الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِسْرَائِيلِيٌّ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا " يَا إِنْسَانُ اعْرَفْ نَفْسَكَ تَعْرِفُ رَبَّكَ " وَفِيهِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالضَّعْفِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْقُوَّةِ، وَمَنْ عَرَفَهَا بِالْعَجْزِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْقُدْرَةِ، وَمَنْ عَرَفَهَا بِالذُّلِّ، عَرَفَ رَبَّهُ بِالْعِزِّ، وَمَنْ عَرَفَهَا بِالْجَهْلِ، عَرَفَ رَبَّهُ بِالْعِلْمِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اسْتَأْثَرَ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، وَالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، وَالْمَجْدِ وَالْغِنَى، وَالْعَبْدُ فَقِيرٌ نَاقِصٌ مُحْتَاجٌ، وَكُلَّمَا ازْدَادَتْ مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ بِنَقْصِهِ وَعَيْبِهِ وَفَقْرِهِ وَذُلِّهِ وَضَعْفِهِ ازْدَادَتْ مَعْرِفَتُهُ لِرَبِّهِ بِأَوْصَافِ كَمَالِهِ.
التَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ وَمَا فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمَمْدُوحَةِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْحَيَاةِ، عَرَفَ أَنَّ مَنْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ وَخَلَقَهَ فِيهِ أَوْلَى بِهِ، فَمُعْطِي الْكَمَالِ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَبْدُ حَيًّا مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُرِيدًا عَالِمًا، يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ، وَمَنْ خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ لَا يَكُونُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ؟ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَالِ، بَلْ مَنْ جَعَلَ الْعَبْدَ مُتَكَلِّمًا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ مُتَكَلِّمًا وَمَنْ جَعَلَهُ حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا فَاعِلًا قَادِرًا، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ.
فَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الضِّدِّ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْأَوْلَوِيَّةِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ النَّفْيِ، أَيْ كَمَا أَنَّكَ لَا تَعْرِفُ نَفْسَكَ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ، فَلَا تَعْرِفُ حَقِيقَتَهَا، وَلَا مَاهِيَّتَهَا وَلَا كَيْفِيَّتَهَا، فَكَيْفَ تَعْرِفُ رَبَّكَ وَكَيْفِيَّةَ صِفَاتِهِ؟ .
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ يُعَرِّفُ الْعَبْدَ أَنَّهُ عَاجِزٌ ضَعِيفٌ، فَتَزُولُ عَنْهُ رُعُونَاتُ الدَّعَاوِي، وَالْإِضَافَاتُ إِلَى نَفْسِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، إِنْ هُوَ إِلَّا مَحْضُ الْقَهْرِ وَالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ.
[فَصْلٌ الْمَشْهَدِ الثَّانِي عَشَرَ مَشْهَدُ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ وَالْخُضُوعِ وَالِافْتِقَارِ لِلرَّبِّ جل جلاله]
فَصْلٌ فَحِينَئِذٍ يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى الْمَشْهَدِ الثَّانِي عَشَرَ
وَهُوَ مَشْهَدُ الذُّلِّ، وَالِانْكِسَارِ، وَالْخُضُوعِ، وَالِافْتِقَارِ لِلرَّبِّ جل جلاله، فَيَشْهَدُ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ ضَرُورَةً تَامَّةً، وَافْتِقَارًا تَامًّا إِلَى رَبِّهِ وَوَلِيِّهِ، وَمَنْ بِيَدِهِ صَلَاحُهُ وَفَلَاحُهُ، وَهُدَاهُ وَسَعَادَتُهُ، وَهَذِهِ الْحَالُ الَّتِي تَحْصُلُ لِقَلْبِهِ لَا تَنَالُ الْعِبَارَةُ حَقِيقَتَهَا، وَإِنَّمَا تُدْرَكُ بِالْحُصُولِ، فَيَحْصُلُ لِقَلْبِهِ كَسْرَةٌ خَاصَّةٌ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ، بِحَيْثُ يَرَى نَفْسَهُ كَالْإِنَاءِ الْمَرْضُوضِ تَحْتَ الْأَرْجُلِ، الَّذِي لَا شَيْءَ فِيهِ، وَلَا بِهِ وَلَا مِنْهُ، وَلَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَلَا يُرْغَبُ فِي مِثْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ إِلَّا بِجَبْرٍ جَدِيدٍ مِنْ صَانِعِهِ وَقَيِّمِهِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَكْثِرُ
فِي هَذَا الْمَشْهَدِ مَا مِنْ رَبِّهِ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَلِيلًا مِنْهُ وَلَا كَثِيرًا، فَأَيُّ خَيْرٍ لَهُ مِنَ اللَّهِ اسْتَكْثَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ قَدْرَهُ دُونَهُ، وَأَنَّ رَحْمَةَ رَبِّهِ هِيَ الَّتِي اقْتَضَتْ ذِكْرَهُ بِهِ، وَسِيَاقَتَهُ إِلَيْهِ، وَاسْتَقَلَّ مَا مِنْ نَفْسِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ لِرَبِّهِ، وَرَآهَا وَلَوْ سَاوَتْ طَاعَاتِ الثَّقَلَيْنِ مِنْ أَقَلِّ مَا يَنْبَغِي لِرَبِّهِ عَلَيْهِ، وَاسْتَكْثَرَ قَلِيلَ مَعَاصِيهِ وَذُنُوبِهِ، فَإِنَّ الْكَسْرَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لِقَلْبِهِ أَوْجَبَتْ لَهُ هَذَا كُلَّهُ.
فَمَا أَقْرَبَ الْجَبْرَ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ الْمَكْسُورِ! وَمَا أَدْنَى النَّصْرَ وَالرَّحْمَةَ وَالرِّزْقَ مِنْهُ! وَمَا أَنْفَعَ هَذَا الْمَشْهَدَ لَهُ وَأَجْدَاهُ عَلَيْهِ! وَذَرَّةٌ مِنْ هَذَا وَنَفَسٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ طَاعَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ مِنَ الْمُدِلِّينَ الْمُعْجَبِينَ بِأَعْمَالِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَأَحَبُّ الْقُلُوبِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ قَلْبٌ قَدْ تَمَكَّنَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْكَسْرَةُ، وَمَلَكَتْهُ هَذِهِ الذِّلَّةُ، فَهُوَ نَاكِسُ الرَّأْسِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَيْهِ حَيَاءً وَخَجَلًا مِنَ اللَّهِ.
قِيلَ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ: أَيَسْجُدُ الْقَلْبُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَسْجُدُ سَجْدَةً لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْهَا إِلَى يَوْمِ اللِّقَاءِ، فَهَذَا سُجُودُ الْقَلْبِ.
فَقَلْبٌ لَا تُبَاشِرُهُ هَذِهِ الْكَسْرَةُ هُوَ غَيْرُ سَاجِدٍ السُّجُودَ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَإِذَا سَجَدَ الْقَلْبُ لِلَّهِ هَذِهِ السَّجْدَةَ الْعُظْمَى سَجَدَتْ مَعَهُ جَمِيعُ الْجَوَارِحِ، وَعَنَا الْوَجْهُ حِينَئِذٍ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، وَخَشَعَ الصَّوْتُ وَالْجَوَارِحُ كُلُّهَا، وَذَلَّ الْعَبْدُ وَخَضَعَ وَاسْتَكَانَ، وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى عَتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ، نَاظِرًا بِقَلْبِهِ إِلَى رَبِّهِ وَوَلِيِّهِ نَظَرَ الذَّلِيلِ إِلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، فَلَا يُرَى إِلَّا مُتَمَلِّقًا لِرَبِّهِ، خَاضِعًا لَهُ، ذَلِيلًا مُسْتَعْطِفًا لَهُ، يَسْأَلُهُ عَطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ، فَهُوَ يَتَرَضَّى رَبَّهُ كَمَا يَتَرَضَّى الْمُحِبُّ الْكَامِلُ الْمَحَبَّةِ مَحْبُوبَهُ الْمَالِكَ لَهُ، الَّذِي لَا غِنَى لَهُ عَنْهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ هَمٌّ غِيْرَ اسْتِرْضَائِهِ وَاسْتِعْطَافِهِ، لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لَهُ وَلَا فَلَاحَ إِلَّا فِي قُرْبِهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ، وَمَحَبَّتِهِ لَهُ، يَقُولُ: كَيْفَ أُغْضِبُ مَنْ حَيَاتِي فِي رِضَاهُ؟ وَكَيْفَ أَعْدِلُ عَمَّنْ سَعَادَتِي وَفَلَاحِي وَفَوْزِي فِي قُرْبِهِ وَحُبِّهِ وَذِكْرِهِ؟
وَصَاحِبُ هَذَا الْمَشْهَدِ يَشْهَدُ نَفْسَهُ كَرَجُلٍ كَانَ فِي كَنَفِ أَبِيهِ يَغْذُوهُ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ، وَيُرَبِّيهِ أَحْسَنَ التَّرْبِيَةِ، وَيُرَقِّيهِ عَلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ أَتَمَّ تَرْقِيَةٍ، وَهُوَ الْقَيِّمُ بِمَصَالِحِهِ كُلِّهَا، فَبَعَثَهُ أَبُوهُ فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ فِي طَرِيقِهِ عَدُوٌّ، فَأَسَرَهُ وَكَتَّفَهُ وَشَدَّهُ وَثَاقًا، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى بِلَادِ الْأَعْدَاءِ فَسَامَهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَعَامَلَهُ بِضِدِّ مَا كَانَ أَبُوهُ يُعَامِلُهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَذَكَّرُ تَرْبِيَةَ وَالِدِهِ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، فَتَهِيجُ مِنْ قَلْبِهِ لَوَاعِجُ الْحَسَرَاتِ كُلَّمَا رَأَى حَالَهُ، وَيَتَذَكَّرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَكُلَّ مَا كَانَ فِيهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي أَسْرِ عَدُوِّهِ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَيُرِيدُ نَحْرَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، إِذْ حَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ إِلَى نَحْوِ دِيَارِ أَبِيهِ، فَرَأَى أَبَاهُ مِنْهُ قَرِيبًا، فَسَعَى إِلَيْهِ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَانْطَرَحَ بَيْنَ يَدَيْهِ، يَسْتَغِيثُ