الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنبيه
اعلم أن تفسير السلف لمعية الله - تعالى - لخلقه بأنه معهم بعلمه لا يقتضي الاقتصار على العلم؛ بل المعية تقتضي - أيضًا - إحاطته بهم سمعًا وبصرًا وقدرة وتدبيرًا ونحو ذلك من معاني ربوبيته.
تنبيه آخر: أشرت - فيما سبق - إلى أن علو الله - تعالى - ثابت بالكتاب، والسنة، والعقل، والفطرة، والإجماع.
أما الكتاب؛ فقد تنوعت دلالته على ذلك:
فتارة بلفظ العلو، والفوقية، والاستواء على العرش، وكونه في السماء؛ كقوله تعالى:" وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ "[البقرة: 255]" وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ "[الأنعام: 18]" الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى "[طه: 5]" أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْض "[الملك: 16].
وتارة بلفظ صعود الأشياء وعروجها ورفعها إليه؛ كقوله: " إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب "[فاطر: 10]" تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ "[المعارج: 4]" إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ "[آل عمران: 55].
وتارة بلفظ نزول الأشياء منه ونحو ذلك؛ كقوله تعالى: " قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك "[النحل: 102]" يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْض "[السجدة: 5].
وأما السنة؛ فقد دلت عليه بأنواعها القولية، والفعلية،
والإقرارية، في أحاديث كثيرة تبلغ حد التواتر، وعلى وجوه متنوعة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم في سجوده:" سبحان ربي الأعلى "(1)، وقوله:" إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي "(2)، وقوله:" ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء "(3)، وثبت عنه أنه رفع يديه وهو على المنبر يوم الجمعة يقول:" اللهم أغثنا "(4)، وأنه رفع يده على السماء وهو يخطب الناس يوم عرفة حين قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال:" اللهم اشهد "(5)، وأنه قال للجارية:" أين الله؟ " قالت: في السماء. فأقرها وقال لسيدها: " أعتقها فإنها مؤمنة "(6).
وأما العقل: فقد دل على وجوب صفة الكمال لله - تعالى - وتنزيهه عن النقص. والعلو صفة كمال والسفل نقص، فوجب لله - تعالى - صفة العلو وتنزيهه عن ضده.
وأما الفطرة: فقد دلت على علو الله - تعالى - دلالة ضرورية فطرية فما من داع أو خائف فزع إلى ربه - تعالى - إلا وجد في قلبه ضرورة الاتجاه نحو العلو لا يلتفت عن ذلك يمنة ولا يسرة.
واسأل المصلين، يقول الواحد منهم في سجوده:" سبحان ربي الأعلى " أين تتجه قلوبهم حينذاك؟
(1) أخرجه مسلم (772) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (7422)، ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (1014)، ومسلم (897) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(5)
أخرجه مسلم (221) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأصله في الصحيحين.
(6)
أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.
وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة على أن الله - تعالى - فوق سمواته مستوٍ على عرشه؛ وكلامهم مشهور في ذلك نصًا وظاهرًا.
قال الأوزاعي: (كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه، ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات)(1).
وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم، ومُحَالٌ أَنْ يقع في مثل ذلك خلاف، وقد تطابقت عليه هذه الأدلة العظيمة التي لا يخالفها إلا مكابر طُمِسَ على قلبه واجتالته الشياطين عن فطرته؛ نسأل الله - تعالى - السلامة والعافية.
فعلو الله تعالى بذاته وصفاته من أبين الأشياء وأظهرها دليلًا وأحق الأشياء وأثبتها واقعًا.
التعليق
نسأل الله العافية؛ هذا فكر دخل على الناس وسرى في الأمة، ودخل على كثير من أهل العلم والخير والصلاح - سبحان الله -، لأن المدرسة والنشأة والمجتمع له تأثير عظيم على نفسية الإنسان وعلى توجهه؛ فمن نعمة الله على العبد أن ينشأ في أرض سُنَّةٍ وفي أرضِ عِلْم ،
(1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات - كما نقل ذلك غير واحد - من طريق الحاكم، وصحح هذا الأثر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع من كتبه كالحموية (299)، ودرء تعارض العقل والنقل (6/ 262)، وبيان تلبيس الجهمية (2/ 37)؛ وكذلك ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (69)؛ وقال ابن حجر في الفتح (13/ 406): وأخرج البيهقي بسند جيد؛ وأَعَلَّ هذا الأثر ابن جماعة في إيضاح الدليل (81).
فهذا الكلام الذي يقوله الشيخ وينكره - وهو جديرٌ بالإنكار - ، هذا كل الأشاعرة في الجملة - كما تقدم - ينفون حقيقة العلو عن الله والاستواء على العرش ، والمتأخرون منهم خاصة مذهبهم في الاستواء والعلو هو مذهب الجهمية ، يقولون بالحلول ، أو يقولون مثل ما يقول الرازي: إنه لا داخل العالم ولا خارجه ، ويتأولون النصوص ، يتأولون نصوص الاستواء أو يفوضونها إذا عجزوا ، يتحاشون التأويل لأنَّ فيه شناعة وبشاعة وتحريفًا، فيقولون هذه النصوص نمرها كما جاءت ، يعني لا ندري معناها ، وليس مقصودهم: نمرها على طريقة السلف؛ بمعنى: نجريها على ظاهرها ونؤمن بها ونثبت ما دلت عليه ولا نصرفها عن ظاهرها؛ بل هم يقولون نجريها على ظاهرها ألفاظًا ولا نتعرض لها ولا نفهمها.