المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الركن الثالث: القصد الجنائى (قصد البغي) - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي - جـ ٢

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌الباب الأولفى الجنايات

- ‌الفصل الأولالقتل

- ‌المبحث الأولالقتل العمد

- ‌الركن الأول: القتيل آدمى حي

- ‌الركن الثانى: القتل نتيجة لفعل الجاني

- ‌الركن الثالث: أن يقصد الجانى إحداث الوفاة

- ‌المبحث الثانيالقتل شبه العمد

- ‌الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه

- ‌الركن الثانى: أن يتعمد الجانى الفعل

- ‌الركن الثالث: أن يكون بين الفعل والموت رابطة السببية

- ‌المبحث الثالثالقتل الخطأ

- ‌الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه

- ‌الركن الثانى: الخطأ

- ‌الركن الثالث: أن يكون بين الخطأ والموت رابطة السببية

- ‌المبحث الرابععقوبات القتل العمد

- ‌الفصل الثانيالجناية على ما دون النفس

- ‌ القسم الأول: إبانة الأطراف وما يجرى مجراها:

- ‌ القسم الثانى: إذهاب معانى الأطراف مع بقاء أعيانها:

- ‌ القسم الثالث: الشجاج:

- ‌ القسم الرابع: الجراح:

- ‌ القسم الخامس: ما لا يدخل تحت الأقسام السابقة:

- ‌الركن الأول: فعل يقع على جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته:

- ‌الركن الثانى: أن يكون الفعل متعمدًا:

- ‌الفصل الثالثالجناية على ما هو نفس من وجه دون وجهأى الجناية على الجنين أو الإجهاض

- ‌الباب الثانى فى الحدود

- ‌الكتاب الأولالزنا

- ‌الفصل الأولأركان جريمة الزنا

- ‌الركن الأول: الوطء المحرم

- ‌الركن الثانى: تعمد الوطء

- ‌الفصل الثانىعقوبة الزنا

- ‌المبحث الأولعقوبة البكر

- ‌المبحث الثانىعقوبة المحصن

- ‌المبحث الثالثالإحصان

- ‌الفصل الثالثالأدلة على الزنا

- ‌المبحث الأولالشهادة

- ‌المبحث الثانىالإقرار

- ‌الكتاب الثانىالقذف

- ‌المبحث الأولأركان جريمة القذف

- ‌الركن الأول: الرمى بالزنا أو نفى النسب:

- ‌الركن الثانى: إحصان المقذوف:

- ‌الركن الثالثالقصد الجنائى

- ‌المبحث الثانىدعوى القذف

- ‌المبحث الثالثالأدلة على القذف

- ‌المبحث الرابععقوبة القذف

- ‌الكتاب الثالثالشرب

- ‌المبحث الأولأركان الجريمة

- ‌الركن الأول: الشرب

- ‌الركن الثانى: القصد الجنائى

- ‌عقوبة الشرب

- ‌المبحث الثانيالأدلة على الشرب

- ‌الكتاب الرابعالسرقة

- ‌المبحث الأولأركان السرقة

- ‌الركن الأول: الأخذ خفية

- ‌الركن الثانى: أن يكون المأخوذ مالاً

- ‌الركن الثالث: أن يكون مملوكًا للغير

- ‌الركن الرابع: القصد الجنائي

- ‌المبحث الثانيأدلة السرقة

- ‌المبحث الثالثما يترتب على ثبوت السرقة

- ‌الكتاب الخامسالحرابة

- ‌الكتاب السادسالبغي

- ‌الركن الأول: الخروج على الإمام

- ‌الركن الثانى: أن يكون الخروج مغالبة

- ‌الركن الثالث: القصد الجنائى (قصد البغي)

- ‌الكتاب السابعالردة

- ‌الركن الأول: الرجوع عن الإسلام

- ‌الركن الثانى: القصد الجنائي

- ‌مراجع الكتاب

الفصل: ‌الركن الثالث: القصد الجنائى (قصد البغي)

ولم أعثر على رأى مالك فى الاستعانة على البغاة بالذميين، وإن كان رأيه فى الجهاد أن لا يستعان بمشرك إلا فى خدمة الجيش المحارب فأولى ألا يستعان به فى محاربة مسلم.

* * *

‌الركن الثالث: القصد الجنائى (قصد البغي)

664-

يشترط لوجود البغى أن يتوفر لدى الخارج القصد الجنائى، والقصد المطلوب توفره هو القصد الجنائى العام؛ أى قصد الخروج على الإمام مغالبة، فإذا كان الخارج لم يقصد من فعله الخروج على الإمام أو لم يقصد المغالبة فهو ليس باغيًا.

ويشترط أن يكون الخروج على الإمام بقصد خلعه أو عدم طاعته أو الامتناع من تنفيذ ما يجب على الخارج شرعًا، فإن كان الخارج قد خرج امتناعًا عن المعصية فهو ليس باغيًا، وإذا ارتكب الباغى جرائم قبل المغالبة أو بعد انتهائها فليس من الضرورى أن يتوفر فيها قصد البغى لأنه لا يعاقب عليها باعتباره باغيًا وإنما باعتباره عادلاً، فيشترط أن يتوفر فى كل جريمة منها القصد الجنائى الخاص بها ليعاقب عليها بعقوبتها الخاصة.

* * *

مسئولية الباغى الجنائية والمدنية

665-

تختلف مسئولية الباغى الجنائية والمدنية باختلاف الحالات التى يكون فيها، فمسئوليته قبل المغالبة وبعدها تختلف عنها فى حالة المغالبة.

666-

مسئولية الباغى قبل المغالبة وبعدها: يسأل الباغى مدنيًا وجنائيًا عن كل ما يقع منه من الجرائم قبل المغالبة باعتباره مجرمًا عاديًا، وكذلك عن جرائمه التى تقع بعد انتهاء المغالبة، فإذا قتل اقتص منه إذا توفرت شروط

ص: 697

القصاص، وإذا أخذ مالاً خفية عوقب باعتباره سارقًا إذا توفرت شروط السرقة، وإذا غصب مالاً أو أتلفه عوقب بالعقوبة المقررة للغصب والإتلاف، وإذا امتنع عن تنفيذ ما يجب عليه عوقب بالعقوبة المقررة للامتناع، وعليه الضمان العادى فى كل الأحوال إذا أتى ما يوجب الضمان كالسرقة والغصب والإتلاف.

667-

مسئولية الباغى أثناء المغالبة: الجرائم التى تقع من البغاة أثناء المغالبة والحرب إما أن تكون مما تقتضيه حالة الحرب وإما أن لا تقتضيها حالة الحرب.

فأما ما اقتضته حالة الحرب كمقاومة رجال الدولة وقتلهم والاستيلاء على البلاد وحكمها والاستيلاء على الأموال العامة وجبايتها وإتلاف الطرق والكبارى وإشعال النار فى الحصون ونسف الأسوار والمستودعات وغير ذلك مما تقتضيه طبيعة الحرب، فهذه الجرائم لا يعاقب عليها بعقوبتها العادية، وتدخل جميعًا فى جريمة البغي، والشريعة تكتفى فى البغى بإباحة دماء البغاة وإباحة أموالهم بالقدر الذى يقتضيه ردعهم والتغلب عليهم، فإذا ظهرت الدولة عليهم وألقوا سلاحهم عصمت دماؤهم وأموالهم وكان لولى الأمر أن يعفو عنهم أو أن يعزرهم على بغيهم لا على الجرائم والأفعال التى أتوها أثناء خروجهم، فعقوبة البغى بعد التغلب على البغاة هى التعزير، أما عقوبة البغى فى حالة المغالبة والحرب فهى القتال إن جاز أن نسميه عقوبة وما يتبعه من قتل وجرح وقطع، والواقع أن القتال لا يعتبر عقوبة وإنما هو إجراء دفاعى لدفع البغاة وردهم إلى الطاعة ولو كان عقوبة لجاز قتل البغاة بعد التغلب عليهم لأن العقوبة جزاء على ما وقع، ولكن من المتفق عليه أنه إذا انتهت حالة المغالبة امتنع القتال والقتل. والخلاف منحصر فى قتل الأسير والإجهاز على الجريح، حيث يجيزه البعض كما قدمنا عند حالة المغالبة، ولا يجيزه البعض الآخر، فإذا انتهت حالة المغالبة فالباغى معصوم الدم لأن البغى هو الذى أباح دمه، ولا بغى إذا لم تكن مغالبة.

أما الجرائم التى تقع من الباغى أثناء المغالبة ولا تقتضيها طبيعة المغالبة فهذه

ص: 698

تعتبر جرائم عادية ويعاقب عليها بعقوبتها العادية ولو أنها وقعت أثناء الخروج والمغالبة كشرب الباغى الخمر مثلاً.

668-

مسئولية الباغى المدنية: ليس على أهل البغى ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفوس وأموال إذا اقتضيت إتلافه ضرورة الحرب، فأما ما لم تكن هناك ضرورة لإتلافه فى حالة الحرب وما أتلف فى غير حالة الحرب فعلى البغاة ضمانة بلا خلاف.

أما الأموال التى لم تتلف أو تلفت تلفًا جزئيًا فعلى البغاة ردها لأربابها وعليهم ضمان التلف الجزئى إذا لم تكن ضرورة الحرب هى التى اقتضت هذا التلف الجزئى. وهذا هو رأى أبى حنيفة وأحمد والرأى الصحيح هو مذهب الشافعي، على أن فى مذهب الشافعى رأيًا بتضمين البغاة كل ما أتلفوه من نفس ومال فى حالة الحرب وفى غير حالة الحرب لأنهم أتلفوه بعدوان. على أن القائلين بهذا الرأى لا يرون القصاص فى القتلى لأنهم يسقطونه بالشبهة فيلزمون البغاة بديات من قتلوا (1)، ويحتج القائلون بتضمين البغاة بأن أبا بكر قال لأهل الردة: تدون قتلانا ولا ندى قتلاكم، ولأنها نفوس وأموال أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح، فوجب الضمان كالذى تلف فى غير حالة الحرب، ويحتج القائلون بعدم الضمان بأن الفتنة الكبرى كانت بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أن لا يقام الحد على رجل استحل فرجًا حرامًا بتأويل القرآن، ولا يقتل رجل سفك دمًا حرامًا بتأويل القرآن، ولا يغرم ما أتلفه بتأويل القرآن، ولأن البغاة طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ فلا تضمن ما أتلفته على الأخرى كأهل العدل، ولأن تضمينهم يقضى إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلا يشرع كتضمين أهل الحرب، فأما قول أبى بكر رضى الله عنه فقد رجع عنه ولم يمضه فإن عمر قال له: أما أن يدوا قتلانا فلا، فإن قتلانا قتلوا فى سبيل الله تعالى على ما أمر الله، فوافقه أبو بكر ورجع إلى قوله ولم ينقل أنه غرم أحدًا شيئًا، على

(1) المهذب ج2 ص236، أسنى المطالب ج1 ص113، المغنى ج10 ص61، شرح فتح القدير ج4 ص414.

ص: 699

أنه لو وجب التغريم فى حق المرتدين لم يلزم مثله فى حق البغاة؛ فإن أولئك كفار لا تأويل لهم وهؤلاء مسلمون لهم تأويل سائغ فلا يصح إلحاقهم بهم (1) . ويرى الشيعة الزيدية أن البغاة لا ضمان عليهم (2) .

ويرى مالك عدم تضمين الباغى ولو كان مليئًا سواء أتلف نفوسًا أو أموالاً بشرطين: أولهما: أن يكون الباغى متأولاً، فإن لم يكن متأولاً ضمن، الثانى: أن يكون الإتلاف حدث حال البغى واقتضته ضرورة المغالبة (3) .

ويسمى الباغى غير المتأول فى مذهب مالك معاندًا، ولكنهم لا يعتبرونه معاندًا إلا إذا كان خارجًا على عادل، فإن خرج على غيره فليس معاندًا ولو كان غير متأول وكان حكمه حكم المتأول.

أما الظاهريون، فالبغاة عندهم ثلاثة أصناف: صنف تأولوا تأويلاً يخفى وجهه على كثير من أهل العلم كمن تعلق بآية خصصتها آية أو بحديث خصصه آخر أو نسخه نص آخر، فهؤلاء معذورون، حكمهم حكم الحاكم المجتهد يخطئ فيقتل مجتهدًا أو يتلف مالاً مجتهدًا أو يقضى فى فرج خطأ مجتهدًا ولم تقم عليه الحجة فى ذلك، ففى الدم دية على بيت المال لا على الباغى ولا على عائلته ويضمن المال كل من أتلفه، وهكذا أيضًا من تأول تأويلاً خرق به الإجماع بجهالة ولم تقم عليه الحجة ولا بلغته، وأما من تأول تأويلاً فاسدًا لا يعذر فيه، لكن خرق الإجماع أى شيء كان ولم يتعلق بقرآن ولا سنة فعليه القود فى النفس وما دونها، والحد فيما أصاب من حدود الله، وضمان ما استهلك من مال، وهكذا من قام فى طلب دنيا مجردًا بلا تأويل ومن قام عصبية (4) .

وإذا غلب البغاة على بلد فجبوا الخراج والزكاة والجزية وأقاموا الحدود وقع ذلك موقعه، فإذا ظهر أهل العدل بعد على البلد وظفروا بأهل البغى لم يطالبوا بشيء مما جبى ولم يرجع به على من أُخذ منه، وهذا هو رأى مالك وأبى

(1) المغنى ج10 ص62.

(2)

نيل الأوطار ج7 ص79.

(3)

شرح الزرقانى ج8 ص62.

(4)

المحلى ج11 ص107.

ص: 700

حنيفة والشافعى وأحمد، وحجتهم أن فى عدم الاعتداد بذلك إضرارًا بالرعية، على أنه إذا كان قد بقى من الأموال التى جبيت شيء فى يد البغاة استولى عليها الإمام لصرفها فى مصارفها (1) . ويقصر مالك عدم الضمان على الباغى المتأول دون غيره.

ويرى الظاهريون أنه لا محل أن يكون حاكمًا إلا من ولاه الإمام الحكم، ولا أن يكون آخذًا للحدود إلا من ولاه الإمام ذلك، ولا أن يكون مُصَدِّقًا أو جابيًا إلا من ولاه الإمام ذلك، فكل من أقام حدًا أو أخذ صدقة أو قضى قطيعة وليس ممن جعل الله ذلك له بتقديم الإمام، فلم يحكم كما أمر الله، ولا أقام الحد كما أمره الله تعالى، ولا أخذ الصدقة كما أمره الله تعالي؛ فإن لم يفعل ذلك كما أُمر فلم يفعل شيئًا من ذلك بحق وإذا يفعله بحق فقد فعله بباطل، وإذا فعله بباطل فقد تعدى:{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" فإذا هو ظالم، فالظالم لا حكم له إلا رده ونقضه. وواضح من هذا أن من أخذ صدقة فعليه ردها لأنه أخذها بغير حق فهو متعد فعليه ضمان ما أخذ، إلا أن يوصله إلى الأصناف المذكورة فى القرآن فإذا أوصلها فقد تأدت الزكاة إلى أهلها. وصح من هذا أن كل حد أتاه فهو مظلمة لا يعتد به وتعاد الحدود ثانية ولابد وتؤخذ الدية من مال من قتلوه فورًا وأن يفسخ كل حكم حكموه ولابد.

وليس أدل على ذلك مما رواه عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى العسر والسير والمنشط والمكره، وعلى أَثَرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم". وعن عرفجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون هَنَاتٌ وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جمع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان"، فصح أن لهذا

(1) شرح الزرقانى ج8 ص62، شرح فتح القدير ج4 ص413، أسنى المطالب ج4 ص113، المغنى ج10 ص68.

ص: 701

الأمر أهلاً لا يحل لأحدهم أن ينازعهم إياه وأن تفريق هذه الأمة بعد اجتماعها لا يحل، وصح أن المنازعين فى الملك والرياسة مريدون تفريق جماعة هذه الأمة وأنهم منازعون أهل الأمر أمرهم، فهم عصاة بكل ذلك، وإذ هم عصاة فكل حكم حكموه وكل زكاة قبضوها وكل حد أقاموه كل ذلك منهم ظلم وعدوان، ومن الباطل أن تنوب معصية الله عن طاعته وأن يجزى الظلم عن العدل وأن يقوم الباطل مقام الحق (1) .

ويرى الشيعة الزيدية أن للإمام أن يضمن البغاة ما اقتضوه من الحقوق التى إلى الإمام من واجبات أو خراج أو مظالم أو نحو ذلك (2) .

وإذا أقام البغاة قاضيًا يصلح للقضاء فحكمه حكم أهل العدل، ينفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام أهل العدل ويرد منه ما يرد، فإن كان ممن يستحل دماء أهل العدل وأموالهم لم يجز قضاؤه لأنه ليس بعدل، وهذا ما يراه مالك والشافعى وأحمد وأبو حنيفة، على أن مالكًا يشترط أن يكون البغاة متأولين، وما يثبت عند قاضى البغاة يثبت عند قاضى أهل العدل من حقوق ولو لم يكن قد حكم به، وإذا سمع شهودًا فكتب بها كتابًا صح كتابة إذا توفرت فى الشهود العدالة سواء كانوا من البغاة أم لا، ولكن أبا حنيفة لا يقبل شهادة البغاة مطلقًا لفسقهم (3) .

مسئولية من يعين البغاة: قد يستعين البغاة بغيرهم من الذميين أو المحاربين، ولكل صنف حكمه.

669-

الاستعانة بالذميين: يفرق مالك بين ما إذا كان الباغى متأولاً أو معاندًا والباغى المعاند عنده هو غير المتأول، فإن استعان البغاة المتأولين بذميين فحكم الذميين هو حكم البغاة الذين أعانوهم؛ يسألون جنائيًا عما يسألون

(1) المحلى ج11 ص111، 112.

(2)

شرح الأزهار ج4 ص557.

(3)

شرح الزرقانى ج8 ص62، شرح فتح القدير ج4 ص416، أسنى المطالب ج4 ص112، 113، المغنى ج10 ص70.

ص: 702

عنه ويضمنون مدنيًا ما يضمنونه. وإذا استعان البغاة المعاندون بذميين اعتبر الذميون ناقضين لعهدهم وحلت دمائهم وأموالهم كالحربيين سواء بسواء.

ويعتبر مالك هذه الحالة بأن يكون المعاند خارجًا على الإمام العدل، فإن كان الخروج على غيره فلا يعتبر الخارج معاندًا ولو كان غير متأول والذمى معه لا يعتبر ناقضًا (1) .

ويرى أبو حنيفة أنه لو استعان أهل البغى بأهل الذمة فقاتلوا معهم لم يكن ذلك منهم نقضًا للعهد كما أن هذا الفعل من أهل البغى ليس نقضًا للإيمان، فالذين انضموا إليهم من أهل الذمة لم يخرجوا من أن يكونوا ملتزمين حكم الإسلام فى المعاملات وأن يكونوا من أهل الدار فحكمهم حكم البغاة مسئوليتهم جميعًا واحدة من الناحيتين الجنائية والمدنية (2) .

وفى مذهب الشافعى وأحمد رأيان: أولهما: أن إعانة الذميين بالبغاة تنقض عهدهم كما لو انفردوا بقتال المسلمين، والثانى: أن عهدهم لا ينتقض لأن أهل الذمة لا يعرفون الحق من الباطل فيكون ذلك شبهة لهم. ويترتب على القول بنقض العهد أن الذميين يصبحون كأهل الحرب، ويترتب على القول بعدم النقض أن يكون حكمهم حكم أهل البغى فى قتل قتيلهم والكف عن مدبرهم وأسيرهم وجريحهم، إلا أن أصحاب هذا الرأى يرون تضمين الذميين ضمانًا تاماُ فيسألون عن جرائمهم حال القتال وغيره، فإن قتلوا أو جرحوا أو أتلفوا سئلوا جنائيًا عن كل ذلك وعليهم ضمان المال المتلف ورد القائم سواء أتلف فى حال الحرب واقتضت ضرورة الحرب إتلافه أم لا. ويعللون التفرقة بين البغاة والذميين بأن البغاة لهم تأويل سائغ والذميين لا تأويل لهم، ولأن إسقاط المسئولية عن المسلمين قصد منه عدم تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة ولا يخشى تنفير الذميين عن الطاعة لأن تأمينهم مشروط بالطاعة. والقائلون بنقض العهد يرون أن إكراه البغاة الذميين على معاونتهم يمنع من نقض العهد، وأن اعتقاد الذميين بأنهم ملزمون

(1) شرح الزرقانى ج8 ص62.

(2)

شرح فتح القدير ج4 ص415.

ص: 703

بمعاونة البغاة يمنع أيضًا من نقض العهد (1) .

670-

الاستعانة بأهل الحرب: إذا استعان البغاة بأهل الحرب فإما أن يكونوا مستأمنين أو غير مستأمنين:

فإن كانوا مستأمنين فأعانوهم نقضوا عهدهم بالإعانة وصاروا كأهل الحرب غير المستأمنين لأنهم تركوا شرط الأمان وهو الكف عن المسلمين، فإن فعلوا ذلك مكرهين لم ينتقض عهدهم.

وأن كانوا غير مستأمنين فاستعان بهم البغاة وأمَّنوهم أو عقدوا لهم ذمة لم يصح من ذلك شيء؛ لأن شرط الأمان الأساسى هو الكف عن المسلمين والبغاة يشترطون عليهم قتال المسلمين فلا يصح الأمان، ولأهل العدل يقاتلوهم كمن لم يؤمِّنوه سواء. وحكم أسيرهم حكم أسير سائر أهل الحرب قبل الاستعانة بهم، فأما أهل البغى فلا يجوز لهم قتلهم لأنهم آمنوهم فلا يجوز لهم الغدر بهم (2) .

أما إذا عقد البغاة ذمة لحربيين أو عاهدوهم ولم يشترطوا عليهم أن يعينوهم على أهل العدل فعقود أهل البغى نافذة فى حق أهل العدل؛ لأن البغاة مسلمون وأمان المسلم إذا كان فى حقه فهو نافذ على جميع المسلمين، فإذا استعانوا بهم فأعانوهم انتقض العهد فى حق أهل العهد.

ويرون فى مذهب أبى حنيفة أن العادل يجوز له أن يؤمن الباغي، فإذا أمن رجل من أهل العدل رجلاً من أهل البغى جاز أمانه لأنه ليس أعلى شقاقًا من الكافر وهناك يجوز فكذا هنا، ولأنه قد يحتاج المناظرة ليثوب ولا يأتى ذلك ما لم يأمن كل الآخر، لكن إذا أمن ذمى يقاتل مع أهل العدل باغيًا فلا يجوز أمانه (3) .

(1) المغنى ج10 ص72، المهذب ج2 ص237.

(2)

شرح فتح القدير ج4 ص416، المغنى ج10 ص71، المهذب ج2 ص237، أسنى المطالب ج4 ص115.

(3)

شرح فتح القدير ج4 ص416.

ص: 704

ولكن غيرهم يرى أن أمان أهل البغى بأيديهم متى تركوا القتال حرمت دمائهم وكانوا إخواننا، وما داموا مقاتلين باغين فلا يحل لمسلم إعطاؤهم الأمان على ذلك، فالأمان والإجارة هنا هدر ولغو، وإنما الأمان والإجارة للكافر الذى يحل للإمام قتله إذا أسروه واستبقاؤه لا فى مسلم إن ترك بغيه كان هو ممن يعطى الأمان ويجير، ولو أن أحدًا من أهل البغى أجار كافرًا جازت إجارته كإجارة غيره ولا فرق: لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجير على المسلمين أدناهم"(1) .

* * *

(1) المحلى ج11 ص117.

ص: 705