الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نَوْعٌ يَنْفِي مُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ، وَيَقُولُونَ: لَا مُبَايِنَ وَلَا مُحَايِثَ، وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ، وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ، وَلَا فِيهِ وَلَا بَائِنَ عَنْهُ.
فَتَضَمَّنَتِ الْفَاتِحَةُ الرَّدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِلْعَالَمِ، فَإِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ الْمَحْضَةَ تَقْتَضِي مُبَايَنَةَ الرَّبِّ لِلْعَالَمِ بِالذَّاتِ، كَمَا بَايَنَهُمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَبِالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، فَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ رَبًّا مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ، فَمَا أَثْبَتَ رَبًّا، فَإِنَّهُ إِذَا نَفَى الْمُبَايَنَةَ لَزِمَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ، لُزُومًا لَا انْفِكَاكَ لَهُ عَنْهُ الْبَتَّةَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ نَفْسَ هَذَا الْعَالَمِ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُهُ، فَإِنَّ الْعَالَمَ لَا يُبَايِنُ ذَاتَهُ وَنَفْسَهُ، وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ أَهْلُ الْوَحْدَةِ، وَكَانُوا مُعَطِّلَةً أَوَّلًا، وَاتِّحَادِيَّةً ثَانِيًا.
وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: مَا ثَمَّ رَبٌّ يَكُونُ مُبَايِنًا وَلَا مُحَايِثًا، وَلَا دَاخِلًا وَلَا خَارِجًا، كَمَا قَالَتْهُ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ لِلصَّانِعِ.
وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمْعِ النَّقِيضَيْنِ: إِثْبَاتِ رَبٍّ مُغَايِرٍ لِلْعَالَمِ مَعَ نَفْيِ مُبَايَنَتِهِ لِلْعَالَمِ، وَإِثْبَاتِ خَالِقٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ، لَا فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ الْعَالَمِ، وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا تَحْتَهُ، وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ، وَلَا يَمْنَتَهُ وَلَا يَسْرَتَهُ فَقَوْلٌ لَهُ خَبِيءٌ، وَالْعُقُولُ لَا تَتَصَوَّرُهُ حَتَّى تُصَدِّقَ بِهِ، فَإِذَا اسْتَحَالَ فِي الْعَقْلِ تَصَوُّرُهُ، فَاسْتِحَالَةُ التَّصْدِيقِ بِهِ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ، وَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ، وَالنَّفْيِ الصِّرْفِ، وَصِدْقُهُ عَلَيْهِ أَظْهَرُ عِنْدَ الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْ صِدْقِهِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَضَعْ هَذَا النَّفْيَ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ عَلَى الْعَدَمِ الْمُسْتَحِيلِ، ثُمَّ ضَعْهَا عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا، الَّتِي لَمْ تَحِلَّ فِي الْعَالَمِ، وَلَا حَلَّ الْعَالَمُ فِيهَا، ثُمَّ انْظُرْ أَيَّ الْمَعْلُومِينَ أَوْلَى بِهِ؟
وَاسْتَيْقِظْ لِنَفْسِكَ، وَقُمْ لِلَّهِ قَوْمَةَ مُفَكِّرٍ فِي نَفْسِهِ فِي الْخَلْوَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، مُتَجَرِّدٍ عَنِ الْمَقَالَاتِ وَأَرْبَابِهَا، وَعَنِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ، صَادِقًا فِي طَلَبِ الْهِدَايَةِ مِنَ اللَّهِ، فَالَلَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُخَيِّبَ عَبْدًا هَذَا شَأْنُهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ إِثْبَاتِ رَبٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ، مُبَايِنٍ لِخَلْقِهِ، بَلْ هَذَا نَفْسُ تَرْجَمَتِهَا.
[فَصْلٌ الْمُثْبِتُونَ لِلْخَالِقِ تَعَالَى]
فَصْلٌ
ثُمَّ الْمُثْبِتُونَ لِلْخَالِقِ تَعَالَى نَوْعَانِ:
أَهْلُ تَوْحِيدٍ، وَأَهْلُ إِشْرَاكٍ، وَأَهْلُ الْإِشْرَاكِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَهْلُ الْإِشْرَاكِ بِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، كَالْمَجُوسِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مَعَ اللَّهِ خَالِقًا آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا: إِنَّهُ مُكَافِئٌ لَهُ، وَالْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ تُثْبِتُ مَعَ اللَّهِ خَالِقِينَ لِلْأَفْعَالِ، لَيْسَتْ أَفْعَالُهُمْ مَقْدُورَةً لِلَّهِ، وَلَا مَخْلُوقَةً لَهُمْ، وَهِيَ صَادِرَةٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا هُوَ الَّذِي جَعَلَ أَرْبَابَهَا فَاعِلِينَ لَهَا، بَلْ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ شَائِينَ مُرِيدِينَ فَاعِلِينَ.
فَرُبُوبِيَّةُ الْعَالَمِ الْكَامِلَةُ الْمُطْلَقَةُ الشَّامِلَةُ تُبْطِلُ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي رُبُوبِيَّتَهُ لِجَمِيعِ مَا فِيهِ مِنَ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَفْعَالِ.
وَحَقِيقَةُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ رَبًّا لِأَفْعَالِ الْحَيَوَانِ، وَلَا تَنَاوَلَتْهَا رُبُوبِيَّتُهُ، وَكَيْفَ تَتَنَاوَلُ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ؟ مَعَ أَنَّ فِي عُمُومِ حَمْدِهِ مَا يَقْتَضِي حَمْدَهُ عَلَى طَاعَاتِ خَلْقِهُ، إِذْ هُوَ الْمُعِينُ عَلَيْهَا وَالْمُوَفِّقُ لَهَا، وَهُوَ الَّذِي شَاءَهَا مِنْهُمْ كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] فَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى أَنْ شَاءَهَا لَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ فَاعِلِيهَا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَحْمُودُونَ عَلَيْهَا، وَلَهُمُ الْحَمْدُ عَلَى فِعْلِهَا، وَلَيْسَ لِلَّهِ حَمْدٌ عَلَى نَفْسِ فَاعِلِيَّتِهَا عِنْدَهُمْ، وَلَا عَلَى ثَوَابِهِ وَجَزَائِهِ عَلَيْهَا.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ فَاعِلِيَّتَهَا بِهِمْ لَا بِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ الْجَزَاءَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَهُوَ مَحْضُ حَقِّهِمْ، الَّذِي عَاوَضُوهُ عَلَيْهِ.