الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المثال الثالث عشر
قوله تعالى: " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً "[يس: 71].
والجواب: أن يقال: ما هو ظاهر هذه الآية وحقيقتها حتى يقال إنها صرفت عنه؟
هل يقال: إن ظاهرها أن الله - تعالى - خلق الأنعام بيده كما خلق آدم بيده؟
أو يقال: إن ظاهرها أن الله - تعالى - خلق الأنعام كما خلق غيرها، لم يخلقها بيده، لكن إضافة العمل إلى اليد والمراد صاحبها معروفٌ في اللغةِ العربيةِ التي نَزَلَ بها القرآن الكريم.
أما القول الأول فليس هو ظاهر اللفظ لوجهين:
أحدهما: أن اللفظ لا يقتضيه بمقتضى اللسان العربي الذي نزل به القرآن، ألا ترى إلى قوله تعالى:" وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ "[الشورى: 30]، وقوله:" ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ "[الروم: 41]، وقوله:" ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُم "[آل عمران: 182]، فإن المراد: ما كسبه الإنسان نفسه وما قَدَّمَهُ وإنْ عَمِلَهُ بغير يَدِهِ، بخلاف ما إذا قال: عَمِلْتُهُ بيدي؛ كما في قوله تعالى: " فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ "[البقرة: 79]، فإنه يدل على مباشرة الشيء باليد.
الثاني: أنه لو كان المراد أن الله - تعالى - خلق هذه الأنعام بيده لكان لفظ الآية: خلقنا لهم بأيدينا أنعامًا؛ كما قال الله - تعالى - في آدم: " مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ "[ص: 75]؛ لأن القرآن نزل بالبيان لا بالتعمية؛ لقوله تعالى: " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء "[النحل: 89].
وإذا ظهر بطلان القول الأول تعين أن يكون الصواب هو القول الثاني؛ وهو: أن ظاهر اللفظ أن الله - تعالى - خلق الأنعام كما خلق غيرها ولم يخلقها بيده، لكن إضافة العمل إلى اليد كإضافته إلى النفس بمقتضى اللغة العربية، بخلاف ما إذا أضيف إلى النفس وَعُدِّيَ بالباء إلى اليد، فتنبه للفرق؛ فإن التنبه للفروق بين المتشابهات من أجود أنواع العلم، وبه يزول كثيرٌ من الإشكالات.
التعليق
هذه المسألة ذكرها ابن تيمية في التدمرية في القاعدة الثالثة من القواعد النافعة (1) ، ذكر أن من أغلاط بعض الناس جعل اللفظ نظيرًا لما ليس مثله، كما قالوا في قوله تعالى:" ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي "[ص: 75] إنها نظير لقوله تعالى: " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا "[يس: 71]، فجعل الآيتين كلاهما من قبيل واحد ، ومن يقول ذلك يريد أن يتوصل إلى أن قوله تعالى:" ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي "[ص: 75] مثل: " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا "[يس: 71] لا تدل على المباشرة باليدين أو وقوع الفعل باليدين ، وإنما تدل على أنه خلق
(1) التدمرية (ص 221)، وانظر شرحها في: شرح الرسالة التدمرية (222 - 226).
آدم بقدرته كما خلق الأنعام بقدرته ، فجعل آية (ص) كآية (ياسين).
وقد فنَّد شيخ الإسلام رحمه الله هذا القول ببيان الفرق بين الآيتين في الأسلوب ، فقال: إنه في آية (ياسين) أضاف الفعل إلى الأيدي، وقال:" مما عملت أيدينا "[يس: 71]، كما قال في الآية الأخرى:" فبما كسبت أيديكم "[الشورى: 30]؛ وأما في آية (ص) فأضاف الفعل إلى نفسه وعداه إلى اليد بالباء فقال: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي "[ص: 75].
وأيضًا؛ فإنه ذكر الأيدي في آية (ياسين) بلفظ الجمع، وفي آية (ص) بلفظ التثنية؛ وأيضًا فإنه ذكر نفسه هو سبحانه وتعالى بصيغة الجمع في آية (ياسين) ، وذكر نفسه في آية (ص) بلفظ المفرد ، ثم نظَّر لهذه الآيات، فقال: إن آية (ياسين) من حيث إسناد الفعل إلى الأيدي كآية الشورى " فبما كسبت أيديكم "[الشورى: 30]، وآية ياسين من حيث ذكر المثنى بصيغة الجمع كقوله:" تجري بأعيننا "[القمر: 14] فذكر المثنى بصيغة الجمع ، وقوله تعالى:" ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي "[ص: 75] نظير لقوله: " بل يداه مبسوطتان "[المائدة: 64] من حيث ذكر اليدين بلفظ التثنية ، فبان من ذلك بطلان من يجعل آية (ص) كآية (ياسين)؛ بل بينهما فروق.
إذن؛ فآية (ياسين) لا تدل على حصول الخلق باليدين ، فلا تدل على أن الله خلق الأنعام بيديه بينما آية (ص) تدل على أن الله خلق آدم بيديه ، والقول بأن آية (ياسين) تدل على خلق الأنعام باليدين يؤدي إلى أن آدم ليس له فضيلة وليس له خصوصية ، وكذلك إذا قيل: إن آية (ص) كآية (ياسين) لا تدل على الخلق باليدين، فإن ذلك يقتضي نفي اختصاص آدم بهذا الشرف وهذه الفضيلة.
والحاصل: أنه يفرق في اللغة العربية بين إسناد الفعل إلى الأيدي وإسناد الفعل إلى الفاعل وتعديته إلى اليد أو اليدين بالباء ، ففرق بين قول
القائل: (هذا ما فعلت يداك) ، هذا لا يدل على أنه قد جناه بيده ، فتقول لإنسان تكلمَ بكلامٍ أَضَرَّ بِهِ وَسَبَّبَ له ضررًا:(هذا ما فعلت يداك) ، وهو إنما جنى بلسانه أو برجله ، ولكن إذا قلت:(هذا ما فعلت بيديك) فإن هذا يدل على أن الجناية حصلت باليد ، بقتلٍ أو ضربٍ أو ما أشبه ذلك ، كما ذكر الشيخ من الفروق " ذلك بما قدمت أيديكم " [آل عمران: 182]، وقوله:" فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم "[البقرة: 79]، فإذا أسند الفعل إلى الفاعل وعُدِّيَ بالباء دل على أن الفعل حصل ووقع باليد ، وإذا أسند الفعل إلى الأيدي " فبما كسبت أيديكم " [الشورى: 30] " بما قدمت أيديكم "[آل عمران: 182]" بما قدمت يداك "[الحج: 10]، فإنه - حينئذٍ - لا يدل على خصوص ما جناه المكلف بيده؛ بل ذلك عام ، فقوله " فبما كسبت أيديكم " [الشورى: 30] يساوي (بما كسبتم)؛ والله أعلم.