الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الركن الثانى: القصد الجنائى
584 -
يتوفر القصد الجنائى عند الفاعل كلما أقدم على الشرب عالمًا أنه يشرب خمرًا أو مسكرًا، فإن شرب المادة المسكرة وهو لا يعلم أن كثيرها مسكر فلا حد عليه ولو سكر فعلا. كذلك لا حد إذا شرب مادة مسكرة وهو يظنها مادة أخرى لا تسكر، ولا عقاب على الفاعل فى هذه الحالة ولو تبين أن الشرب كان نتيجة لخطأ جسيم أو لعدم الاحتياط؛ لأن الجريمة عمدية فيشترط فيها تعمد الفعل.
ويعتبر القصد الجنائى غير متوفر إذا كان الجانى يجهل تحريم الشرب، ولو كان يعلم أن المشروب مسكر، ولكن لا يقبل الجهل ممن نشأ فى بلاد المسلمين لأن نشأته بينهم تجعل العلم بالتحريم مفروضًا فيه، أما من نشأ فى بلاد غير إسلامية فيقبل منه الادعاء بالجهل إذا ثبت أنه يجهل حقيقة تحريم الشرب، ويرى مالك جواز الاحتجاج بجهل العقوبة (1) .
ويقبل الادعاء بجهل التحريم لكن لا يقبل منه الادعاء بجهل العقوبة (2) .
عقوبة الشرب
585 -
يعاقب على الشرب بالجلد ثمانين جلدة عند مالك وأبى حنيفة، وهو رواية عن أحمد. ويرى الشافعى وقوله رواية أخرى عن أحمد أن الحد أربعون جلدة فقط، ولكن لا بأس عنده من ضرب المحدود ثمانين جلدة إذا رأى الإمام ذلك، فيكون الحد أربعين وما زاد عليه تعزير. ويعاقب على السكر عند أبى حنيفة بنفس عقوبة الشرب فالحد عنده مقرر للسكر والشرب معًا.
(1) شرح الزرقانى ج8 ص 113.
(2)
بدائع الصنائع ج7 ص 40، شرح فتح القدير ج4 ص 183، نهاية المحتاج ج8 ص 10، شرح الزرقانى ج8 ص 113، المغنى ج10 ص 331، الإقناع ج4 ص 267.
سبب اختلاف الفقهاء فى مقدار الحد أن القرآن لم يحدد العقوبة وأن الروايات لا تقطع بإجماع الصحابة على رأى فى حد الخمر، فالقرآن وإن كان قد حرم الخمر فإنه لم يعين لها حدًا، كما أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يعين للخمر حدًا فكان يضرب فيها القليل والكثير ولكنه لم يزد عن أربعين، وجاء أبو بكر وضرب فى الخمر أربعين، وروى عن أبى بكر أنه سأل أصحاب الرسول كم بلغ ضربه لشرب الخمر، فقدوره بأربعين وروى عن أبى سعيد الخدرى وعن على أن النبى صلى الله عليه وسلم ضرب فى الخمر أربعين. فلما جاء زمن عمر رضى الله عنه تحير أمر الناس على شرب الخمر، فاستشار عمر الصحابة فى حد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين، فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبى عبيدة بالشام. وروى أن عليًا رضى الله عنه قال فى المشورة: نرى أن نجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هَذَى، وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون. وقد روى عن معاوية بن حصين بن المنذر الرقاش أنه قال: شهدت عثمان رضى الله عنه وقد أُتى بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أنه رآه يشرب الخمر وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلى: أقم عليه الحد، فقال على لعبد الله ابن جعفر: أقم عليه الحد فأخذ السوط وجلده، وعلىُّ يعد إلى أن بلغ أربعين قال حسبك، جلد النبى صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة وهذا أحب إلىَّ.
وكذلك روى عن على ٍّ رضى الله عنه أنه قال: ما كنت لأقيم حدًا على أحد فيموت فأجد فى نفسى منه شيئًا إلا صاحب الخمر ولو مات وديته؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا.
فمن رأى من الفقهاء أن حد الخمر ثمانون اعتبر أن الصحابة أجمعوا على هذا، والإجماع مصدر من المصادر التشريعية، ومن رأى أن الحد أربعون احتج بما فعله على من جلد الوليد بن عقبة أربعين جلدة، وقوله: جلد النبى أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة، وهذا أحب إلى. ويرى أصحاب هذا الرأى
أن فعل النبى صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز تركه بفعل غيره، وأن الإجماع لا ينعقد على ما يخالف فعل النبى وأبى بكر وعلى، ويحملون الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز إذا رآه الإمام (1) .
والأصل فى الحدود أنها لا تقبل عفواً ولا صلحاً ولا إسقاطاً إذا كانت من حقوق الله الخالصة، ولما كان حد الشرب من حقوق الله الخالصة فليس للأفراد أو الجماعة إسقاطه أو العفو عنه، على أننا إذا اعتبرنا رأى الشافعى فى أن الحد أربعون جلدة فقط وأن مازاد على ذلك تعزير فإنه يجوز لولى الأمر أن يعفو عن العقوبة المعتبرة تعزيراً كلها أو بعضها؛ لأن الشريعة تجعل لولى الأمر أن يعفو عن العقوبة فى جرائم التعزير، أما الجزء المعتبر حداً فلا يمكن إسقاطه ولا العفو عنه.
ومن المتفق عليه أن العقوبة لا تنفذ على السكران حتى يفيق؛ لأن العقوبة جعلت للتأديب والزجر، والسكران لا يشعر تماماً بما يحدث له (2) .
ويرى البعض أنه إذا جلد قبل الإفاقة أجزأ واعتد به، ويرى البعض أن يعاد الحد ولا يقيد بالتنفيذ الحادث وقت السكر، ويفرق البعض بين ما إذا كان عنده ميز أم لا، فإن كان عنده ميز وقت الجلد ولو كان قبل صحوه، وأما إن كان طافحاً أعيد عليه الحد، وإن لم يحس فى أوله وأحس فى أثنائه حسب له من أول إحساسه بالضرب (3) .
586-
التداخل: إذا تعددت جرائم الشرب والسكر قبل تنفيذ الحكم فى إحداها تداخلت عقوبات هذه الجرائم، سواء حكم بها أولم يحكم بها ما دامت
(1) المغنى ج10 ص329، شرح فتح القدير ج4 ص185، أسنى المطالب ج4 ص160، شرح الزرقانى ج8 ص113.
(2)
شرح فتح القدير ج4 ص158، شرح الزرقانى ج8 ص113، أسنى المطالب ج4 ص160، المغنى ج10 ص335.
(3)
شرح الزرقانى ج8 ص113، أسنى المطالب ج4 ص160.
كلها قد وقعت قبل تنفيذ إحدى العقوبات واكتفى فيها بتنفيذ عقوبة واحدة، فإذا وقعت جريمة أخرى بعد تنفيذ العقوبة وجبت لها عقوبة خاصة.
والتداخل يكون من ثلاثة وجوه:
أولاً: تتداخل عقوبات الشرب كما تتداخل عقوبات السكر المتعدد إلى الوقت الذى تنفذ فيه إحداها.
ثانياً: تتداخل عقوبة السكر مع عقوبة الشرب، فلو سكر ذمى ثم أسلم قبل تنفيذ العقوبة وشرب تداخل حد السكر مع حد الشرب، وكذلك الحال عند الحنفية فإن حد السكر يتداخل مع حد الشرب، فلو سكر شخص ثم شرب قبل تنفيذ عقوبة السكر اكتفى بتنفيذ عقوبة واحدة.
ثالثاً: يتداخل حد الشرب مع حد القتل سواء كان القتل من حدود الله أو حقاً لآدمى، كما لو شرب وزنا وهو محصن أو شرب وقتل شخصاً، فلا تنفذ إلا عقوبة القتل التى تجب عقوبة الشرب؛ لأن كل عقوبة يقصد بها التأديب والزجر ولا حاجة مع القتل للزجر ولا فائدة فى تنفيذ ما دون القتل، وإذا انعدمت الفائدة التى شرع الحد من أجلها أصبح تنفيذه غير مشروع.
وهذا هو رأى مالك وأبى حنيفة وأحمد (1) .
أما الشافعى فيرى أن عقوبة القتل لا تجب ما دونها ويجب تنفيذ العقوبات كلها، فمثلاً إذا شرب شخص وسرق وزنا وهو محصن جلد للشرب وقطع للسرقة ثم قتل بعد ذلك (2) .
ولا يتداخل حد الشرب عند أبى حنيفة وأحمد مع أى عقوبة أخرى إلا مع عقوبة القتل، ولكن مالكاً يرى أن حد الشرب يتداخل مع القذف لأن موجبهما واحد، والقاعدة عنده: تتداخل الحدود كلما اتحدت موجباتها (3) .
587-
كيفية تنفيذ الجلد: ينفذ الجلد على الوجه الذى سبق ذكره فى تنفيذ الجلد فى الزنا، ويرى البعض أن المحدود فى الخمر لا يجرد من ملابسه لأن
(1) شرح الزرقانى ج8 ص108، شرح فتح القدير ج4 ص209، بدائع الصنائع ج7 ص63، المغنى ج10 ص321 وما بعدها.
(2)
أسنى المطالب ج4 ص157.
(3)
شرح الزرقانى ج8 ص108.