانى أن يقتل الفاعل والمفعول به فى كل حال (3) .
أما الظاهريون فيرون اللواط شيئًا آخر غير الزنا، فهو معصية يُعزَّر عليها (4) .
519 -
حالة وطء المحارم: يرى جمهور الفقهاء أن من وطئ محرمًا عوقب بعقوبة الزانى فيرجم المحصن ويجلد غير المحصن ويغرب. ولكن بعضهم يرى - وهو رأى لأحمد - (5) أن من وطئ ذات محرم حده القتل فى كل حال؛
(1) رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه والبيهقى.
(2)
شرح فتح القدير [ج4 ص150] ، بدائع الصنائع [ج7 ص24] .
(3)
شرح الأزهار [ج4 ص336] .
(4)
المحلى [ج11 ص285] .
(5)
المغنى [ج10 ص153] .
لما رواه البراء قال: "لقيت عمى ومعه الراية فقلت: إلى أين تريد؟ قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل ينكح امرأة أبيه من بعده أن اضرب عنقه وآخذ ماله"(1)، ولما رواه الجورجانى وابن ماجه بإسنادهما عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من وقع على ذات محرم فاقتلوه"(2) .
ويرى الظاهريون أن من وقع على امرأة أبيه بعقد أو بغير عقد فإنه يقتل محصنًا كان أو غير محصن، وبخمس ماله، وساء كانت أمه أو غير أمه، دخل بها أبوه أو لم يدخل. وأما من وقع على غير امرأة أبيه من سائر ذوات محارمه بصهر أو رضاع فهو زان وعليه حد الزنا فقط (3) ، وعلة ذلك أن امرأة الأب ورد فيها نص صريح هو حديث البراء، أما من عداها من المحارم فلم يصح فى شأنهن نص خاص، فمن وقع على واحدة منهن كان زانيًا طبقًا للنصوص العامة.
520 -
حالة وطء البهائم: لا يعتبر وطء البهائم والحيوانات على العموم زنًا عند مالك وأبى حنيفة والظاهريين، وإنما هو معصية فيها التعزير. وكذلك الحكم فى تمكين المرأة حيوانًا من نفسها. وعلى هذا الرأى الراجح فى مذهب الشافعى وأحمد (4) .
أما الرأى المرجوح فى مذهب الشافعى وأحمد فيرى أصحابه أن الفعل يعتبر زنًا ولكنه يعاقب عليه بالقتل فى كل الأحوال (5)، لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوه البهيمة"(6) .
وبعض الشافعيين يعتبر الفعل زنًا قياسًا على إتيان الرجل المرأة، ويجعلون
(1) رواه الخمسة، راجع: نيل الأوطار [ج7 ص28] .
(2)
راجع: نيل الأوطار [ج7 ص31] .
(3)
المحلى [ج11 ص256] .
(4)
شرح الزرقانى [ج8 ص78] ، شرح فتح القدير [ج4 ص152] ، المحلى [ج11 ص386، 388] .
(5)
المغنى [ج10 ص163] ، نهاية المحتاج [ج7 ص405] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] .
(6)
رواه أحمد وأبو داود والترمذى.