الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا جَعْلُهُ فَوْقَ مَقَامِ الْفَرَاسَةِ فَقَدِ احْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْفَرَاسَةَ رُبَّمَا وَقَعَتْ نَادِرَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ، وَرُبَّمَا اسْتَعْصَتْ عَلَى صَاحِبِهَا وَاسْتُصْعِبَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ تُطَاوِعْهُ، وَالْإِلْهَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مَقَامٍ عَتِيدٍ، يَعْنِي فِي مَقَامِ الْقُرْبِ وَالْحُضُورِ.
وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ " الْفِرَاسَةِ " وَ " الْإِلْهَامِ " يَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ، وَخَاصُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوْقَ عَامِّ الْآخَرِ، وَعَامُّ كُلِّ وَاحِدٍ قَدْ يَقَعُ كَثِيرًا، وَخَاصُّهُ قَدْ يَقَعُ نَادِرًا، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ الصَّحِيحَ أَنَّ الْفِرَاسَةَ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِنَوْعِ كَسْبٍ وَتَحْصِيلٍ، وَأَمَّا الْإِلْهَامُ فَمَوْهِبَةٌ مُجَرَّدَةٌ، لَا تُنَالُ بِكَسْبٍ الْبَتَّةَ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْإِلْهَامِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى نَبَأٌ يَقَعُ وَحْيًا قَاطِعًا مَقْرُونًا بِسَمَاعٍ]
فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْإِلْهَامِ
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ:
الدَّرَجَةُ الْأُولَى: نَبَأٌ يَقَعُ وَحْيًا قَاطِعًا مَقْرُونًا بِسَمَاعٍ، إِذْ مُطْلَقُ النَّبَأِ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ، فَلَيْسَ كُلُّ خَبَرٍ نَبَأً، وَهُوَ نَبَأُ خَبَرٍ عَنْ غَيْبٍ مُعَظَّمٍ.
وَيُرِيدُ بِالْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ: الْإِعْلَامَ الَّذِي يَقْطَعُ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ بِمُوجَبِهِ، إِمَّا بِوَاسِطَةِ سَمْعٍ، أَوْ هُوَ الْإِعْلَامُ بِلَا وَاسِطَةٍ.
قُلْتُ: أَمَّا حُصُولُهُ بِوَاسِطَةِ سَمْعٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ إلْهَامًا، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْخِطَابِ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ الَّذِي خُصَّ بِهِ مُوسَى، إِذْ كَانَ الْمُخَاطِبُ هُوَ الْحَقَّ عز وجل.
وَأَمَّا مَا يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنْ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ مِنْ سَمَاعٍ فَهُوَ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ لَا رَابِعَ لَهَا، أَعْلَاهَا: أَنْ يُخَاطِبَهُ الْمَلَكُ خِطَابًا جُزْئِيًّا، فَإِنَّ هَذَا يَقَعُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُخَاطِبُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ بِالسَّلَامِ، فَلَمَّا اكْتَوَى تَرَكَتْ خِطَابَهُ، فَلَمَّا تَرَكَ الْكَيَّ عَادَ إِلَيْهِ خِطَابٌ مَلَكِيٌّ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: خِطَابٌ يَسْمَعُهُ بِأُذُنِهِ، وَهُوَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالثَّانِي: خِطَابٌ يُلْقَى فِي قَلْبِهِ يُخَاطِبُ بِهِ الْمَلَكُ رُوحَهُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «إِنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ، وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ الْمَلَكِ: إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالْوَعْدِ،
وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْوَعْدِ» ثُمَّ قَرَأَ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268] وَقَالَ تَعَالَى {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا: قَوُّوا قُلُوبَهُمْ، وَبَشَّرُوهُمْ بِالنَّصْرِ، وَقِيلَ: احْضُرُوا مَعَهُمُ الْقِتَالَ، وَالْقَوْلَانِ حَقٌّ، فَإِنَّهُمْ حَضَرُوا مَعَهُمُ الْقِتَالَ، وَثَبَّتُوا قُلُوبَهُمْ.
وَمِنْ هَذَا الْخِطَابِ وَاعِظُ اللَّهِ عز وجل فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَمَسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى كَنَفَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ، لَهُمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ، وَدَاعٍ يَدْعُو فَوْقَ الصِّرَاطِ، فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَلَا يَقَعُ أَحَدٌ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ حَتَّى يَكْشِفَ السِّتْرَ، وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» فَهَذَا الْوَاعِظُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْإِلْهَامُ الْإِلَهِيُّ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ.
وَأَمَّا وُقُوعُهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ بَعْدُ، وَالْجَزْمُ فِيهِ بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ: النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْخِطَابِ الْمَسْمُوعِ: خِطَابُ الْهَوَاتِفِ مِنَ الْجَانِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُخَاطِبُ جِنِّيًّا مُؤْمِنًا صَالِحًا، وَقَدْ يَكُونُ شَيْطَانًا، وَهَذَا أَيْضًا نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَاطِبَهُ خِطَابًا يَسْمَعُهُ بِأُذُنِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ عِنْدَمَا يُلِمُّ بِهِ، وَمِنْهُ وَعْدُهُ وَتَمْنِيَتُهُ حِينَ يَعِدُ الْإِنْسِيَّ وَيُمَنِّيهِ، وَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120] وَقَالَ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] وَلِلْقَلْبِ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ نَصِيبٌ، وَلِلْأُذُنِ أَيْضًا مِنْهُ نَصِيبٌ، وَالْعِصْمَةُ مُنْتَفِيَةٌ إِلَّا عَنِ الرُّسُلِ، وَمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ.
فَمِنْ أَيْنَ لِلْمُخَاطَبِ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ رَحِمَانِيٌّ، أَوْ مَلَكِيٌّ؟ بِأَيِّ بُرْهَانٍ؟ أَوْ بِأَيِّ دَلِيلٍ؟ وَالشَّيْطَانُ يَقْذِفُ فِي النَّفْسِ وَحْيَهُ، وَيُلْقِي فِي السَّمْعِ خِطَابَهُ، فَيَقُولُ الْمَغْرُورُ الْمَخْدُوعُ: قِيلَ لِي وَخُوطِبْتُ، صَدَقْتَ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْقَائِلِ لَكَ وَالْمُخَاطِبِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمَّا طَلَّقَ نِسَاءَهُ، وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ: إِنِّي لَأَظُنُّ الشَّيْطَانَ فِيمَا يَسْتَرِقُ مِنَ السَّمْعِ سَمِعَ بِمَوْتِكَ، فَقَذَفَهُ فِي نَفْسِكَ. فَمَنْ يَأْمَنُ الْقُرَّاءَ بَعْدَكَ يَا شَهْرُ؟ .
فَصْلٌ: النَّوْعُ الثَّالِثُ: خِطَابٌ حَالِيٌّ، تَكُونُ بِدَايَتُهُ مِنَ النَّفْسِ، وَعَوْدُهُ إِلَيْهَا، فَيَتَوَهَّمُهُ مِنْ خَارِجٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَفْسِهِ، مِنْهَا بَدَأَ وَإِلَيْهَا يَعُودُ.
وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِلسَّالِكِ، فَيَغْلَطُ فِيهِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ، كَلَّمَهُ بِهِ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَسَبَبُ غَلَطِهِ أَنَّ اللَّطِيفَةَ الْمُدْرِكَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِذَا صَفَتْ بِالرِّيَاضَةِ، وَانْقَطَعَتْ عُلَقُهَا عَنِ الشَّوَاغِلِ الْكَثِيفَةِ صَارَ الْحَكَمُ لَهَا بِحُكْمِ اسْتِيلَاءِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ عَلَى الْبَدَنِ، وَمَصِيرُ الْحُكْمِ لَهُمَا، فَتَنْصَرِفُ عِنَايَةُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ إِلَى تَجْرِيدِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِهِمَا، وَتَشْتَدُّ عِنَايَةُ الرُّوحِ بِهَا، وَتَصِيرُ فِي مَحَلِّ تِلْكَ الْعَلَائِقِ وَالشَّوَاغِلِ، فَتَمْلَأُ الْقَلْبَ، فَتَنْصَرِفُ تِلْكَ الْمَعَانِي إِلَى الْمَنْطِقِ وَالْخِطَابِ الْقَلْبِيِّ الرُّوحِيِّ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَيَتَّفِقُ تَجَرُّدُ الرُّوحِ، فَتُشَكَّلُ تِلْكَ الْمَعَانِي لِلْقُوَّةِ السَّامِعَةِ بِشَكْلِ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ، وَلِلْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ بِشَكْلِ الْأَشْخَاصِ الْمَرْئِيَّةِ، فَيَرَى صُوَرَهَا، وَيَسْمَعُ الْخِطَابَ، وَكُلُّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ رَأَى وَسَمِعَ، وَصَدَّقَ، لَكِنْ رَأَى وَسَمِعَ فِي الْخَارِجِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ؟