الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المثال التاسع والعاشر
قوله تعالى عن سفينة نوح: " تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا "[القمر: 14]، وقوله لموسى:" وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي "[طه: 39].
والجواب: أن المعنى في هاتين الآيتين على ظاهر الكلام وحقيقته، لكن ما ظاهر الكلام وحقيقته هنا؟ (1)
هل يقال: إِنَّ ظاهره وحقيقته أَنَّ السفينة تجري في عين الله؛ أو أن موسى عليه الصلاة والسلام يربى فوق عين الله - تعالى -؟!!
أو يقال: إن ظاهره أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها، وكذلك تربية موسى تكون على عين الله - تعالى - يرعاه ويكلؤه بها.
ولا ريب أن القول الأول باطل من وجهين:
الأول: أنه لا يقتضيه الكلام بمقتضى الخطاب العربي، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، قال الله - تعالى -:" إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "[يوسف: 2]، وقال تعالى:" نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ "[الشعراء: 193 - 195]، ولا أحد يفهم من قول القائل:(فلان يسير بعيني) أَنَّ المعنى: أنه يسير داخل عينه، ولا من قول القائل:(فلان تخرج على عيني)، أَنَّ تخرجه كان وهو راكب على عينه، ولو اِدَّعَى مُدَّعٍ
(1) بدائع الفوائد (2/ 399 - 400)، وتوضيح مقاصد العقيدة الواسطية (93 - 103).
أن هذا ظاهر اللفظ في هذا الخطاب لضحك منه السفهاء فضلًا عن العقلاء.
الثاني: أن هذا ممتنع غاية الامتناع، ولا يمكن لمن عرف الله وَقَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ أن يفهمه في حق الله - تعالى -؛ لأن الله - تعالى - مستو على عرشه، بائن من خلقه، لا يحل فيه شيء من مخلوقاته، ولا هو حَالٌّ في شيء من مخلوقاته، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
فإذا تبين بطلان هذا من الناحية اللفظية والمعنوية تَعَيَّنَ أن يكون ظاهر الكلام هو القول الثاني أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها، وكذلك تربية موسى تكون على عين الله يرعاه ويكلؤه بها. وهذا معنى قول بعض السلف بمرأى مني، فإن الله - تعالى - إذا كان يكلؤه بعينه لزم من ذلك أن يراه، ولازم المعنى الصحيح جزء منه كما هو معلوم من دلالة اللفظ حيث تكون بالمطابقة والتضمن والالتزام.
التعليق
هذه الآية وهي قوله تعالى: " تجري بأعيننا " أوضح في الدلالة على المراد؛ فالمعنى المراد منها ظاهر فلا تحتاج إلى تأويل، وهي أظهر في معناها من سائر الأمثلة المتقدمة، فاحتجاج الخصم بها على أهل السنة مغالطةٌ ظاهرة، أو جهل فاضح.
ولولا تلبيس المبطلين وتشويش أصحاب الأهواء ما كان هناك موجب للاحتراز، وأن هذه الآية لا تحتمل أبدًا هذا المعنى المنتفي بالضرورة، فلا يخطر ببال عاقلٍ كما قال الشيخ " تجري بأعيننا " [القمر: 14] لا يفهم عاقل أبدًا أن المعنى أنها تجري في عينه - سبحانه وتعالى عما يظن ويقول الجاهلون علوًا كبيرًا -، فقوله تعالى:" تجري بأعيننا "[القمر: 14] يعني:
تجري بمرأى منا وبكلأتنا وحفظنا يراها سبحانه وتعالى ، ففيها إثبات الرؤية، ولكن - أيضًا - فيها إثبات العينين لله ، فإذا قال المفسرون من أهل السنة تجري بأعيننا يعني بمرأى منا ، تجري والله يراها = لم يكن هذا تأويلًا ، مثل:" واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا "[الطور: 48] يعني: وأنت بمرأى منا ، كقوله:" وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين "[الشعراء: 217 - 219] ، فالآية لا تحتمل إلا هذا.
أما المعنى الآخر فليس محتملًا أبدًا؛ فلا يصح أن يقال: إِنَّ ظاهرها هو المعنى الفاسد ، وإن تفسيرها بالمعنى الذي قاله أهل السنة تأويل وإخراج للفظ عن ظاهره ، كلا أبدًا ، اللفظ لا يحتمل إلا هذا ، ولكن كما قلت: إن فيها هذا المعنى وفيها إثبات العين ، وإذا قال مفسروا أهل السنة " تجري بأعيننا " يعني بكلأتنا وبمرأى منا فليس هذا تفسير للعين ، هذا تفسير للجملة وبيان لمضمون الكلام ، ففيها إثبات العينين لله وإثبات الرؤية ، والباء في قوله:" تجري بأعيننا " للمصاحبة أي بمرأى منا؛ فالباء هنا ليست سببية ، وإنما للمصاحبة يعني: تجري والله يراها.