المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الركن الأول: الخروج على الإمام - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي - جـ ٢

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌الباب الأولفى الجنايات

- ‌الفصل الأولالقتل

- ‌المبحث الأولالقتل العمد

- ‌الركن الأول: القتيل آدمى حي

- ‌الركن الثانى: القتل نتيجة لفعل الجاني

- ‌الركن الثالث: أن يقصد الجانى إحداث الوفاة

- ‌المبحث الثانيالقتل شبه العمد

- ‌الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه

- ‌الركن الثانى: أن يتعمد الجانى الفعل

- ‌الركن الثالث: أن يكون بين الفعل والموت رابطة السببية

- ‌المبحث الثالثالقتل الخطأ

- ‌الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه

- ‌الركن الثانى: الخطأ

- ‌الركن الثالث: أن يكون بين الخطأ والموت رابطة السببية

- ‌المبحث الرابععقوبات القتل العمد

- ‌الفصل الثانيالجناية على ما دون النفس

- ‌ القسم الأول: إبانة الأطراف وما يجرى مجراها:

- ‌ القسم الثانى: إذهاب معانى الأطراف مع بقاء أعيانها:

- ‌ القسم الثالث: الشجاج:

- ‌ القسم الرابع: الجراح:

- ‌ القسم الخامس: ما لا يدخل تحت الأقسام السابقة:

- ‌الركن الأول: فعل يقع على جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته:

- ‌الركن الثانى: أن يكون الفعل متعمدًا:

- ‌الفصل الثالثالجناية على ما هو نفس من وجه دون وجهأى الجناية على الجنين أو الإجهاض

- ‌الباب الثانى فى الحدود

- ‌الكتاب الأولالزنا

- ‌الفصل الأولأركان جريمة الزنا

- ‌الركن الأول: الوطء المحرم

- ‌الركن الثانى: تعمد الوطء

- ‌الفصل الثانىعقوبة الزنا

- ‌المبحث الأولعقوبة البكر

- ‌المبحث الثانىعقوبة المحصن

- ‌المبحث الثالثالإحصان

- ‌الفصل الثالثالأدلة على الزنا

- ‌المبحث الأولالشهادة

- ‌المبحث الثانىالإقرار

- ‌الكتاب الثانىالقذف

- ‌المبحث الأولأركان جريمة القذف

- ‌الركن الأول: الرمى بالزنا أو نفى النسب:

- ‌الركن الثانى: إحصان المقذوف:

- ‌الركن الثالثالقصد الجنائى

- ‌المبحث الثانىدعوى القذف

- ‌المبحث الثالثالأدلة على القذف

- ‌المبحث الرابععقوبة القذف

- ‌الكتاب الثالثالشرب

- ‌المبحث الأولأركان الجريمة

- ‌الركن الأول: الشرب

- ‌الركن الثانى: القصد الجنائى

- ‌عقوبة الشرب

- ‌المبحث الثانيالأدلة على الشرب

- ‌الكتاب الرابعالسرقة

- ‌المبحث الأولأركان السرقة

- ‌الركن الأول: الأخذ خفية

- ‌الركن الثانى: أن يكون المأخوذ مالاً

- ‌الركن الثالث: أن يكون مملوكًا للغير

- ‌الركن الرابع: القصد الجنائي

- ‌المبحث الثانيأدلة السرقة

- ‌المبحث الثالثما يترتب على ثبوت السرقة

- ‌الكتاب الخامسالحرابة

- ‌الكتاب السادسالبغي

- ‌الركن الأول: الخروج على الإمام

- ‌الركن الثانى: أن يكون الخروج مغالبة

- ‌الركن الثالث: القصد الجنائى (قصد البغي)

- ‌الكتاب السابعالردة

- ‌الركن الأول: الرجوع عن الإسلام

- ‌الركن الثانى: القصد الجنائي

- ‌مراجع الكتاب

الفصل: ‌الركن الأول: الخروج على الإمام

‌الركن الأول: الخروج على الإمام

662-

يشترط لوجود جريمة البغى الخروج على الإمام، والخروج المقصود هو مخالفة الإمام والعمل لخلعة، أو الامتناع عما وجب على الخارجين من حقوق. ويستوى أن تكون هذه الحقوق لله أى مقررة لمصلحة الجماعة، أو للأشخاص أى مقررة لمصلحة الأفراد. فيدخل تحتها كل حق تفرضه الشريعة للحاكم والمحكوم، وكل حق للجماعة على الأفراد، وكل حق للقرد على الفرد، فمن امتنع عن أداء الزكاة فقد امتنع عن حق وجب عليه، ومن امتنع عن تنفيذ حكم متعلق بحق الله كحد الزنا، أو متعلق بحق الأفراد كالقصاص، فقد امتنع عن حق وجب عليه، ومن امتنع عن طاعة الإمام فقد امتنع عن الحق الذى وجب عليه، وهكذا.

ولكن من المتفق عليه أن الامتناع عن الطاعة فى معصية ليس بغياَ وإنما هو واجب على كل مسلم لأن الطاعة لم تفرض إلا فى معروف ولا تجوز فى معصية، فإذا أمر الإمام بما يخالف الشريعة فليس لأحد أن يطيعه فيما أمر إذ الطاعة لا تجب إلا فيما تجيزه الشريعة (1) .

والخروج قد يكون على الإمام وهو رئيس الدولة الأعلى وقد تكون على من ينوب عنه، فمن امتنع عن طاعة الإمام فى معصية فليس باغيًا لأن حق الأمر واجب الطاعة وكلاهما مقيد غير مطلق، فليس لآمر أن يأمر بما يخالف الشريعة وليس لمأمور أن يطيعه فيما يخالف الشريعة. وذلك ظاهر من قوله تعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، ومن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق"، وقوله: "من أمركم من

(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص430.

ص: 675

الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه"، وقوله: "لا طاعة فى معصية الله إنما الطاعة فى المعروف"، وقد احتاط الفقهاء لهذا فى تعريف البغاة.

والإمام: هو رئيس الدولة الإسلامية الأعلى أو من ينوب عنه من سلطان أو وزير أو حاكم أو غير ذلك من المصطلحات، ويعبر بعض الفقهاء عن رئيس الدولة الإسلامية الأعلى بالإمام الذى ليس فوقه إمام، وعمن دونه بالإمام مطلقًا إذا كان مستقلاً بجزء من الدولة الإسلامية، وبنائب الإمام إذا كان ينوب عن الإمام الأعظم.

والإمامة فرض من فروض الكفاية فى الشريعة الإسلامية كالقضاء، إذ لابد للأمة من إمام يقيم الدين وينصر السنة وينصف المظلومين ويستوفى الحقوق ويضعها موضعها. ولا خلاف على هذا بين الفقهاء. ويشترط فى الإمام شروط لا محل لذكرها هنا أهمها أن يكون مسلمًا ذكرًا مكلفًا عدلا (1) ، ولا يعتبر الخروج على الإمام قبل أن تثبت إمامته، وتثبت الإمامة بأربع طرق:

1-

باختيار أهل الحل والعقد من العلماء والفقهاء وأرباب الحل والعقد، كما حدث فى بيعة أبى بكر على أثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

2-

باختيار الإمام السابق لمن يليه، كما حدث فى اختيار أبى بكر لعمر حيث عهد إلى عمر بقوله:"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة فى الحال التى يؤمن فيها الكافر ويتقى فيها الفاجر، إنى استعملت عليكم عمر بن الخطاب فإن برَّ وعَدَل فذلك علمى به ورأيى فيه، وإن جار وبدَّل فلا علم لى بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون".

ويصح أن يعهد الإمام لولده، كما فعل معاوية وغيره من الخلفاء الأمويين والعباسيين وغيرهم.

(1) أسنى المطالب ج4 ص108، كشاف القناع ج4 ص94، المحلى لابن حزم ج9 ص359 وما بعدها، شرح الأزهار ج4 ص518.

ص: 676

3-

يجعل الإمام السابق الأمر شورى فى جماعة معينة يختارون الإمام الجديد من بينهم أو يختاره أهل الحل والعقد، كما فعل عمر حيث ترك الأمر شورى فى ستة من الصحابة فاختاروا من بينهم عثمان.

4-

بالتغلب والقهر حيث يظهر المتغلب على الناس ويقهرهم حتى يذعنوا له ويدعونه إمامًا فتثبت له الإمامة وتجب طاعته على الرعية، ومثل ذلك ما حدث من عبد الملك بن مروان حين خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعًا وكرهًا ودعوه إمامًا.

وإذا ثبتت الإمامة بإحدى هذه الطرق كان الخروج على الإمام بغيًا، أما إذا لم تكن الإمامة ثابتة بإحدى هذه الطرق فلا يعتبر الخارج باغيًا ولا الخروج بغيًا (1) .

ومع أن العدالة شرط من شروط الإمامة إلا أن الرأى الراجح فى المذاهب الأربعة ومذهب الشيعة الزيدية هو تحريم الخروج على الإمام الفاسق الفاجر ولو كان الخروج للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لأن الخروج على الإمام يؤدى عادة إلى ما هو أنكر مما فيه وبهذا يمتنع النهى عن المنكر لأن من شرطه أن لا يؤدى الإنكار إلى ما هو أنكر من ذلك، إلى الفتن وسفك الدماء وبث الفساد واضطراب البلاد وإضلال العباد وتوهين الأمن وهدم النظام. وإذا كانت القاعدة أن للأمة خلع الإمام وعزلة بسبب يوجبه كالفسق إلا أنهم يرون أن لا يعزل إذا استلزم العزل الفتنة. أما الرأى المرجوح فيرى أصحابه أن للأمة خلع وعزل الإمام بسبب يوجبه وأنه ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، فإذا وجد من الإمام ما يوجب اختلال أموال المسلمين وانتكاس أمور الدين كان للأمة خلعه كما كان لهم تنصيبه لانتظام شئون الأمة وإعلائها، ويرى بعض هذا

(1) كشاف القناع ج4 ص94، 95، أسنى المطالب ج4 ص105 وما بعدها، حاشية ابن عابدين ج3 ص428، شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص60.

ص: 677

الفريق انه إذا أدى الخلع لفتنة احتمل أدنى الضررين (1) .

ويرى الظاهريون أن الخروج على الإمام محرم إلا أن يكون جائرًا، فإن كان جائرًا فقام عليه مثله أو دونه قوتل مع القائم لأنه منكر زائد ظهر، فإن قام عليه أعدل منه وجب أن يقاتل مع القائم. وإذا كانوا جميعًا أهل منكر فلا يقاتل من أحد منهم إلا أن يكون أحدهم أقل جورًا فيقاتل معه من هو أجور منه (2) .

وعلى هذا الرأى بعض المالكيين، فسحنون يقول بوجوب قتال أهل العصبية إن كان الإمام عدلاً وقتال من قام عليه، فإن كان غير عدل فإن خرج عليه عدل وجب الخروج معه ليظهر دين الله وإلا وسعك الوقوف إلا أن يريد نفسك ومالك فادفعه عنهما ولا يجوز لك دفعه عن الظالم. ويرى الشيخ عز الدين بن عبد السلام أن فسق الأئمة قد يتفاوت ككون فسق أحدهم بالقتل وفسق الآخر بانتهاك حرمة الإبضاع وفسق الآخر بالتعرض للأموال فيقوم هذا على التعرض للدماء والإبضاع، فإن تعذر يقوم المتعرض للإيضاع على المتعرض للدماء، فإن قيل: أيجوز القتال مع أحد هؤلاء لإقامة ولايته وإدامة نصرته وهو معصية، قلنا نعم وفقًا لما بين مفسدتى الفسوقيين، وفى هذا وقفة وإشكال من جهة كونه إعانة على معصية ولكن درء ما هو أشد من تلك المعصية يجوزه. ونحوه خروج فقهاء القيروان مع أبى يزيد الخارجى على الثالث من بنى عبيد لكفره وفسق أبى يزيد والكفر أشد (3) . ومجموع رأى سحنون والشيخ عز الدين هو رأى الظاهريين.

وعلى الرغم من أن الرأى الراجح فى مذهب مالك هو تحريم الخروج على الإمام الجائر فإن من المتفق عليه فى المذهب أنه لا يحل للإمام الجائر أن يقاتل

(1) شرح الزرقانى ج8 ص60، حاشية ابن عابدين ج3 ص429، أسنى المطالب ج4 ص109، حاشية الشهاب الرملى ج4 ص111، كشاف القناع ج4 ص95، الأحكام السلطانية الغراء ص514، تتمة الروض النضير ج4 ص6، 9، مواهب الجليل ج6 ص277، نيل الأوطار ج7 ص84.

(2)

المحلى ج9 ص372.

(3)

حاشية الشيبانى ج8 ص60.

ص: 678

الخارجين عليه لفسقه وجوره، وعليه قبل كل شيء أن يترك فسقه ثم يدعوهم لطاعته فإن لم يجيبوه كان له أن يقاتلهم (1) .

ومن المتفق عليه فى كل المذاهب الشرعية أن قتال الخارجين لا يجوز قبل سؤالهم عن سبب خروجهم، فإذا ذكروا مظلمة أو جورًا وكانوا على حق وجب على الإمام أن يرد المظالم ويرفع الجور الذى ذكروا ثم يدعوهم للطاعة وعليهم أن يرجعوا للطاعة فإن لم يرجعوا قاتلهم، والأصل فى ذلك قوله تعالى:{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] . فأمر الله تعالى بالإصلاح ثم بالقتال فلا يجوز أن يقدَّم القتال على الإصلاح ولا يكون الإصلاح إلا برد المظالم ورفع الجور (2) .

والخارجون على ثلاثة أنواع عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد:

1-

الخارجون بلا تأويل سواء كانوا ذوى منعة أو شوكة أو لا منعة لهم.

2-

الخارجون بتأويل ولكن لا مَنَعة لهم.

3-

الخارجون بتأويل وشوكة، وهم قسمان:

(أ) الخوارج ومن يذهبون مذهبهم ممن يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويَسْبُون نسائهم ويكفِّرون بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(ب) الخوارج بتأويل ولهم منعة وشوكة ممن لا يذهبون مذهب الخوارج ولا يستحلون دماء المسلمين ولا يستبيحون أموالهم ونساءهم (3) .

والتأويل المقصود هو ادعاء سبب للخروج والتدليل عليه، ويستوى أن

(1) شرح الزرقانى، وحاشية الشيبانى ج8 ص60.

(2)

شرح فتح القدير ج4 ص409، أسنى المطالب ج4 ص114، كشاف القناع ج4 ص96، شرح الزرقانى ج8 ص60، 61، المحلى ج11 ص99.

(3)

شرح فتح القدير ج4 ص48، 49، المغنى ج10 ص48، 52، أسنى المطالب ج4 ص111، 113.

ص: 679

يكون التأويل صحيحًا أو فاسدًا لا يقطع بفساده، ويعتبر التأويل فاسدًا إذا أولوا الدليل على خلاف ظاهره ولو كانت الأدلة على التأويل ضعيفة كادعاء أهل الشام فى عهد على بأنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم، مع أن الادعاء صادر ممن لا يعتد بقولهم وشهادتهم.

وكتأويل بعض مانعى الزكاة فى عهد أبى بكر بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن كانت صلاته سكنًا لهم، طبقًا لقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة:103] .

وكادعاء الخوارج الذين خرجوا من عسكر على بعد صفين أنه كفر ومن معه من الصحابة حيث حكم الرجال فى أمر الحرب الواقعة بينهم وبين معاوية وقالوا إنه حكَّم الرجال فى دين الله والله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ} [يوسف:40] ، وتلك كبيرة ومرتكب الكبيرة فى رأيهم كافر، فإذا كان التأويل مقطوعًا بفساده فلا يعتبر أن هناك تأويلاً ما (1) .

والمنعة والشوكة هى الكثرة والقوة، كثرة عدد الخارجين أو قوتهم بحيث يمكن معها مقاومة تدعوه إلى احتمال كلفة من بذل مال وإعداد رحال ونصب قتال ونحو ذلك ليردهم إلى الطاعة. ويعتبرون فى مذهب أحمد النفر اليسير كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم ممن لا منعة لهم ولو كانوا مسلحين يحسنون القتال (2) .

ويشترط الشافعيون لوجود المنعة والشوكة أن يكون فى الخارجين مطاع ولو لم يكن إمامًا عليهم يسمعون له ويطيعون؛ لأنه الشوكة لمن لا مطاع لهم، فمهما بلغ عدد الخارجين ومهما كانت قوتهم فلا شوكة ما لم يكن فيها مطاع (3) .

(1) حاشية ابن عابدين ج4 ص427، نهاية المحتاج ج7 ص382، 383، كشاف القناع ج4 ص96.

(2)

حاشية ابن عابدين ج3 ص428، نهاية المحتاج ج7 ص382، كشاف القناع ج4 ص96، المغنى ج10 ص49، أسنى المطالب ج4 ص111.

(3)

نهاية المحتاج ج7 ص383.

ص: 680

وحكم الخارجين بلا تأويل والخارجين بتأويل ولا شوكة لهم عند أبى حنيفة وأحمد هو حكم قطَّاع الطريق فيعاملون على هذا الأساس. وكتب الحنابلة والأحناف تجعل حكمهم حكم قطاع الطريق دون تفصيل مما قد يوهم بأنهم يقرون كذلك دون قيد ولا شرط. أما حكمهم عند الشافعى فهو حكم غيرهم من أهل العدل ويحاسبون على ما يأتونه من أفعال: فإن كونت جريمة الحرابة عوقبوا على الحرابة، وإن كونت جرائم أخرى عوقبوا عليها. ويلاحظ أن لا فرق بين الحنفيين والحنابلة وبين الشافعيين فى هذه المسألة؛ لأن الأحناف والحنابلة وإن اعتبروهم محاربين إلا أنهم لا يعاقبونهم بعقوبة الحرابة إلا إذا توفرت شروط الحرابة وإن سموهم قطاعًا بإطلاق: لأن الخارجين إذا لجأوا للقوة فلن يفعلوا إلا أن يخيفوا الطريق ويأخذوا الأموال ويقتلوا من تعرض لهم فتكون جرائمهم بطبيعة الحال وظروف الخروج حرابة، فكأنهم نظروا إلى واقع الحال فى إعطائهم حكم المحاربين، أما الشافعيون فنظروا إلى الأصل وقالوا إنهم من أهل العدل فإذا ارتكبوا جريمة وتوفرت شروطها أخذوا بها، وهكذا لا نجد ثمة فرق بين الفريقين وإن اختلفوا فى تعبيراتهم (1) .

وإذا كان الرأى الراجح فى مذهب أحمد أن المتأول بلا شوكة يعتبر محاربًا فإن بعض فقهاء المذهب لا يشترط الشوكة مع التأويل، فلا فرق عنده بين الكثير والقليل ما دام الخروج أساسه التأول ويعتبر المتأول بلا شوكة باغيًا لا محاربًا، وحجة القائلين بالشوكة أن ابن ملجم - لما جرح عليًا قال على للحسن: إن برئت رأيت رأيى وإن مت فلا تمثلوا به - لم يثبت لفعله حكم البغاة كما أن إثبات حكم البغاة للعدد اليسير يشجع على الخروج ويؤدى إلى إتلاف أموال الناس؛ لأن البغاة يسقط عنهم ضمان ما أتلفوه (2) . وحجة الذين لا يشترطون الشوكة أن الخروج أساسه التأول

(1) شرح فتح القدير ج4 ص48، 49، بدائع الصنائع ج7 ص140، أسنى المطالب ج4 ص48، كشاف القناع ج4 ص96.

(2)

المغنى ج10 ص49.

ص: 681

لا الشوكة وعقيدة الخارج لا عدد من يشاركونه تلك العقيدة، فلا معنى لاشتراط الشوكة.

أما الخارجون بتأويل وشوكة فهم البغاة عند أبى حنيفة والشافعى سواء رأوا رأى الخوارج أو لم يروه، ولا تعتبر الخوارج عندهما كفرة ولا فسقة وإنما بغاة لا غير (1) .

واختلف الحنابلة فى الخوارج الذين يكفِّرون بالذنب ويكفِّرون عثمان وعليًا وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويرون سبى نسائهم، والبعض يراهم بغاة لا غير، وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وجمهور الفقهاء، والبعض يراهم بغاة وفسقة فى وقت واحد، ويرون استتابتهم فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم، وهذا هو رأى مالك وسنذكره فيما بعد. على أن أبا حنيفة يعتبر أيضًا الخوارج فسقة باعتقادهم ولكنه يعاملهم معاملة البغاة ولا ينظر إلى الفسق إلا فى قبول شهادتهم وقضائهم (2) .

ويرى البعض الآخر - ورأيهم الراجح فى كذهب أحمد - أن الخوارج مرتدون فحكمهم حكم المرتدين لا حكم البغاة ومن ثم تباح دمائهم وأموالهم، فإن تحيزوا فى مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار، وإن كانوا فى قبضة الإمام استتابهم كاستتابة المرتدين فإن تابوا وإلا قتلوا حدًا وكانت أموالهم فيئًا لا يرثهم ورثتهم المسلمون. وحجة أصحاب هذا الرأى ما رواه أبو سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يخرج قوم يحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يَمْرُقُون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة، ينظر من النصل فلا يرى شيئًا، وبنظر فى القدح فلا يرى شيئًا، وينظر فى الريش فلا يرى شيئًا، ويتمادى فى الفُوق".

(1) شرح فتح القدير ج4 ص48، 49، بدائع الصنائع ج8 ص140، نهاية المحتاج ج7 ص382، 385، أسنى المطالب ج4 ص111، 113، المهذب ج2 ص234، 238.

(2)

شرح فتح القدير ج4 ص416.

ص: 682

وفى رواية أخرى: "يخرج قوم فى آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإن لقيتهم فاقتلهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة".

أما القائلون بأنهم بغاة أو بغاة فسقة فيحتجون بأنه لم يقل بتكفيرهم أحمد من الفقهاء، وإنما الذى قال به بعض فقهاء الحديث لا كلهم، ويفسرون عبارة "يتمادى فى الفوق" بأن الحديث لم يكفرهم لأنهم علقوا من الإسلام بشيء بحيث يشك فى خروجهم منه، ويحتجون أيضًا بما روى عن على أنه لم يقاتل أهل النهروان إلا بعد أن قتلوا عبد الله بن خباب وأنه لم يبدرهم بقتال، وقال لأصحابه: لا تبدروهم بقتال، وبعث إليهم: أقيدونا بعبد الله بن خباب. قالوا: كلنا قتله، فحينئذ استحل قتالهم لإقرارهم على أنفسهم بما يوجب القتل، ولو كانوا كفارًا لبدرهم بالقتال ولما طالب بالقَوَد من قتلة عبد الله بن خباب. كذلك يحتجون بما ذكره ابن عبد البر عن على أنه سئل عن أهل النهروان: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل فما هم؟ قال: هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا، وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم. وأخيرًا فإنهم يحتجون بأن عليًا لما جرحه ابن ملجم قال للحسن: أحسنوا إساره؛ فإن عشتُ فأنا ولى دمي، وإن مت فضربة كضربتي، أى أنه أشار بالقصاص منه ولو كان كافرًا لَمَا اقتص منه لأن الكافر مباح الدم بكفره (1) .

ويختلف مذهب مالك عن المذاهب الثلاثة فيمن يعتبره باغيًا، فالباغى عند مالك هو كل من امتنع عن الطاعة فى غير معصية بمغالبة ولو تأويلاً، فكل من خرج بمغالبة فهو باغٍ سواء كان متأولاً أو غير متأول، ذا منعة وشوكة أو ليس له شوكة ومنعة، ويجوز أن يكون الباغى فردًا واحدًا ويجوز أن يكون البغى من أكثر من واحد، والخوارج الذين يكفِّرون بعض الصحابة ومَنْ على

(1) المغنى ج10 ص48- 52، كشاف القناع ج4 ص96.

ص: 683

غير رأيهم من المسلمين ويستحلون الدماء والأموال وسبى النساء، هم عند مالك بغاة وليسوا كفرة وإنما هم فسقة فى رأيه ولهذا إذا ظفر بهم الإمام العدل أن يستتيبهم وغيرهم من أهل الأهواء (1) .

ومذهب الظاهريين على أن البغاة قسمان لا ثالث لهما، قسم خرجوا على تأويل فى الدين فأخطأوا فى تأويلهم كالخوارج وما جرى مجراهم من سائر الأهواء المخالفة للحق، وقسم أرادوا لأنفسهم دنيا فخرجوا على إمام الحق أو على من هو فى السيرة مثلهم، فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق أو إلى أخذ مال من لقوا أو سفك الدماء هملاً انتقل حكمهم إلى حكم المحاربين وهم ما لم يفعلوا ذلك فى حكم البغاة. والمتأولون قسمان: قسم أخطأ فى التأويل وله عذر فى تأويله كأصحاب معاوية، وقسم من المتأولين لا عذر له فى تأويله كمن قام رأى الخوارج ليخرج الأمر على قريش أو ليرد الناس إلى القول بإبطال الرجم أو تكفير أهل الذنوب أو استقراض المسلمين أو قتل الأطفال والنساء وإظهار القول بإبطال القدر أو إلى منع الزكاة، فهؤلاء وأمثالهم لا عذر لهم بالتأويل الفاسد لأنها جهالة تامة. والقائمون لغرض الدنيا أو للعصبية كما فعل يزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان فى القيام على ابن الزبير، وكما فعل مروان بن محمد فى القيام على يزيد بن الوليد، فهؤلاء لا يعذرون لأنهم لا تأويل لهم أصلاً وعملهم بغى مجرد (2) .

أما من قام يدعو إلى أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو إلى إظهار القرآن والسنن والحكم بالعدل فليس بغيًا بل الباغى من خالفه، فإذا أريد بظلم فمنع نفسه فإنه على حق سواء أراد الإمام أو غيرة (3) .

ويرى الظاهريون أن البغاة ليسوا فقط من خرجوا على الإمام وإنما الباغى

(1) مواهب الجليل ج6 ص277، 278، شرح الزرقانى، وحاشية الشيبانى ج8 ص60، 61، تبصرة الحكام ج2 ص362.

(2)

المحلى ج11 ص97، 98.

(3)

المحلى ج11 ص98.

ص: 684

هو من بغى على أخيه المسلم، فيجوز أن يكون الباغى سلطانًا ويجوز أن يكون فردًا، فإذا كان الباغى هو السلطان كان على المسلمين أن يقاتلوا الباغى حتى يفئ إلى أمر الله، وعلى هذا يصح أن يكون الباغى فردًا ويصح أن يكون جماعة (1) .

وخلاصة رأى الظاهريين أن كل من خرج مغالبة على الإمام بتأويل أو غير تأويل فهو باغٍ سواء كان فرد أو جماعة ما لم يكن خروجه بحق فإنه ليس باغيًا.

والباغى عند الشيعة الزيدية هو من يظهر أنه محق والإمام مبطل وحاربه أو عزم على المحاربة وله فئة أو منعة، أو قام بما أمره للإمام (2) .

فالبغى لا يكون إلا من جماعة يكون لهم منعة وعدد وتأويل، وهذا يتفق مع مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد إلى حد كبير. كما يتفق مذهب الظاهريين مع مذهب مالك، ولا يعتبر الخارج بحق باغيًا عند بعض المالكيين وأبى حنيفة والظاهريين (3) ، وعلى مثل هذا الرأى الشيعة الزيدية (4) .

أما عند الشافعى وأحمد وبعض المالكيين فيعتبر الخارج باغيًا ولو كان خارجًا بحق وسواء كان على صواب أو على خطأ؛ لأن الخروج ليس هو الطريق الصحيح الذى يؤدى لإقرار الحق وتصحيح الخطأ، فإذا لم يكونوا بغاة فيما يطلبون فهم بغاة فى اختيار الوسيلة التى يريدون بها الوصول إلى حقهم لأنها تؤدى إلى الفساد وزعزعة أركان الدولة، ولأنه من المحرم عليهم الخروج على من تثبت إمامته، لأن من ثبتت إمامته تجب طاعته. على أن فى مذهب الشافعى من يرى أن الخروج على الإمام الجائر ليس بغيًا إذا كان الخروج لإزالة جور أو ظلم، ولكن رأيهم مرجوح فى المذهب (5) .

ويعتبر الخروج بحق فى مذهب أبى حنيفة وعند القائلين به من المالكيين إذا

(1) المحلى ج11 ص99.

(2)

الروض النضير ج4 ص331.

(3)

مواهب الجليل ج6 ص477، شرح الزرقاني، وحاشية الشيبانى ج8 ص60، شرح فتح القدير ج4 ص408، المحلى ج11 ص98، 99، حاشية ابن عابدين ج3 ص426.

(4)

تتمة شرح الروض النضير ج4 ص8، 9.

(5)

أسنى المطالب، وحاشية الشهاب الرملى ج4 ص111، كشاف القناع ج4 ص96.

ص: 685

كان الخوارج قد فعلوا ذلك لظلم ظلمهم به الإمام وعليه أن يترك الظلم وينصفهم، ولا ينبغى للناس أن يعينوا الإمام عليهم؛ لأن فى ذلك إعانة على الظلم وتعاون على الإثم والعدوان. ويرون فى مذهب مالك أن على الناس أن يعينوا الخارجين على الإمام، بينما يرى الحنفية أن ليس للناس إعانة الخارجين لأن فيه إعانة على خروجهم على الإمام. أما إذا كان الخروج بدعوى الحق والولاية فقالوا الحق معنا فهم أهل بغى عند أبى حنيفة، وعلى كل من يقوى على القتال أن ينصر الإمام على هؤلاء الخارجين. أما المالكيون فيرون نصر الخارجين إذا كان الخارج عليه عدلاً أو كان أقل فسقًا وجورًا ما دام الإمام جائرًا فاسقًا (1) .

ويعتبر الخروج بحق فى مذهب الظاهريين إذا كان لظلم ظلمهم به الإمام أو كان للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فتعرض لهم الإمام، أو خرج على الإمام الجائر إمام عدل أو أقل فسقًا وجورًا (2) .

ويفترق مذهب الظاهريين عن المذاهب الأربعة ومذهب الشيعة الزيدية فى اعتبار السلطان باغيًا، فهذه المذاهب لا تعتبر السلطان باغيًا ولو كان جائرًا وإنما البغاة هم الخارجون على الإمام. وقد رأينا أن بعض الفقهاء يعتبرون الخارجين بغاة سواء كانوا على حق فى خروجهم أو كانوا على غير الحق، بينما يراهم البعض بغاة إذا كانوا على غير الحق فقط فإن كانوا على حق فليسوا بغاة، على أن القائلين بهذا يرون هم ومخالفوهم أن الإمام ليس له أن يقاتل الخارجين قبل أن يسألهم عن سبب خروجهم، فإذا ادعوا مظلمة أو شبهة كان على الإمام أن يرد المظالم ويكشف الشبهات ثم يدعوهم بعد ذلك للطاعة، فإن لم يعودوا قاتلهم لأنهم يصبحون بامتناعهم عن العودة للطاعة بغاة ولو كانوا قد خرجوا فى أول الأمر بحق (3) .

* * *

(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص437، شرح الزرقانى، وحاشية الشيبانى ج8 ص60، مواهب الجليل ج6 ص277.

(2)

المحلى ج11 ص97، 98.

(3)

أسنى المطالب ج4 ص114، كشاف القناع ج4 ص96، المغنى ج10 ص53، حاشية ابن عابدين ج4 ص427، 429، شرح فتح القدير ج4 ص409، شرح الزرقانى، وحاشية الشيبانى ج8 ص60.

ص: 686