الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة السادسة:
يلزم في إثبات الصفات التخلي عن محذورين عظيمين:
أحدهما: التمثيل.
والثاني: التكييف
(1).
فأما التمثيل فهو: اعتقاد المثبت أن ما أثبته من صفات الله - تعالى - مماثل لصفات المخلوقين، وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "[الشورى: 11]، وقوله:" أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ "[النحل: 17]، وقوله:" هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً "[مريم: 65]، وقوله:" وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ "[الإخلاص].
وأما العقل فمن وجوه:
الأول: أنه قد علم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تباينًا في الذات؛ وهذا يستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات؛ لأن صفة كل موصوف تليق به، كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المتباينة في الذوات، فقوة البعير - مثلًا - غير قوة الذَّرَّة، فإذا ظهر التباين بين المخلوقات مع اشتراكها في الإمكان
(1) مجموع الفتاوى (5/ 195، 257 وَ 6/ 515 وَ 33/ 177)، الحموية (ص 271)، الرسالة الصفدية (133)، شرح الرسالة التدمرية (ص 53)، توضيح مقاصد العقيدة الواسطية (33).
والحدوث، فظهور التباين بينها وبين الخالق أجلى وأقوى.
الثاني: أَنْ يُقَال: كيف يكون الرب الخالق الكامل من جميع الوجوه مشابهًا في صفاته للمخلوق المربوب الناقص المفتقر إلى مَنْ يكمله؟! وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق؟! فإن تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصًا.
الثالث: أننا نشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؛ فنشاهد أن للإنسان يدًا ليست كيد الفيل، وله قوة ليست كقوة الجمل، مع الاتفاق في الاسم، فهذه يد وهذه يد، وهذه قوة وهذه قوة، وبينهما تباين في الكيفية والوصف، فعلم بذلك أن الاتفاق في الاسم لا يلزم منه الاتفاقُ في الحقيقة.
والتشبيه كالتمثيل؛ وقد يفرق بينهما بأن التمثيل التسوية في كل الصفات، والتشبيه التسوية في أكثر الصفات، لكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "[الشورى: 11].
وأما التكييف: فهو أن يعتقد المثبت أن كيفية صفات الله - تعالى - كذا وكذا، من غير أن يقيدها بمماثل؛ وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: " وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً "[طه: 110]، وقوله:" وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً "[الإسراء: 36]، ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا؛ لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون
تكييفنا قفوًا لما ليس لنا به علم، وقولًا بما لا يمكننا الإحاطة به.
وأما العقل:
1 -
فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته، أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله عز وجل فوجب بطلان تكييفها.
2 -
وأيضًا فإننا نقول: أَيُّ كيفيةٍ تقدرها لصفات الله - تعالى -؟ إِنَّ أَيَّ كيفيةٍ تقدرها في ذهنك، فالله أعظم وأجل من ذلك. وأي كيفية تقدرها لصفات الله - تعالى - فإنك ستكون كاذبًا فيها؛ لأنه لا علم لك بذلك.
وحينئذ يجب الكف عن التكييف تقديرًا بالجنان، أو تقريرًا باللسان، أو تحريرًا بالبنان.
ولهذا لما سئل مالك - رحمه الله تعالى - عن قوله تعالى: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى "[طه: 5] كيف استوى؟ أطرق رحمه الله برأسه حتى علاه الرُحَضاء (العرق) ثم قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)(1)، وروي عن شيخه ربيعة أيضًا:(الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول)(2).
(1) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 441) وغيره؛ وانظر: الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في الاستواء للشيخ عبد الرزاق العباد.
(2)
أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 442) وغيره.
وانظر لمعنى هذه العبارة المأثورة عن السلف: شرح الرسالة التدمرية (151 - 152)، وتوضيح مقاصد العقيدة الواسطية (125).
وقد مشى أهل العلم بعدهما على هذا الميزان. وإذا كان الكيف غير معقول ولم يرد به الشرع فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي فوجب الكف عنه.
فالحذر الحذر من التكييف أو محاولته، فإنك إن فعلت وقعت في مفاوز لا تستطيع الخلاص منها، وإن ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنه من نزغاته، فالجأ إلى ربك فإنه معاذك، وافعل ما أمرك به فإنه طبيبك، قال الله تعالى:" وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "[فصلت: 36].
التعليق
معلوم أن مذهب أهل السنة وسط بين أهل التشبيه وأهل التعطيل، لأنهم يقولون: الواجب وصفه - تعالى - بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله إثباتًا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل.
فالمثبت للصفات يجب عليه الحذر من مذهب أهل التشبيه وأهل التكييف؛ حتى يكون مذهبه بريئًا من التشبيه والتكييف.
والتشبيه هو اعتقاد الشيءِ شبيهًا للشيء الآخر ، فيقول: هذا مثل هذا ، ولأن المشبهة يقولون: له سمع كسمعي، وبصر كبصري، ويد كيدي ، وهؤلاء ومن سلك هذا المسلك لم يكن مثبتًا على الحقيقة فإنه لم يثبت لله صفاته التي تليق به ، فوقع في الأمرين في التعطيل والتشبيه ، فعطل الرب عن صفات كماله التي تليق به ، ووصفه بما يجب تنزيهه عنه ، ولهذا يقول أهل العلم: إن كل مشبهٍ معطل، وكل معطل مشبه (1)؛
(1) مجموع الفتاوى (13/ 164، 36/ 115، 125)، شرح الرسالة التدمرية (60)، الصواعق المرسلة (1/ 244)؛ وانظر: معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات (66 وما بعدها)، وما سيأتي في (ص 58 تنبيه).
يعني فيه تلازم بين التشبيه والتعطيل ، لكن المشبه أصل مذهبه الإثبات مع التشبيه ولكن لازم قوله التعطيل.
والتكييف هو: بيان كيفية الصفة ، وفي الحقيقة أن التكييف يستلزم التشبيه، لأن الإنسان لم يكيف شيئًا إلا في حدود معلوم يتخيله على نحو ما يَعرف ، المشبه يقول: سمعه كسمعي، وبصره كبصري ، لكن المكيف يقول: إنه يسمع هكذا، وينزل هكذا؛ فيصف الهيئة والكيفية ، فالتكييف يستلزم التشبيه ، ولهذا النصوص الدالة على نفي التشبيه تتضمن نفي التكييف كقوله:" ولم يكن له كفوا أحد"[الإخلاص]، وقوله:" ليس كمثله شيء "[الشورى: 11].
والتشبيه نوعان: تشبيه الخالق بالمخلوق، وتشبيه المخلوق بالخالق؛ والتشبيه المراد هنا هو: تشبيه الخالق بالمخلوق.
وكل من التشبيهين باطل؛ فلا يجوز تشبيه الخالق بالمخلوق، وذلك بوصف الخالق بصفات وخصائص المخلوق؛ ولا تشبيه المخلوق بصفات الخالق (1).
لكن الكلام الذي ذكره الشيخ منصبٌ على تشبيه الخالق بالمخلوق؛ كقول المشبهة: له سمع كسمعي، وبصر كبصري إلى آخره؛ فمن وصف الله بخصائص المخلوق فقد شبه الخالق بالمخلوق.
ولكن أكثر ما وقعت فيه البشرية هو: تشبيه المخلوق بالخالق؛ فالمشركون كلهم مشبهون لآلهتهم بالخالق حيث أثبتوا لمعبوداتهم
(1) قال ابن القيم في الداء والدواء (ص 313): حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به. هذا هو (التشبيه) في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصفَ الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله - سبحانه -، فَعَكَسَ من نكسَ اللهُ قلبَه، وأعمى عينَ بصيرته، وأرْكَسَهُ بلبسِهِ الأمرَ وجعلِ التوحيد تشبيهًا والتشبيه تعظيمًا وطاعةً.
خصائص الإلهية فجعلوها آلهة مع الله ، فالمشرك مشبه لمعبوده برب العالمين ، ولهذا وردت النصوص في نفي التشبيه على نفي تشبيه المخلوق بالخالق كقوله " ليس كمثله شيء " [الشورى: 11] أي ليس شيء من الموجودات مِثلًا له ، وقوله:" ولم يكن له كفوًا أحد "[الإخلاص] أي: لم يكن أحد كفؤًا له ، وقوله:" هل تعلم له سميًا " أي: ليس شيء سميًا له " فلا تضربوا لله الأمثال "[النحل: 74] أي لا تجعلوا له مثلا من خلقه ، ولا شك أن إبطال هذا النوع يستلزم إبطال الثاني؛ فمن شبه الله بخلقه فقد لزم منه أن يكون المخلوق كالخالق.
والتشبيه والتكييف - كما قال الشيخ - باطل شرعًا وعقلًا؛ أما الشرع: فللآيات والنصوص - التي أوردها الشيخ -، وأما دلالة العقل: فعلى الوجوه التي ذكرها، وهي واضحةٌ بينةٌ، والله أعلم.