الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله (ص 180 / جـ 12 مجموع الفتاوى لابن قاسم): (وأما التكفير؛ فالصواب أَنَّ من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقَصَدَ الحَقَّ فأخطأ لم يكفر؛ بل يغفر له خطؤه، ومَنْ تَبَيَّنَ له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه وقَصَّرَ في طلب الحق وتَكَلَّمَ بلا علم فهو عاصٍ مذنب، ثم قد يكون فاسقًا، وقد يكون له حسنات ترجح على سيئاته). اهـ.
وقال في (ص 229 / جـ 3 من المجموع المذكور) في كلام له: (هذا مع أني دائمًا - ومن جالسني يعلم ذلك مني - أني من أعظم الناس نهيًا عَنْ أَنْ يُنسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلِمَ أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي مَنْ خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية وذكر أمثلة - ثم قال - وكنت أُبَيِّنُ أَنَّ ما نُقِلَ عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضًا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين - إلى أن قال - والتكفير هو من الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد
بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئًا.
وكنت دائمًا أَذْكُرُ الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: " إذا أنا مِتُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذُرُّوْنِي في اليَمِّ، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين! ففعلوا به ذلك فقال الله: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك! فغفر له "(1).
فهذا رجل شَكَّ في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُرِّيَ؛ بل اعتقد أنه لا يُعَاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أَنْ يعاقبه فغفر له بذلك.
والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا). اهـ.
وبهذا عُلِمَ الفرقُ بين القول والقائل، وبين الفعل والفاعل؛ فليس كل قولٍ أو فعلٍ يكون فسقًا أو كفرًا يحكم على قائله أو فاعله بذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ص 165 / جـ 35 من مجموع الفتاوى): (وأصل ذلك: أَنَّ المقالةَ التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال هي كفر قولًا يطلق كما دلت على ذلك الدلائل
(1) أخرجه البخاري (3478)، ومسلم (2756، 2757) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وأخرجه مسلم (2747) من حديث أنس رضي الله عنه.
الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، مثل مَنْ قالَ: إِنَّ الخمرَ أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلامًا أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن الكريم ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف يُنكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها - إلى أن قال - فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله - تعالى -:" لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ "[النساء: 165] وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان. اهـ كلامه.
وبهذا عُلِمَ أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفرًا أو فسقًا، ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافرًا أو فاسقًا؛ إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق أو وجود مانع شرعي يمنع منه، لكن من انتسب إلى غير الإسلام أعطي أحكام الكفار في الدنيا، ومن تبين له الحق فَأَصَرَّ على مخالفته تبعًا لاعتقادٍ كان يعتقده، أو متبوع كان يعظمه، أو دنيًا كان يؤثرها؛ فإنه يستحق ما تقتضيه تلك المخالفة من كفر أو فسوق. فعلى المؤمن أَنْ يبني معتقده وعمله على كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيجعلهما إمامًا له يستضيء بنورهما، ويسير على منهاجهما؛ فإن ذلك هو الصراط المستقيم الذي أمر الله تعالى به في قوله:" وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ "[الأنعام: 153].
وليحذر ما يسلكه بعض الناس من كونه يبني معتقده أو عمله على مذهب معين، فإذا رأى نصوص الكتاب والسنة على خلافه
حاول صرف هذه النصوص إلى ما يوافق ذلك المذهب على وجوه متعسَّفة، فيجعل الكتاب والسنة تابعين لا متبوعين، وما سواهما إمامًا لا تابعًا! وهذه طريقٌ من طرق أصحاب الهوى؛ لا أتباع الهدى، وقد ذم الله هذه الطريق في قوله:" وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ "[المؤمنون: 71].
والناظر في مسالك الناس في هذا الباب يرى العجب العجاب، ويعرف شدة افتقاره إلى اللجوء إلى ربه في سؤاله الهداية والثبات على الحق والاستعاذة من الضلال والانحراف، وَمَنْ سَأَلَ اللهَ - تعالى - بصدق وافتقار إليه عالمًا بغنى ربه عنه وافتقاره هو إلى ربه فهو حري أن يستجيب الله - تعالى - له سؤله، يقول الله - تعالى -:" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ "[البقرة: 186].
فنسأل الله - تعالى - أن يجعلنا ممن رأى الحَقَّ حقًا واتبعه، ورأى الباطل باطلًا واجتنبه، وأَنْ يجعلنا هداة مهتدين، وَصُلَحَاءَ مصلحين، وأَنْ لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبي الرحمة وهادي الأمة إلى صراط العزيز الحميد بإذن ربهم، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم في اليوم الخامس عشر من شهر شوال سنة 1404 هـ بقلم مؤلفه الفقير إلى الله: محمد الصالح العثيمين.
التعليق
قوله: (من انتسب إلى الكفار أعطي
…
): يعني: كاليهود والنصارى، فهو كافر لأنه ينتسب لغير ملة الإسلام، فلا يقال: يتوقف في كفره؛ بل هو كافر، لأن موجب الكفر قائم به وأما مصيره فهو عند الله.
وما نقله المؤلف رحمه الله عن شيخ الإسلام معروف عنه أنه يؤكد على هذه القضية؛ قضية الفرق بين الحكم على المقالة والحكم على القائل، ثم يأتي الغلط في تطبيق القاعدة على القول والقائل المعين، فقد يحصل الغلط في الحكم على القول ، فقد يزعم بعض الناس أَنَّ هذا كفر وليس بكفر؛ كما ضلت الخوارج حيث اعتقدوا ما ليس بكفر كفرًا فضلوا في ذلك؛ وقد يشابههم بعض الناس وإن لم يكن عن تأصيل؛ فالخوارج عندهم تأصيل أن مرتكب الكبيرة كافر لكن بعض الناس يعتقد أن ما ليس بكفر كفرًا وإن لم يكن هذا أصلًا عنده ، فيعتقد أن هذا العمل مما يعد كفرًا في الشرع، مثل: ترك الصلاة، هذه فيها خلاف بين أهل العلم. فإذا قال قائل: إن ترك الصلاة كفر، لا يكون من الخوارج، لأن هذا ليس أصلًا عنده، فهو رأى أن ترك الصلاة كفر للأدلة الواردة في ذلك ، وكذلك من قال: إن ترك الصلاة ليس بكفر لا يكون مرجئًا.
هكذا - أيضًا - في تطبيق بعض الأمور ، فقد يظن بعض الناس أنَّ هذا القول أو العمل كفر بناء على ما تقرر عنده من الدلائل وقد يكون ما ذهب إليه مرجوحًا ، ويكون الصواب مع من قال إن هذا ليس بكفر. والأمر المعلوم أنه كفر يأتي فيه الكلام الذي يقول فيه الشيخ ، إننا نطلق (من قال القرآن مخلوق فهو كافر) ، هذا على الإطلاق ، لكن إنْ جئنا للمعين ، فلا يمكن أن نقول: إنه كافر حتى نعلم أنه مشاقٌّ لله ومعاند ، فإذا قال ما قال نتيجة لشبهات عرضت له وتأويل تأوله فيندفع الحكم عليه بالكفر ، فقد يكون جاهلًا ، كما مثلوا بشرب الخمر ، فشرب
الخمر لا شك أنه معصية ومن موجبات الفسق ، لكن من شربه وهو لا يدري أنه حرام ، فهذا قام به مانع وهو الجهل ، أو إنسان تأول فشرب النبيذ وقال الخمر هو عصير العنب ، وهذا مذهب الأحناف في النبيذ ولو أسكر كثيره فهو جائز عندهم إلا القدر المسكر ، وهو عند الآخرين حرام ، فإذا شربه من تقرر عنده تحريم النبيذ الذي يسكر كثيره فإنه يكون حينئذ فاسقا ، لكن الحنفي إذا شرب هذا متأولًا متمذهبًا لا متعصبًا متبعًا للهوى فإنه لا يكون فاسقًا بل يكون معذورًا بناءً على الشبهة ، وهكذا في مسائل الخلاف ، فهذا يقول هذا ربا والآخر يقول هذا ليس ربا ، مثل ما كان بعض الصحابة لا يرون تحريم ربا الفضل لحديث:" إنما الربا في النسيئة "(1) فلا يكون الواحد منهم فاعلًا لحرام ولا تعامله بهذه المعاملة يكون بها فاسقًا ولا عاصيًا ، لأنه ما تعمد مخالفة الشرع ، ومثله الآن من يشرب الخمر وتحريمه ظاهر ومعروف فهذا يصدق عليه أنه فاسق ، لكن إنسان أخذ شرابًا لا يدري وشربه فإذا هو خمر هل يفسق بهذا؟ هو يعرف حكم الخمر لكن ما درى أن هذا الشراب بعينه الذي قُدِّمَ له خمر فشرب.
وشيخ الإسلام يصنف هؤلاء الذين خالفوا ما جاء في النصوص ثلاثة أصناف (2):
1 -
كافر؛ وهو المعاند المتعمد لمخالفة شرع الله، وهذا لا يكاد يظهر.
2 -
عنده هوى وعنده شيء من التعصب وهو مقصر في معرفة الحق وعنده هوى لهذا الرأي لأجل أنه ينتسب إليه.
(1) أخرجه مسلم (1596) من حديث ابن عباس، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهم.
3 -
والثالث: مجتهد يعتقد أن هذا هو الحق ، وهذا هو الذي أداه إليه اجتهاده.
فالأول كافر، والثاني عاصي، والثالث مخطئ مغفور له.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى له وصحبه أجمعين.