الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَا أَبَتَاهُ، يَا أَبَتَاهُ، يَا أَبَتَاهُ! انْظُرْ إِلَى وَلَدِكَ وَمَا هُوَ فِيهِ، وَدُمُوعُهُ تَسْتَبِقُ عَلَى خَدَّيْهِ، قَدِ اعْتَنَقَهُ وَالْتَزَمَهُ، وَعَدُوُّهُ فِي طَلَبِهِ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِوَالِدِهِ مُمْسِكٌ بِهِ، فَهَلْ تَقُولُ: إِنَّ وَالِدَهُ يُسْلِمُهُ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ إِلَى عَدُوِّهِ، وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؟ فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ هُوَ أَرْحَمُ بِعَبْدِهِ مِنَ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، وَمِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا إِذَا فَرَّ عَبْدٌ إِلَيْهِ، وَهَرَبَ مِنْ عَدُوِّهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى بِنَفْسِهِ طَرِيحًا بِبَابِهِ، يُمَرِّغُ خَدَّهُ فِي ثَرَى أَعْتَابِهِ بَاكِيًا بَيْنَ يَدَيْهِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، ارْحَمْ مَنْ لَا رَاحِمَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا نَاصِرَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا مُؤْوِيَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا مُغِيثَ لَهُ سِوَاكَ. مِسْكِينُكَ وَفَقِيرُكَ، وَسَائِلُكَ وَمُؤَمِّلُكَ وَمُرَجِّيكَ، لَا مَلْجَأَ لَهُ وَلَا مَنْجَى لَهُ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، أَنْتَ مَعَاذُهُ وَبِكَ مَلَاذُهُ.
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ
…
وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أَحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ
…
وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ
[فَصْلٌ الْمَشْهَدِ الثَّالِثَ عَشَرَ مَشْهَدُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ وَالِابْتِهَاجِ بِهِ]
فَصْلٌ
فَإِذَا اسْتَبْصَرَ فِي هَذَا الْمَشْهَدِ، وَتَمَكَّنَ مِنْ قَلْبِهِ، وَبَاشَرَهُ وَذَاقَ طَعْمَهُ وَحَلَاوَتَهُ تَرَقَّى مِنْهُ إِلَى:
الْمَشْهَدِ الثَّالِثَ عَشَرَ
وَهُوَ الْغَايَةُ الَّتِي شَمَّرَ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ، وَأَمَّهَا الْقَاصِدُونَ، وَلَحَظَ إِلَيْهَا الْعَامِلُونَ.
وَهُوَ مَشْهَدُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، وَالِابْتِهَاجِ بِهِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِهِ، فَتَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ، وَيَسْكُنُ إِلَيْهِ قَلْبُهُ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ جَوَارِحُهُ وَيَسْتَوْلِي ذِكْرُهُ عَلَى لِسَانِ مُحِبِّهِ وَقَلْبِهِ، فَتَصِيرُ خَطَرَاتُ الْمَحَبَّةِ مَكَانَ خَطَرَاتِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِرَادَاتُ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَإِلَى مَرْضَاتِهِ مَكَانَ إِرَادَةِ مَعَاصِيهِ وَمَسَاخِطِهِ، وَحَرَكَاتُ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ بِالطَّاعَاتِ مَكَانَ حَرَكَاتِهَا بِالْمَعَاصِي، قَدِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ، وَلَهَجَ لِسَانُهُ بِذِكْرِهِ، وَانْقَادَتِ الْجَوَارِحُ لِطَاعَتِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكَسْرَةَ الْخَاصَّةَ لَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي الْمَحَبَّةِ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ.
وَيُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ، أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَبْوَابِ الطَّاعَاتِ كُلِّهَا، فَمَا دَخَلْتُ مِنْ بَابٍ إِلَّا رَأَيْتُ عَلَيْهِ الزِّحَامَ، فَلَمْ أَتَمَكَّنْ مِنَ الدُّخُولِ، حَتَّى جِئْتُ بَابَ الذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ، فَإِذَا هُوَ أَقْرَبُ بَابٍ إِلَيْهِ وَأَوْسَعُهُ، وَلَا مُزَاحِمَ فِيهِ وَلَا مُعَوِّقَ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَضَعْتُ قَدَمِي فِي عَتَبَتِهِ، فَإِذَا هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخَذَ بِيَدِي وَأَدْخَلَنِي عَلَيْهِ.
وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رضي الله عنه يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ، فَلْيَلْزَمْ عَتَبَةَ الْعُبُودِيَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَا طَرِيقَ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا حِجَابَ أَغْلَظُ مِنَ الدَّعْوَى، وَلَا يَنْفَعُ مَعَ الْإِعْجَابِ وَالْكِبْرِ عَمَلٌ وَاجْتِهَادٌ، وَلَا يَضُرُّ مَعَ الذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ بَطَالَةٌ، يَعْنِي بَعْدَ فِعْلِ الْفَرَائِضِ.
وَالْقَصْدُ: أَنَّ هَذِهِ الذِّلَّةَ وَالْكَسْرَةَ الْخَاصَّةَ تُدْخِلُهُ عَلَى اللَّهِ، وَتَرْمِيهِ عَلَى طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ، فَيُفْتَحُ لَهُ مِنْهَا بَابٌ لَا يُفْتَحُ لَهُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَتْ طُرُقُ سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالطَّاعَاتِ تَفْتَحُ لِلْعَبْدِ أَبْوَابًا مِنَ الْمَحَبَّةِ، لَكِنَّ الَّذِي يَفْتَحُ مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ وَالِافْتِقَارِ وَازْدِرَاءِ النَّفْسِ، وَرُؤْيَتِهَا بِعَيْنِ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ وَالْعَيْبِ وَالنَّقْصِ وَالذَّمِّ، بِحَيْثُ يُشَاهِدُهَا ضَيْعَةً وَعَجْزًا، وَتَفْرِيطًا وَذَنْبًا وَخَطِيئَةً، نَوْعٌ آخَرُ وَفَتْحٌ آخَرُ، وَالسَّالِكُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ غَرِيبٌ فِي النَّاسِ، وَهُمْ فِي وَادٍ وَهُوَ فِي وَادٍ، وَهِيَ تُسَمَّى طَرِيقَ الطَّيْرِ، يَسْبِقُ النَّائِمُ فِيهَا عَلَى فِرَاشِهِ السُّعَاةَ، فَيُصْبِحُ وَقَدْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، وَسَبَقَ الرَّكْبَ. بَيْنَا هُوَ يُحَدِّثُكَ، إِذَا بِهِ قَدْ سَبَقَ الطَّرْفَ وَفَاتَ السُّعَاةَ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَهُوَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ.
وَهَذَا الَّذِي حَصَلَ لَهُ مِنْ آثَارِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ، وَفَرَحِهِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِمْ أَعْظَمَ فَرَحٍ وَأَكْمَلَهُ.
فَكُلَّمَا طَالَعَ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الذَّنْبِ، وَفِي حَالِ مُوَاقَعَتِهِ، وَبَعْدَهُ، بِرَّهُ بِهِ وَحِلْمَهُ عَنْهُ، وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِ هَاجَتْ مِنْ قَلْبِهِ لَوَاعِجُ مَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَأَيُّ إِحْسَانٍ أَعْظَمُ مِنْ إِحْسَانِ مَنْ يُبَارِزُهُ الْعَبْدُ بِالْمَعَاصِي، وَهُوَ يَمُدُّهُ بِنِعَمِهِ، وَيُعَامِلُهُ بِأَلْطَافِهِ، وَيُسْبِلُ عَلَيْهِ سِتْرَهُ، وَيَحْفَظُهُ مِنْ خَطْفَاتِ أَعْدَائِهِ الْمُتَرَقِّبِينَ لَهُ أَدْنَى عَثْرَةٍ يَنَالُونَ مِنْهُ بِهَا بُغْيَتَهُمْ، وَيَرُدُّهُمْ عَنْهُ، وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ؟ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِعَيْنِهِ، يَرَاهُ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ، فَالسَّمَاءُ تَسْتَأْذِنُ رَبَّهَا أَنْ تَحْصِبَهُ، وَالْأَرْضُ تَسْتَأْذِنُهُ أَنْ تَخْسِفَ بِهِ، وَالْبَحْرُ يَسْتَأْذِنُهُ أَنْ يُغْرِقَهُ، كَمَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يَسْتَأْذِنُ رَبَّهُ أَنْ يُغْرِقَ ابْنَ آدَمَ، وَالْمَلَائِكَةُ تَسْتَأْذِنُهُ أَنْ تُعَاجِلَهُ وَتُهْلِكَهُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يَقُولُ: دَعُوا عَبْدِي، فَأَنَا أَعْلَمُ بِهِ، إِذْ أَنْشَأْتُهُ مِنَ الْأَرْضِ، إِنْ كَانَ عَبْدَكُمْ فَشَأْنُكُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدِي فَمِنِّي وَإِلَيَّ، عَبْدِي وَعِزَّتِي وَجَلَالِي إِنْ أَتَانِي لَيْلًا قَبِلْتُهُ، وَإِنْ أَتَانِي نَهَارًا قَبِلْتُهُ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ مَشَى إِلَيَّ هَرْوَلْتُ إِلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ، وَإِنِ اسْتَقَالَنِي أَقَلْتُهُ، وَإِنْ تَابَ إِلَيَّ تُبْتُ عَلَيْهِ، مَنْ أَعْظَمَ مِنِّي جُودًا وَكَرَمًا، وَأَنَا الْجَوَادُ الْكَرِيمُ؟ عَبِيدِي يَبِيتُونَ يُبَارِزُونَنِي بِالْعَظَائِمِ، وَأَنَا أَكْلَؤُهُمْ فِي مَضَاجِعِهِمْ، وَأَحْرُسُهُمْ عَلَى فُرُشِهِمْ، مَنْ أَقْبَلَ إِلَيَّ تَلَقَّيْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَمَنْ تَرَكَ لِأَجْلِي أَعْطَيْتُهُ فَوْقَ الْمَزِيدِ، وَمَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِي وَقُوَّتِي أَلَنْتُ لَهُ الْحَدِيدَ، وَمَنْ أَرَادَ مُرَادِي أَرَدْتُ مَا يُرِيدُ، أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ
مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُقْنِطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي، إِنْ تَابُوا إِلَيَّ فَأَنَا حَبِيبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ، أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ، لِأُطَهِّرَهَمْ مِنَ الْمَعَايِبِ» .
وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ ذِكْرِ التَّوْبَةِ وَأَحْكَامِهَا وَثَمَرَاتِهَا، فَإِنَّهُ مَا أُطِيلَ الْكَلَامُ فِيهَا إِلَّا لِفَرْطِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا، وَتَفَاصِيلِهَا وَمَسَائِلِهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِمُرَاعَاةِ ذَلِكَ، وَالْقِيَامِ بِهِ عَمَلًا وَحَالًا، كَمَا وَفَّقَ لَهُ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، فَمَا خَابَ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَلَاذَ بِهِ وَلَجَأَ إِلَيْهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.