الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والجواب عن السؤال الثالث من وجهين
الأول: أن الحق لا يوزن بالرجال، وإنما يوزن الرجال بالحق، هذا هو الميزان الصحيح وإن كان لمقام الرجال ومراتبهم أثر في قبول أقوالهم كما نقبل خبر العدل ونتوقف في خبر الفاسق، لكن ليس هذا هو الميزان في كل حال، فإن الإنسان بَشَرٌ يفوته من كمال العلم وقوة الفهم ما يفوته، فقد يكون الرجل دَيِّنًا وذا خلق ولكن يكون ناقص العلم أو ضعيف الفهم، فيفوته من الصواب بقدر ما حصل له من النقص والضعف، أو يكون قد نشأ على طريق معين أو مذهب معين لا يكاد يعرف غيره فيظن أن الصواب منحصر فيه ونحو ذلك.
الثاني: أننا إذا قابلنا الرجال الذين على طريق الأشاعرة بالرجال الذين هم على طريق السلف وجدنا في هذه الطريق من هم أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وأهدى وأقوم من الذين على طريق الأشاعرة، فالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة ليسوا على طريق الأشاعرة.
وإذا ارتقيت إلى مَنْ فوقهم من التابعين لم تجدهم على طريق الأشاعرة.
وإذا علوت إلى عصر الصحابة والخلفاء الأربعة الراشدين لم تجد فيهم من حذا حذو الأشاعرة في أسماء الله - تعالى - وصفاته وغيرهما مما خرج به الأشاعرة عن طريق السلف.
ونحن لا ننكر أَنَّ لبعض العلماء المنتسبين إلى الأشعري قَدَمَ
صِدْقٍ في الإسلام، والذَّبِّ عنه، والعنايةِ بكتاب الله - تعالى - وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم روايةً ودرايةً، والحرصِ على نفع المسلمين وهدايتهم، ولكن هذا لا يستلزم عصمتهم من الخطأ فيما أخطأوا فيه، ولا قبول قولهم في كل ما قالوه، ولا يمنع من بيان خطئهم وَرَدِّهِ لما في ذلك من بيان الحق وهداية الخلق، ولا ننكر - أيضًا - أن لبعضهم قصدًا حسنًا فيما ذهب إليه وَخَفِيَ عليه الحق فيه، ولكن لا يكفي لقبول القول حُسْنُ قَصْدِ قَائِلِهِ؛ بل لابد أن يكون موافقًا لشريعة الله عز وجل فإن كان مخالفًا لها وَجَبَ رَدُّهُ على قائله كائنًا من كان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد "(1).
ثم إن كان قائله معروفًا بالنصيحةِ والصدقِ في طلبِ الحقِّ اِعْتُذِرَ عنه في هذه المخالفة، وإلا عُومِلَ بما يستحقه بسوء قصده ومخالفته.
فإن قال قائل: هل تكفرون أهل التأويل أو تُفَسِّقُوْنهم؟ (2)
(1) أخرجه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها، وبلفظ آخر أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
(2)
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في القول المفيد (2/ 183) - وبأوسع منه في الشرح الممتع 14/ 412 - في كلامه عن أقسام من جحدَ أو أنكرَ شيئًا من الأسماء والصفات:
والإنكار نوعان:
الأول: إنكار تكذيب؛ وهذا كفرٌ بلا شك، فلو أنَّ أحدًا أنكر اسمًا من أسماء الله، أو صفةً من صفاته الثابتة بالكتاب والسنة
…
فهو كافرٌ بإجماع المسلمين؛ لأنَّ تكذيب خبر الله ورسوله كفرٌ مخرجٌ عن الملة بالإجماع.
الثاني: إنكار تأويل؛ وهو أنْ لا يُنكرها ولكن يتأولها إلى معنًى يخالف ظاهرها؛ وهذا نوعان:
1 -
أنْ يكونَ للتأويل مُسَوِّغٌ في اللغة العربية؛ فهذا لا يوجب الكفر.
2 -
أنْ لا يكونَ له مُسّوِّغٌ في اللغة العربية؛ فهذا حكمه الكفر، لأنه إذا لم يكن له مسوِّغ صار في الحقيقة تكذيبًا.
قلنا: الحكم بالتكفير والتفسيق ليس إلينا؛ بل هو إلى الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو من الأحكام الشرعية التي مَرَدُّهَا إلى الكتاب والسنة، فيجب التثبت فيه غاية التثبت، فلا يُكَفَّر ولا يُفَسَّق إلا من دَلَّ الكتاب والسنة على كفره أو فسقه.
والأصل في المسلم الظاهر العدالة - بقاءُ إسلامِهِ، وبقاءُ عدالتِهِ - حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي.
ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه؛ لأن في ذلك محذورين عظيمين:
أحدهما: افتراء الكذب على الله - تعالى - في الحكم، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به.
الثاني: الوقوع فيما نبز به أخاه إن كان سالمًا منه.
ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كَفَّرَ الرجلُ أخاه فقد باء بها أحدهما "، وفي رواية:" إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه "(1)، وفيه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:" ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه "(2).
وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين (3):
(1) أخرجه مسلم (60).
(2)
أخرجه مسلم (61).
(3)
للحكم بالتكفير شروط وضوابط عند أهل السنة والجماعة؛ فانظر شيئًا منها في: ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة للدكتور: عبد الله القرني، وضوابط التكفير عند شيخي الإسلام لأبي العلا الراشد، وعارض الجهل له - أيضًا -، ومنهج ابن تيمية في التكفير للدكتور عبد المجيد الشعيبي، وغيرها.
أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق.
الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي الموانع.
ومن أهم الشروط: أن يكون عالمًا بمخالفته التي أوجبت أن يكون كافرًا أو فاسقًا؛ لقوله تعالى: " وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً "[النساء: 115]، وقوله:" وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ "[التوبة: 115 - 116].
ولهذا قال أهل العلم: لا يُكَفَّر جاحدُ الفرائض إذا كان حديثَ عهد بإسلام حتى يبين له.
ومن الموانع: أن يقع ما يوجب الكفر أو الفسق بغير إرادة منه، ولذلك صور:
منها: أَنْ يُكْرَهَ على ذلك فيفعله لداعي الإكراه لا اطمئنانًا به، فلا يكفر حينئذ؛ لقوله تعالى:" مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ "[النحل: 106].
ومنها: أَنْ يُغْلَقَ عليه فِكْرُهُ، فلا يدري ما يقول لشدة فَرَحٍ أو حزن أو خوف أو نحو ذلك.
ودليله ما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من
أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح " (1).
التعليق
ما قاله الشيخ في الجواب الثاني على السؤال الثالث هو الجواب السديد؛ فخطأ العالم إذا قام الدليل على خطئه لا يتابع عليه لأنه مخالف ، كل يؤخذ من قوله ويرد؛ فالعصمة للرسول عليه الصلاة والسلام ، ولكنه لا يقدح في منزلته إذا عُرِفَ منه صِدْقُ الولاءِ للإسلامِ والكتابِ والسنةِ ، فلا يُصَوَّبُ الخطأُ من أجل أنه بمنزلة عالية من الدين والتقوى والعلم ، فالميزان هو: الكتاب والسنة ، فما وافقهما فهو الحق وما خالفهما فهو الباطل ، والخطأ مردود على صاحبه ، فلا يقال: إن هذا حق لأنه قول فلان، وهذا باطل لأنه قول فلان؛ إنما الحكم لله ورسوله " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " [النساء: 59]، ولكن - كما قال الشيخ - لا شك أنه يُستدل بفهم أهل العلم ويُستأنس به إذا كان الرجل معروفًا بالعلمِ والتحقيقِ والعنايةِ بالدليلِ ، فإنه يستأنس باختياره وما ذهب إليه ، ولا يكون مذهبه هو الدليل؛ بل الدليل الشرعي محصورٌ في الكتاب والسنة ، وهؤلاء العلماء بالمذهب والمعروفون بالدينِ والصلاحِ وتعظيمِ الكتابِ والسنةِ وتعظيم الصحابةِ مجتهدون ، وما وقعوا فيه من المذاهب البدعية مثل: نفي الصفات له أسباب من أعظمها التأثر بالشيوخ والمدرسة التي نشئوا فيها ، وهذا تأثيره معروف ، فيتأثر الإنسان في المذهب الذي نشأ فيه ، وهم نشئوا في أرض يكاد لا يعرف فيها إلا مذهب الأشعري،
(1) أخرجه مسلم (2747).
فنشئوا عليه وصاروا يدللون عليه ويقررونه ويرون أنه هو الحق، فهم مجتهدون مخطئون.
يقول الشيخ هل تكفرون المتأولين؟
الحقيقة أن هذا السؤال (هل تكفرون؟) يعني: هل تحكمون بحسب علمكم بكفرهم؟ فقول القائل: ليس التكفير إلينا ليس هذا محل السؤال ، يعني مثل قول هل تحرمون؟ أي: هل تقولون بتحريم كذا بحسب ما علمتموه من الكتاب والسنة ، أو تقولون بِحِلِّهِ. ومثله: هل تقولون بكفر من قال كذا وكذا؟ فالسؤال عن حكم الكفر بحسب ما تعلمونه ، وليس السؤال عن تكفيركم له بمجرد رأيكم؟
فيقال: المتأول تختلف حاله فقد تكون المقالة كفرية ، أي أنها في ذاتها كفر؛ لكن هو لا يكون كافرًا ، إما لانتفاء شرط أو لوجود مانع.
وذكر الشيخ بعض الموانع كالجهل والتأويل ، والتأويل حقيقةً أنه يظن أن هذا هو المعنى ، وأنَّ هذا هو موجَب الأدلة بحسب نظره ، فهذا متأول ، والتأويل من قبيل الخطأ في الفهم ، فيرجع المتأول في الحقيقة إلى الجهل أيضًا؛ فالجهل: إما جهل بأصل الدليل، أو جهل بمعنى الدليل؛ وهكذا المُفَوِّض من جنس المتأول، لأن المفوض في باب الصفات والمؤول مذهبهما واحد ، إلا أن هذا يفسر النصوص بما بدا له باجتهاد منه ، وقد يكون اجتهاده قاصرًا وناقصًا ، والمفوض رأى الإعراض عن البحث عن معاني تلك النصوص لمَّا اعتقد أَنَّ ظاهرها غير مراد؛ والله أعلم.
وهل التفسيق يأخذ التفصيل نفسه ، كما في التأويل؟
يحتمل ذلك؛ فإذا قُدِّرَ أَنَّ شخصًا فعلَ معصيةً وصار فيه احتمال أنه لا يَعرف الحكم ، يصير معذورًا ولا يصير بها فاسقًا ، لأنه فَعَلَ هذا
الفعلَ وهو لا يدري أنه حرام ، لكن هناك معاصي لا يصح فيها دعوى الجهل؛ كدعوى الجهل بالمعاملات الربوية ربًا صريحًا، والله المستعان.