الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثانية:
الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف،
لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها
(1).
ودليل ذلك: السمع، والعقل.
أما السمع:
فقوله تعالى: " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ "[الشعراء: 193 - 195].
وقوله: " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "[يوسف: 2].
وقوله: " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "[الزخرف: 3].
وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.
وقد ذم الله - تعالى - اليهود على تحريفهم، وبَيَّنَ أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان، فقال: " أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ
(1) مجموع الفتاوى (3/ 82 وَ 4/ 26 وَ 5/ 195، 257 وَ 6/ 515 وَ 33/ 177)، والحموية (ص 271)، شرح الرسالة التدمرية (211 وما بعدها)، توضيح مقاصد العقيدة الواسطية (33).
وَهُمْ يَعْلَمُونَ " [البقرة: 75]، وقال تعالى: " مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا" [النساء: 46] الآية.
وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين؛ فوجب قبوله على ظاهره، وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة.
التعليق
لا شك أن الواجب في كلام الله وكلام رسوله إجراؤه على ظاهره؛ بل هذا هو الأصل في حمل كلام أي مخاطب ، ما لم يقم دليل يوجب صرفه عن ظاهره ، وإلا لما كان الكلام بيانًا ولا دالًا على مراد المتكلم.
فالأصل أن الكلام يبين به المتكلم مراده ، ولا يأتي الخلل إلا:
1 -
من نقص بيانه وفصاحته؛ فقد يتكلم بكلام لا يدل على مراده بسبب عجزه وضعف بيانه وعدم فصاحته.
2 -
أو إرادة التلبيس على المخاطب؛ فيخاطبه بخلاف مراده حتى يفهم من ذلك الكلام خلاف المراد.
ولهذا ذكر شيخ الإسلام (1) أنه إذا توفرت هذه المقومات وهي: العلم، والبيان، والنصح = لزم من ذلك أن يتحقق البيان ، والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق وأفصحهم وأنصحهم فوجب أن يدل كلامه على مراده أتم دلالة وأكمل بيان.
وخلاف ذلك حَمْلٌ لكلام المتكلم على معان قد يحتملها لكن بغير حجة وهذا هو التحريف؛ فالتحريف: صرف الكلام عن ظاهره بغير حجة ، ويسميه المتأخرون تأويلًا ، فيقولون التأويل: صرف اللفظ عن
(1) الحموية (280 - 282).
الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل ، لكن الشأن في ذلك الدليل.
فأهل التأويل من نفاة الصفات ـ لأن نفاة الصفات طائفتان مفوضة ومؤولة كما تقدم (1) ـ يفسرون نصوص الصفات بخلاف ما تدل عليه ، ثم يضطربون في هذا التأويل ، فيصرفون كلام الله وكلام رسوله عن ظاهره بغير حجة؛ بل بشبهات يسمونها عقليات ، وهي في الحقيقة جهليات، وقد عمدوا إلى أفضل أنواع النصوص ـ وهي نصوص الأسماء والصفات ـ فصرفوها عن ظواهرها ، بناء على ما أصَّلوه بالشبهات الباطلة من أنه - تعالى - لا تقوم به الصفات؛ فالجهمية والمعتزلة لما أصلوا نفي الصفات لابد أن يكون لهم موقف من هذه النصوص ، كيف يصنعون بها؟ فلجؤا إلى التأويل، فصارت النصوص عندهم لا تدل على إثبات الصفات.
يقول شيخ الإسلام في التدمرية (2): (القاعدة الرابعة: وهي أنَّ كثيرًا من الناس يتوهم في بعض الصفات، أو في كثيرٍ منها، أو أكثرها، أو كلها = أنها تماثل صفات المخلوقين؛ ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:
أحدها: كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظنَّ أنَّ مدلول النصوص هو التمثيل.
الثاني: إنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعَطَّله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنِّه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله - حيث ظنَّ أنَّ الذي يُفهم
(1) تقدم في صفحة (
…
).
(2)
التدمرية (ص 234).
من كلامهما هو التمثيل الباطل - قد عَطَّلَ ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله - تعالى -.
الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير علمٍ، فيكون معطلًا لما يستحقه الرب - تعالى -.
الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات والجمادات، أو صفات المعدومات، فيكون قد عَطَّلَ صفات الكمال التي يستحقها الرب - تعالى -، ومَثَّلَهُ بالمنقوصات والمعدومات، وعَطَّلَ النصوص عما دلَّت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل؛ فيكون ملحدًا في أسمائه وآياته).
وذكر الشيخ ابن عثيمين هنا: أن التحريف سبيل اليهود ، فاليهود نعتهم الله بالتحريف ، فهؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن شابههم كل بحسبه ، قد شابهوا اليهود في تحريف كلام الله كما قال تعالى:" يحرفون الكلم عن مواضعه "[النساء: 46]، وقال:" يحرفون الكلم من بعد مواضعه "[المائدة: 41]، وهذا سبيل كل مبطل ، فكل مبطل تعارض النصوص مذهبه فإنه يقف منها هذا الموقف ، يلتمس لها التأويلات ليتخلص منها هذا فيما لم يقدر على رده ، أما ما قدر على رده دفعه ، وقال: هذا كذب، هذا لم يصحَّ ، هذا خبر آحاد وما أشبه ذلك ، فإن لم يقدر على الرد بطريق من الطرق ذهب إلى التحريف ، وحقيقة التحريف صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره بغير حجة توجب ذلك (1).
(1) يشهد لهذا ما نقله الدارمي في رَدِّهِ على بشرٍ المَرِيْسِي (2/ 868): لا تَرُدُّوهُ فتفتضحوا، ولكن غالطوهم بالتأويل، فتكونوا قد رددتموها بلطف! إذ لم يمكنكم ردُّها بعنف!!
وانظر: توضيح مقاصد العقيدة الواسطية (165، 174).
والشيخ محمد رحمه الله استدل على هذه القاعدة بأن الله أخبر أنه خاطب عباده بلسان عربي مبين ، فوجب حمل كلام الله على ما يقتضيه اللسان العربي ، وإلا لما كان بيانًا ولهذا الذين حرفوا النصوص أو فوضوا فيها لزم من قولهم: أن القرآن ليس هدى ولا بيانا ولا شفاء ، فالهدى والبيان والشفاء يكون بالكلام البين الذي يدل على معان بحسب ظاهره ، أما إذا قيل: إن هذا الكلام لا يدل على شيء ولا يفهم منه شيء لم يكن هدى ولا بيانا ولا شفاء ، أو قيل: إنه يدل على معان هي خلاف الظاهر فكذلك يكون المتكلم ملغز بكلامه لا مبين.
وإجراء النصوص على ظاهرها هو موجب الشرع - كما قال الشيخ - للأدلة التي ذكرها ، وهو موجب العقل كما قلنا: إن الواجب حمل كلام المتكلم على ظاهره دائمًا ، سواء كان كلام الله أو كلام الرسول أو كلام سائر المخاطِبين إلا أن يدل دليل على وجوب حمله على خلافه؛ هذا هو الأصل وهذا هو المعروف في عرف العقلاء؛ والله أعلم.